اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذهاب إلى الخيارات القصوى لحسم نزاعه مع إيران. لم يصغِ إلى عشرات الرسائل التي وردته من دول صديقة في المنطقة تنصح بعدم تدخّل الولايات المتّحدة في الصراع. ولم يهتزّ لما قيل إنّه انقسام داخل الطبقة السياسية في واشنطن وحتّى داخل إدارته وتيّار MAGA بشأن انخراط البلاد في صراع مباشر “لمصلحة إسرائيل”. بدا أنّ في المشهد شيئاً من التمويه والإيحاءات المزيّفة في خدمة قرار قد اتُّخذ في واشنطن منذ أسابيع بـ”فرض السلام من خلال القوّة”.
يراهن ترامب على سابقة عام 2020. في بداية ذلك العام أشرف الرئيس الأميركي من غرفة عمليّات خاصّة على قيام مسيّرات أميركية باستهداف موكب لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، كان يخرج من مطار بغداد. قُتل الرجل وقُتل معه 9 أشخاص آخرين من بينهم نائب قائد قوّات الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس.
جرى هذا الحدث الجلل بعد عامين من انسحاب ترامب من اتّفاق فيينا النووي المبرم مع إيران في عهد الرئيس باراك أوباما. وبدا أنّ الرئيس الأميركي خطا خطوة دراماتيكية استفزازيّة كبرى باغتيال شخصيّة أساسيّة داخل منظومة الحكم السياسية والعسكرية والأمنيّة المشرفة على تمدّد وهج الجمهورية الإسلامية ورعاية أذرعها وتصدير ثورتها.
اشتُهرت إيران وبرعت خلال العقود الأخيرة بانتهاجها ما بات مدرسة تُعرف بـ “حافة الهاوية”
المرشد المربَك
قُتل سليماني في 3 كانون الثاني 2020 فردّت إيران في 8 من الشهر نفسه بإطلاق 12 صاروخاً (وليس أكثر) على قاعدتَي عين الأسد وإربيل في العراق حيث توجد قوّات أميركية. تحدّثت طهران حينها عن عشرات القتلى في صفوف الأميركيين. تحدّثت واشنطن بالمقابل عن سقوط جرحى من دون إصابات مميتة. في تشرين الثاني 2023 استعاد ترامب الحدث وكشف أنّ الإيرانيين اتّصلوا به بعد مقتل قاسم سليماني، وطلبوا أن يطلقوا صواريخ على إحدى القواعد الأميركية العسكرية في المنطقة لحفظ ماء الوجه أمام الرأي العامّ.
بغضّ النظر عن صحّة هذه الرواية، لا شكّ أنّ ترامب ينهل من تلك الذاكرة ويؤسّس عليها قراره الجديد. ويبدو أنّ في الفعل بعد حدوثه منطقاً وسياقاً أميركيَّين (لا ترامبيَّين فقط) للتعامل مع برنامج إيران النووي. اعتقدت طهران أنّ انتهاء ولاية ترامب الأولى عام 2021 وتولّي الديمقراطي جو بايدن دفّة الرئاسة في واشنطن سيقودان إلى وفاء الرئيس الجديد بوعده بالعودة إلى الاتّفاق بأمر تنفيذي كما خرج منه ترامب بأمر تنفيذي. بدا بعد ذلك أنّ “الدولة العميقة” التي أملت على ترامب الإطاحة باتّفاق أوباما، منعت بايدن أن يعيد إنعاشه. والأرجح أنّها وراء قرار تدمير المنشآت النووية عبر القوّة الخشنة وإغلاق باب الدبلوماسية بأنماطها القديمة.
اشتُهرت إيران وبرعت خلال العقود الأخيرة بانتهاجها ما بات مدرسة تُعرف بـ “حافة الهاوية”. ومن أبجديّات تلك المدرسة ملازمة الحافة والتراجع عنها حين يبدو الانزلاق نحو الهاوية مرجّحاً. لم تفعل إيران ذلك هذه المرّة. لم تحسن قراءة المشهد الأميركي والدولي بدقّة. بدا اتّخاذ القرار مربَكاً تعوزه الفطنة والجرأة والرشاقة. قيل أنّ إيران باتت مرتهنة للمرشد المتقدّم في السنّ الذي لم يُحسن استنتاج ما تغيّر في هذا العالم منذ “طوفان” 7 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023، وما تغيّر في ترامب نفسه منذ أن حملته صناديق الاقتراع رئيساً بأغلبيّة شعبية وازنة لم يحظَ بها في ولايته الأولى.
يتوعّد ترامب طهران بحرب كبرى إذا ما ردّت، لكنّه لن يمانع، كما حصل بعد مقتل سليماني، ترتيب هذا الردّ، كما زعم سابقاً، لطيّ صفحة الحدث وفتح صفحات أخرى
ترتيبات لحفظ ماء الوجه؟
علّمتنا تجربة الأسابيع الأخيرة أن لا نخاطر في تحليلات بناء على معطيات تهدف أساساً إلى الإيحاء باتّجاهات متناقضة. كان ترامب واضحاً في ذهابه إلى “الصدام” الكبير منذ أن استفاق العالم على موقف جديد في واشنطن يختلف عن موقف مرن كان عبّر عنه ستيف ويتكوف مبعوث ترامب إلى المفاوضات. ويتكوف بشّر طهران بالسماح بتخصيب اليورانيوم بمستويات اتّفاق فيينا (3.67 في المئة)، ثمّ أعلن لاحقا أنّه لن يحقّ لها التخصيب ولو بنسبة 1 في المئة، ووضع ترامب التخصيب الصفريّ هدفاً نهائيّاً لا رجعة عنه، وهذا ما يستدرج حتماً قصف فوردو ونطنز وأصفهان.
سننتظر ردّ إيران. لكنّنا لا يمكن إلّا أن نلاحظ أنّ الردّ العسكري الأوّل على “فعلة” ترامب كان ضدّ إسرائيل، علماً أنّ الضربة الأميركية لم تكن مفاجئة بل متوقّعة، وتكاد تجري على الهواء مباشرة منذ إعلان انطلاق مقاتلات الـ B2 الاستراتيجية باتّجاه المنطقة. ويمكن ملاحظة تمسّك طهران بالتصرّف تصرُّف دولة يتحرّك برلمانها وتصدر عن وزارة خارجيّتها مواقف الحكومة التي بقيت تحت سقف مقبول في الحديث عن القانون الدولي واتّفاق الحدّ من الأسلحة النووية وغير ذلك.
إقرأ أيضاً: في وجه الحرب… صوتنا للسلام
دخلت المنطقة مرحلة جديدة من الصراع قد تكون خطيرة. وقد يفتح الحدث أبواباً دبلوماسيّةً صعبةً تنهي الحرب بترتيبات وقواعد جديدة تساهم في إعدادها عواصم أوروبا والمنطقة. يتوعّد ترامب طهران بحرب كبرى إذا ما ردّت، لكنّه لن يمانع، كما حصل بعد مقتل سليماني، ترتيب هذا الردّ، كما زعم سابقاً، لطيّ صفحة الحدث وفتح صفحات أخرى.