الإخوان المسلمين

صدرت في السنوات القليلة الماضية عدة دراسات تناولت جماعة الإخوان المسلمين، وخاضت في نشأتها وتاريخها وتركيبتها وأدوارها والأزمات التي عصفت بها، وذلك نظراً إلى دورها في تصدّر المشهد السياسي بعد اندلاع الثورات العربية، ووصول محمد مرسي، بوصفه أحد أعضائها، إلى رئاسة مصر في انتخابات ديمقراطية، والذي أودع السجن بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الرئيس الحالي، عبد الفتاح السياسي، وتعرّضت بعده الجماعة لحملات اعتقال وملاحقة، طاولت عديدين من قادتها وكوادرها، فيما تمكّن بعضهم من الخروج من مصر، ثم اعتبر النظام المصري الجماعة منظّمة إرهابية، كما اعتبرتها كذلك كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة.

وفي هذا السياق، يأتي كتاب “الأواصر الممزّقة: الأزمة الوجودية للإخوان المسلمين في مصر 2013 – 2022″، وهو ثمرة جهد جماعي، شارك في تأليفه كل من عبد الرحمن عيّاش، وعمرو عفيفي، ونهى عزّت، وترجمه حسن حسني (مؤسسة القرن، نيويورك، 2023)، كي يسهم في إلقاء الضوء على تاريخ الجماعة وتركيبها وتغيراتها وأزماتها، من خلال تناول جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفق رؤية تمزج بين المنظور الداخلي لها، ومنهج تحليل علمي ونقدي، حيث إن عبد الرحمن عيّاش كان عضواً سابقاً في الجماعة، وكتب عن تجربته خلال فترة نشاطه فيها، إضافة إلى أن المؤلفين الآخرين ليسا بعيدين عنها، وتأثّرا بما حملته التغيرات السياسية والاجتماعية التي حدثت في مصر منذ ثورة يناير/ كانون الثاني عام 2011.

يضع الكتاب حركة الإخوان المسلمين ضمن سياق اجتماعي وسياسي، بدءاً من لحظة التأسيس على يد حسن البنا عام 1928، وما أصابها من تغيّرات وأزمات خلال فترات حكم كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، وصولاً إلى ما بعد أحداث عام 2013، وانتهاء بالتحوّلات والصراعات التي شهدتها حتى تاريخ صدور هذا الكتاب في نهاية العام الماضي (2023). ويعتمد على مقابلات شخصية أُجريت مع أعضاء حاليين وسابقين في جماعة الإخوان المسلمين عن تجاربهم في الجماعة، ونظرتهم إلى ما جرى بعد الثورة المصرية، وتجاربهم في بلدان الشتات والمنفى، إضافة إلى اعتماده على مذكّرات مكتوبة ومسجّلة، ووثائق تنظيمية ودراسات ومؤلفات سابقة تناولت الجماعة.

الجماعة تعاملت مع مستجدّات ما بعد الثورة بتكتيكاتٍ يومية تحمل روح حقبة ما قبلها

يبدأ الكتاب بنبذة تاريخية عن الإخوان المسلمين المصريين، حيث نشأت كحركة دينية لم تفصح عن مواقف سياسية واضحة لها حتى المؤتمر الخامس عام 1939، حين أعلن البنّا أن الجماعة “دعوة سلفية، وطريقة سنّية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية”، وأنها “ترى نظام الحكم الدستوري أقرب نظم الحكم القائمة في العالم إلى الإسلام”، وأن “الإخوان” لا يفكرون في القوة، ولا يعتمدون عليها، وأنهم لن يستخدموا العنف أو “القوة أبداً ضد مواطنيهم أو ضد الحكومات القائمة”. وقد دفع هذا الغموض في المواقف الأساسية لجماعة الإخوان المسلمين قياداتها إلى الانقسام حول استخدام القوة ضد النظام في لحظات سياسية مختلفة من تاريخ التنظيم. وترك البنّا خلفه إرشادات عامة فقط، ولم يترك تعليماتٍ مفصلة، الأمر الذي جعل “الإخوان” يعانون من أزمات بنيوية كبرى. فيما كشفت الأحداث التي تلت ثورة يناير 2011 “أن الجماعة ما هي سوى تنظيم من كوادر نخبوية، مرتبطة بوسطها الاجتماعي أكثر من ارتباطها بمشروع سياسي أو أيديولوجي”.

يحدّد الكتاب ثلاث أزمات لجماعة الإخوان المسلمين: أزمة هوية، وأزمة شرعية، وأزمة عضوية. وهي متجذّرة في النصوص التأسيسية للجماعة، وفي تصوّرات قادتها وممارساتهم، لكنها لم تظهر بهذا الوضوح إلا مع تفكك سطوة التنظيم على أعضائه وغياب قادته الأقوياء. واللافت أن الكتاب يتناول أزمة الهوية في سياق الإجابة عن أسباب فشل الإخوان المسلمين في السلطة، التي يجدها في أن الجماعة تعاملت مع مستجدّات ما بعد الثورة بتكتيكاتٍ يومية تحمل روح حقبة ما قبلها، وفشلت في تمكينها من طرح مشروع سياسي مقنع أو التواصل بفعالية مع المجال العام الحيوي ومتعدّد الأوجه بعد عام 2011، أو تشكيل جبهة وطنية صلبة لتعزيز موقفها التفاوضي مع العسكر.

