تُطرح اللامركزية اليوم في سوريا كخيار مثير للجدل لنظام الحكم، في ظل التحولات السياسية والاجتماعية التي أعقبت سنوات الحرب، إذ يرى البعض فيها فرصة لبناء دولة متوازنة تعزز مشاركة المجتمعات المحلية في إدارة شؤونها، من خلال توزيع الصلاحيات والموارد بعدالة. في المقابل، يخشى آخرون من أن تؤدي اللامركزية، في غياب توافق وطني وثقة بين المكونات، إلى تعزيز الانقسامات الجغرافية والسياسية، وربما فتح الباب أمام مشاريع تهدد وحدة البلاد. وبين هذه الآمال والمخاوف، يبقى السؤال قائماً: هل تصلح اللامركزية فعلاً كنظام حكم قابل للتطبيق في السياق السوري؟
نص دستوري
يؤكد المحامي والناشط السياسي زيد العظم، المقيم في فرنسا، لـ”963+” أن تبني نظام لامركزي فعال يتطلب بالدرجة الأولى وجود نص دستوري واضح يحدد شكل الدولة والعلاقة بين المركز والمناطق، ويرسم بدقة صلاحيات كل طرف. فبدون هذا الأساس، تبقى أي محاولة لتطبيق اللامركزية مجرد إجراءات إدارية سطحية.
ويضيف أن القوانين التشريعية يجب أن تستكمل هذا الإطار الدستوري، من خلال إصدار قانون للإدارة المحلية يوضح صلاحيات المجالس المحلية المنتخبة، وقانون للموارد المالية يحدد كيفية توزيع الثروات بين المركز والمناطق، وقوانين تضمن تمثيلا سياسيا عادلا يراعي التنوع المجتمعي.
ويوضح العظم أن اللامركزية يمكن أن تكون صالحة وفعالة في سوريا، شريطة أن تعتمد كخيار وطني جامع يوازن بين الحفاظ على وحدة الدولة ومنح أبناء المناطق القدرة على إدارة شؤونهم.
لكن العقبات أمام هذا التحول الجوهري عديدة. فالإرث البعثي الذي عمق المركزية المطلقة وألغى أي استقلالية للمحافظات لا يزال حاضرا في العقلية السياسية وفي بنية الدولة.
كما أن بعض الأطراف، بسبب الجهل أو التوجس، ترى في اللامركزية خطرا على وحدة سوريا، وتخلط بينها وبين التقسيم. وفوق ذلك، فإن السلطات الانتقالية الحالية لا تبدو أنها تملك تصوراً واضحاً حول شكل الدولة المستقبلية، أو أنها مستعدة لقطع الصلة تماما مع نموذج الدولة الأمنية المركزية الذي كرسه نظام الأسد لعقود، بحسب العظم.
وفي العاشر من حزيران /يونيو الفائت، صرح مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديموقراطية، أن تشكيل “الوفد الكردي الموحد” الذي سيتفاوض مع الحكومة السورية، يأتي ضمن اتفاق مع الرئيس السوري أحمد الشرع، ويهدف إلى تثبيت حقوق الشعب الكردي دستوريا في إطار سوريا موحدة.
ما هو المراد باللامركزية؟
من جانبه، يؤكد الكاتب السوري حسن النيفي والمقيم في فرنسا على ضرورة التمييز بين طرحين للنظام اللامركزي، فإذا كان المراد هو اللامركزية الإدارية، فإن هذا الامر لا يستدعي المزيد من التشريعات الدستورية لأن المسالة ذات صلة بتوسيع هامش الصلاحيات الإدارية التي تتيح للقوى المحلية إدارة شؤونها الخدمية والحياتية بما يتلاءم مع واقعها من جهة، وكذلك يتيح لها استثمار جانباً من مواردها لخدمة مشاريعها الإنمائية من جهة أخرى.
أما إن كان المقصود بالطرح هو اللامركزية السياسية، فهذا يستدعي، بحسب النيفي “أولاً تشريعاً دستورياً يتم الاستفتاء عليه من جانب الشعب، كما يستدعي توافقاً وطنياً يتمثّل بوثيقة وطنية جامعة”.
ويشير النيفي لـ”963+” أن مفهوم اللامركزية ( السياسية ) لاقى رواجاً في بعض الأوساط السياسية السورية، وخاصة منذ العام 2016 ، أي بعد التدخل الروسي العسكري في سوريا وتغيّر موازين القوى العسكرية لصالح نظام الأسد، إذ اعتقد الكثيرون أن مسالة سقوط النظام أصبحت مستبعدة، و في ظل وجود حكومات امر واقع متعددة داخل الجغرافيا السورية فإن الحل لن يكون إلا بشرعنة هذا التقاسم الجغرافي بين السلطات القائمة آنذاك ( النظام – إدلب – قسد – مناطق الجيش الوطني )، وهذا الطرح يتوافق مع مفهوم ( الفدرالية) الذي يدعو إليه البعض.
أما بعد سقوط الأسد فلا يعتقد النيفي “أن مشروع اللامركزية يمكن أن يكون عاملاً معززاً لتعافي سوريا، وذلك لسببين اثنين، يتجلى الأول حول الناظم الأساسي للمشروع، أهو على أساس التوزيع العرقي للسكان أم الديني أم الجغرافي؟ ذلك أن الحالة السورية لا تتوفر فيها مساحات جغرافية محافظات أو أقاليم ذات صبغة عرقية أو دينية واحدة، بل هناك تداخل سكاني ديني وقومي يصعب تجاوزه”.
ويتمثل العامل الثاني بأن “سوريا غير قابلة للتقسيم من جهة الاقتصاد والموارد الاقتصادية النفط – الطاقة – الزراعة – المرافق التجارية إذ لا يمكن لأي محافظة الاستغناء عن المحافظات الأخرى والاعتماد على ذاتها، فنجاح سوريا وقدرتها على النهوض يكمن بوحدتها، وهذا ليس شعاراً سياسياً، بل واقع تمليه ضرورات اقتصادية وحياتية أخرى”، بحسب النيفي