بعد أيام على انضمام الولايات المتحدة رسمياً إلى الحرب من بوابة قصف المنشآت النووية الايرانية، جاء الرد الايراني صاخباً، محسوباً، ومدروساً… صواريخ فوق قاعدة العديد الأميركية في قطر، في أول استهداف مباشر للقوات الأميركية في الخليج منذ اندلاع المعركة. لم تُسجَّل إصابات، لكن الرسالة كانت واضحة وموجَّهة إلى من يعنيه الأمر، ولن يبقى السؤال هل تقبل واشنطن بـ “التعادل” أم ترد على الرد؟ وعندها تُفتح أبواب التصعيد؟
العملية، التي أطلقت عليها طهران اسم “بشائر الفتح”، شكّلت إعلاناً صريحاً عن بدء مرحلة جديدة من الحرب، عنوانها: “التكافؤ في الرد”. فإذا كانت الولايات المتحدة قد أمطرت فوردو ونطنز وأصفهان بقنابل خارقة للتحصينات، فإن إيران ردّت “بعدد الصواريخ نفسها” على قاعدة العديد، وفقاً لما أعلنه مجلس الأمن القومي الايراني. الرسالة الايرانية كانت حاسمة: لا خطوط حمر في الرد، وقواعد أميركا في مرمى النيران طالما أن منشآتنا الاستراتيجية تُستهدَف.
لكن هذا الردّ الايراني قد يحمل نتائج عكسية، إذ إن دول الخليج، التي كانت تتخذ موقفاً رافضاً للحرب وتدعو للعودة إلى طاولة المفاوضات، وجدت نفسها مضطرة الى اتخاذ مواقف منددة بعد الضربة، وهو ما يُعيد خلط الأوراق الاقليمية.
ما جرى خلف الكواليس في الدوحة أظهر بوضوح أن الهجوم لم يكن ارتجالياً. مع الساعات الأولى من صباح الضربة، دوّت صافرات الإنذار في قاعدة العديد، ورفعت حالة التأهب إلى أقصى درجاتها. وأكدت مصادر قطرية لوسائل الاعلام صدور أوامر فورية بإخلاء القاعدة: نُقل الضباط من الرتب العليا إلى فنادق داخل المدينة، وطُلب من بقية العناصر التزام منازلهم. اللافت أكثر أن الطائرات الأميركية كانت قد أُبعدت قبل أيام إلى مواقع آمنة، ما يعزز الانطباع بأن الضربة كانت متوقعة… وربما معروفة سلفاً.
وما يعمّق هذا الانطباع، ما أوردته مصادر ديبلوماسية في الدوحة عن وجود “تفاهم غير معلن” بين طهران والسلطات القطرية، يهدف إلى تفادي وقوع إصابات بشرية أو إحراج مباشر للدولة المضيفة. الصواريخ الايرانية حلّقت بدقة متناهية، واستهدفت مواقع محددة داخل القاعدة من دون أن تمسّ منشآت قطرية، فيما شدد البيان الايراني الرسمي على أن “العملية لا تمثل تهديداً للدولة الصديقة والشقيقة قطر”.
في هذا السياق، برزت مشاهد غير معتادة في شوارع الدوحة: المدينة خلت تقريباً من المارة لساعات، أُغلقت الجامعات الأميركية، وتلقّى طلاب “تكساسA&M ” تعليمات بالبقاء في منازلهم. حتى المنتدى الدولي لمكافحة الارهاب، الذي كان مقرّراً انعقاده في 24 حزيران، أُجّل بصمت، وسط استنفار غير معلن شمل مؤسسات الدولة.
وعلى الرغم من حرص إيران على تطمين الجانب القطري، لم تقف الدوحة موقف المتفرّج. فقد أدانت الهجوم بشدة، واعتبرته “انتهاكاً صارخاً للسيادة الوطنية”، فيما أعلنت وزارة الدفاع القطرية أن منظوماتها الدفاعية نجحت في اعتراض الهجوم الصاروخي. وبين الإدانة العلنية والسعي الى احتواء الموقف، بدت قطر وكأنها تسير على خيط رفيع بين التزاماتها الأمنية مع واشنطن وحساباتها الدقيقة مع طهران.
في واشنطن، جاء رد الفعل محسوباً بدوره. سارع الرئيس دونالد ترامب إلى طمأنة الداخل الأميركي بأن المواقع الايرانية المستهدفة قد “دُمّرت بالكامل”، وأن الهجوم الايراني على قاعدة العديد لم يُسفر عن إصابات. لكن مجرد وجوده في غرفة العمليات إلى جانب وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان خلال الهجوم، يؤكد أن الادارة الأميركية تعاملت مع التطور بجدية عالية، على الرغم من محاولاتها التخفيف من وقعه إعلامياً.
إقليمياً، خلّف الهجوم أصداء واسعة. البحرين والكويت سارعتا إلى إغلاق مجالهما الجوي، بينما توالت الإدانات الخليجية، أبرزها من السعودية التي وصفت الضربة بـ”العدوان غير المبرر”، والامارات التي دانتها “بأشد العبارات”. أما فرنسا، فحذّرت من خطر “اشتعال الوضع” في الخليج، في ظل تداخل النيران بين طهران وتل أبيب، وتورّط واشنطن المباشر في المعركة.
في موازاة ذلك، كثّفت إسرائيل ضرباتها على طهران، مستهدفة مقرات أمنية وسجن إيفين، في ما وصفه وزير الدفاع يسرائيل كاتس بـ”ضرب الركائز الأمنية للنظام الايراني من الداخل”. التصعيد الاسرائيلي لم يقتصر على البنى العسكرية أو النووية، بل طال رموز السلطة الأمنية. أما إيران، فواصلت الرد بالصواريخ والمسيّرات، في تأكيد مستمر أن المعركة لم تُغلق بعد، وأن “الرد المحسوب” لا يعني نهاية اللعبة.
وفي خضم هذا التصعيد، عاد الحديث عن احتمال إغلاق إيران مضيق هرمز، على الرغم من أن الأسواق لم تُبدِ قلقاً كبيراً، ما يعكس شكوكاً بشأن استعداد طهران لتنفيذ هذا الخيار عالي الكلفة. في المقابل، تبدو إيران وكأنها تستثمر في لحظة الرد المحدود لفرض وقائع جديدة: نحن قادرون على ضربكم… ولسنا متهورين كي نفتح أبواب الجحيم.
في المحصلة، يقف الخليج أمام معادلة شديدة التعقيد: أميركا قصفت، إيران ردّت، وقطر وجدت نفسها فجأة في قلب المواجهة من دون أن تكون طرفاً فيها. فهل تكون “بشائر الفتح” مجرّد رسالة محسوبة؟ أم بداية تصدّع حقيقي في بنية الاصطفاف الاقليمي التقليدي؟
الزمن وحده كفيل بالإجابة… ما لم تسبقها الضربة التالية.
إشترك