يحدّد الكتاب ثلاث أزمات لجماعة الإخوان المسلمين: أزمة هوية، وأزمة شرعية، وأزمة عضوية. وهي متجذّرة في النصوص التأسيسية للجماعة، وفي تصوّرات قادتها وممارساتهم

يرجع مؤلفو الكتاب جذور أزمة الهوية إلى ردود فعل التنظيم التكتيكية على الضغوط الاستبدادية والتنافسية، التي ساعدته على البقاء، خصوصاً في ظل حكم حسني مبارك، لكنها قلّلت من قدرته على التعامل مع المشهد السياسي بعد الثورة المصرية عام 2011، وأثرت جملة من العناصر الاجتماعية والسياسية وسوابقها التاريخية في تصوّر التنظيم لنفسه ودوره، وتجلى ذلك في أزمة الهوية التي نتجت أيضاً من النمو غير المتكافئ للجماعة، إذ كلما أغلقت الدولة المصرية باباً، رأى “الإخوان” في المنظمات الأخرى في المجتمع نافذة، كالجامعات والنقابات وسواهما. أما أزمة الشرعية، فقد نتجت من موجات القمع والاعتقال التي تعرّض لها “الإخوان”، وبالقدر نفسه من قدرة التنظيم على التكيف. في المقابل، استندت شرعية قيادات الإخوان المسلمين إلى عدة عوامل، منها السنّ، وقدم الانتساب، وطول مدّة السجن، والنجاح في الانتخابات الداخلية، والمشاركة في إحياء التنظيم. وقد تجسّدت أزمة العضوية في عدم قدرة التنظيم على تربية جيل من الأعضاء بالطريقة نفسها التي كان يتبعها مع الأجيال السابقة، وفي مرور الأعضاء أنفسهم بسلسلة من الأزمات المتداخلة والمستمرّة خلال تاريخ “الإخوان”، كذلك إن أزمة العضوية ما هي إلا نتيجة لأزمتي الهوية والشرعية، خصوصاً أن جماعة الإخوان المسلمين اعتراها التناقض، بوصفها منظمة لديها آليات التمثيل، لكنها تبني شرعيتها على أقلّ الوسائل تمثيلية، وأضحت منظمة لا تقودها أنظمة داخلية، بل سلطة أبوية، وإن وجدت اللوائح والنظم فهي مندمجة في السلطة الأبوية البطريركية، المتداخلة بالشرعيات التاريخية. إضافة إلى أن مؤلفي الكتاب يشيرون إلى تنافس الشرعيات وتنازعها بين قيادات الجماعة في فترات عديدة، لكنهم يأتون على ذكر تحولاتها المستندة إلى المظلومية التاريخية والتضحية من قياداتها التي تقبع في السجون، والتي تُجاورها أجيال جديدة على خلاف مع تلك القيادات.

عقلية الحصن يمكنها تفسير لجوء الجماعة إلى العنف بعد 2013، بالنظر إلى غياب الالتفاف الجماهيري حول مشروعها

غير أن الإشكالية تجسّدت في أن الأدوات التي طوّرتها الجماعة في وقت ما للحفاظ على نفسها كمنظمة، نمت لتصبح الأدوات نفسها التي أدّت إلى الانقسامات والانفصال، بالنظر إلى أن تطوير تلك الأدوات جرى في ظل نوع ومستوى معينين من المخاطر الأمنية. ولكنها، في ظل ديناميكيات متجددة لعنف الدولة، لم تتمكّن وأعضاءَها من التأقلم. كذلك كشفت سلسلة الأحداث من ثورة يناير 2011، والانقسامات الإدارية الداخلية لجماعة الإخوان المسلمين في المنفى في عام 2022، عن وجود تنظيم لكوادر عديدين من النخبة مندمجين في الوسط الاجتماعي أكثر من كونه مشروعاً سياسياً أو أيديولوجياً، وبالتالي، جرت عملية تسييس الإخوان من دون امتلاك مشروع سياسي وطني لحكم مصر.

من بين المصطلحات والمفاهيم التي يقدّمها مؤلفو الكتاب لفهم تصرفات الإخوان وممارساتهم، مفهوم “الحصن”، أو بالأحرى عقلية الحصن التي تتمحور حول انسحاب التنظيم تكتيكياً إلى حصنه من أجل البقاء، وقد سمحت هذه العقلية للجماعة بترسيخ وجودها بوصفها تنظيماً اجتماعياً طوال فترة مواجهتها سلطات الدولة المصرية، وأجبرتها على ترك هويتها التأسيسية كحزب سياسي، حيث شهد تنظيم الإخوان المسلمين عمليات إعادة توزيع للقيادة داخله بخطى متثاقلة، بغية ضمان بقائه طوال الفترات التي سبقت الثورة المصرية، إضافة إلى أن سعيها لحفاظ على حصنها لم يفقد الجماعة هويتها وحسب، بل فقدت قدرتها على أن تكون لاعباً سياسياً، ينافس على السلطة في مركز المجال السياسي. وأفضى ذلك إلى فقدانها القدرة على لعب دور سياسي على المستوى الوطني بعد عام 2011، الأمر الذي عنى اغتراب جماعة الإخوان ورفضها الدولة الوطنية، وعجزها عن لعب دور سياسي وطني بعد ثورة يناير. والأمر عائد إلى خطاب الإخوان الذي لبس لباساً دينياً وليس سياسياً، واتسم بالأخلاقوية، وبتغليب لغة الاحتجاج على اجتراح سياسات بديلة، وجعل الجماعة ذات مواقف إسلاموية “متعرجة باستمرار بين المواقف الراديكالية لإرضاء قاعدتها الشعبوية على الهامش، والأفكار الإصلاحية الأكثر اعتدالاً لاحتواء الوسط”. ولعل عقلية الحصن يمكنها تفسير لجوء الجماعة إلى العنف بعد 2013، بالنظر إلى غياب الالتفاف الجماهيري حول مشروعها، ذلك أن هذه العقلية، التي تشكل عقيدة لدى قادة الجماعة، حولت التنظيم إلى غاية أو هدف في حد ذاته، وبالتالي فإن المهم بالنسبة إليهم بقاؤه على قيد الحياة.

ما يُؤخذ على الكتاب أنه يحاول تصوير تاريخ مصر وكأنه صراع دائم بين جماعة الإخوان المسلمين والحكم العسكري، مع تهميش تام لجميع الأحزاب والتيارات الأخرى

بعد مرور عقد على إطاحة الرئيس محمد مرسي، لا تزال جماعة الإخوان المسلمين تعاني من التمزّق والضياع، وباتت تائهة بين طريق مسدود في السياسة المصرية وأزمات معقّدة داخل صفوفها، فقد ترك عديدون من أعضائها التنظيم لأسبابٍ متنوعة، حيث يقول بعضهم إن جماعة الإخوان المسلمين “ليست إخوانية بما فيه الكفاية”، بينما فقد آخرون الثقة بقيادتها، وتركها بعضهم لأنهم أكثر أيديولوجية من الإخوان المسلمين، فيما وجد آخرون أن الجماعة مفرطة في الأيديولوجيا. وظهرت الأزمة بشكل واضح على تحرّكات التنظيم وتصرّفاته منذ عام 2013، الأمر الذي يهدّد بقاء الجماعة وفعاليتها، بوصفه التهديد الأكبر في تاريخها، الذي يمتد إلى أكثر من 90 عاماً، في ظل فشل عملية إعادة تشكيلها، لكن مؤلفي الكتاب يرون أن لدى تنظيم الجماعة القدرة على التكيّف، وبالتالي، من السابق لأوانه كتابة نعي للحركة، على الرغم من أن أغلب أعضائها الفاعلين يقبعون في السجون المصرية أو يعيشون في تركيا وفي دول الخليج والسودان، وبريطانيا وأماكن أخرى من بلدان المنفى والشتات.

ما يُؤخذ على الكتاب أنه يحاول تصوير تاريخ مصر وكأنه صراع دائم بين جماعة الإخوان المسلمين والحكم العسكري، مع تهميش تام لجميع الأحزاب والتيارات الأخرى، ومحاولة إخفاء واضحة لأي رابط سياسي أو مالي بين الجماعة والقوى الإقليمية، مع العلم أنها تلقّت دعماً من بعض الدول العربية، وكانت لديها علاقات واتصالات مع قوى إقليمية استغلتها واستنفدتها لأجنداتها الخاصة. واللافت إرجاع ازدهار التنظيم في سبعينيات القرن الماضي إلى ما سمّي “انفتاح المجال السياسي”، وليس إلى الرئيس أنور السادات الذي استخدم الجماعة وسائر الجماعات الإسلامية الأخرى من أجل ضرب قوى اليسار. كذلك فإنّ مؤلفي الكتاب لم يلتفتوا إلى العلاقة بين الأزمات الثلاث، وكيفية تفاعلها وتداعياتها على سلوك الإخم إطار تفسيري جامع، الأمر الذي أظهر غياب منهج التناول لديهم، والارتباك في تناول مسألة تبنّي الجماعة العنف بعد عام 2013، تحت مسمّى “فقه المقاومة الشعبية للانقلاب”. إضاوان المسلمين حيال الأزمات التي عصفت بها، فيما تناولوا كل أزمةٍ وحدها، من دون تقديفة إلى أن المؤلفين أبدوا انحيازاً لبعض مرشدي الجماعة، وانتقدوا مواقف آخرين.