شنّت الولايات المتحدة ضربةً جوّيةً مركّزةً على منشآت نووية إيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان. المشهد لم يكن جديداً في جوهره، بل حلقة مُكرّرة من سلسلة امتدّت منذ دكّ هانوي، مروراً بكابول فبغداد، ثمّ طرابلس، حيث تتقدّم القاذفات وتنسحب القيم، القنابل المستخدمة هذه المرّة، المصمّمة لاختراق أعمق التحصينات، ارتطمت بجدران معنى الإمبراطورية أكثر ممّا اخترقت الخرسانة؛ إذ لم يكن ما جرى فعلاً مُؤسِّساً، بل استدعاءً آلياً لقوةٍ فقدت قدرتها على الإقناع، واستعراضاً أجوفَ لِهيبةٍ منهكة. في ظاهر الحدث ضخامة تقنية، لكن خلفه ظلّ تكرار ثقيل لا يخلو من خيبة. بدا الأمر كأنّ العالم يُدار من غرفة عملياتٍ تُشغّل نفسها تلقائياً، بلا هدف جديد، بلا سردية، بلا ضرورة حقيقية. ما يُروّج له ضربةً استراتيجيةً كان في عمقه حركةً متأخّرةً ضمن نصّ انتهى. وكما كتب ابن خلدون، حين تتوهّم الإمبراطوريات أنها بلغت الذروة، تبدأ لحظة ارتعاشها الأخيرة. “المقاومة ومحورها” بدورها، التي أثارت يوماً تضامناً عابراً للحدود، بدت خاوية من الداخل. المشروع الإيراني، المتمدّد تحت راية التحرير، انكشف شبكةَ سلطاتٍ طائفية تتغذّى من هشاشة الآخرين. تورّط حزب الله في الحرب السورية لم يوسّع فكرة المقاومة، بل اختزلها في منطق السيطرة الطائفية، ففقد ما كان يمنحه الجاذبية الأخلاقية. تحوّلت الممانعة تكراراً قمعياً لنظام انقطع عن الناس. حين جاء القصف، كانت شرعية إيران الرمزية قد تآكلت، وفقدت القدرة على استدعاء أيّ تضامن.
في الخلفية تقف ثلاث خرائط دامية: العراق وسورية ولبنان. مناطق أُنهكت في صراعاتٍ لم تُصمَّم لناسها، وتوزّعت بين نفوذ خارجي يكشّر طمعاً وسلطات داخلية مُتعثّرة تحاول البدء من جديد. في هذه الأرض المتآكلة، لا أحد ينتظر مشروعاً للتحرّر، إنما مساحةً لالتقاط الأنفاس. الناس هناك لا يطلبون سوى أن يعيدوا بناء منازلهم، أن يؤسّسوا مدارس لا تخاف القصف، ومستشفيات لا تتبعها صواريخ الطائرات. أن يعيشوا، لا بطموح إسقاط إمبراطوريات، بل بتوق النجاة من بقاياها، بعيداً من الطغاة وتجّار الشعارات. وما يحدث في غزّة لا يمكن فصله عن هذا المشهد. هناك تتكثّف المعادلة بأشدّ صورها فظاعة. تتحوّل المعاناة البشرية بنودَ عمليات، ويُمنح القتل تفويضاً استراتيجياً مفتوحاً. إسرائيل، بصفتها الحارس الأمامي لترتيب عالمي يتهاوى، تمارس الإبادة تحت أعين راعية لا تخفي دعمها. الولايات المتحدة، وقد فقدت الأفق، ترى في دم الأطفال الفلسطينيين ثمناً ضرورياً لإبطاء التشظّي. ما يجري في غزّة ليس شذوذاً، إنما ذروة منطقٍ يفقد معناه، ويستبدل المستقبل بجثث، والمشاريع بالمجازر.
ربّما نرى الآن الفصول الأخيرة من سردية الإمبراطورية وقد أنهكها تكرار ذاتها. فكرة المركز الذي يُملي على الأطراف، والعقل الكليّ الذي يُدير العالم من قاعة عمليات، بدأت تتشظّى أشلاءً من خطاب وأجهزة وأطلال رموز. الإمبراطورية، التي تأسّست على ادّعاء المعنى، تفقد اليوم قدرتها على الإقناع. وباتت تتكلّم لغة منتهية الصلاحية. تتفكّك مقولاتها كما تتفكّك عضلات كائن يحتضر: الردع، السيادة، الهيبة، حتى فكرة العدو، تتحوّل بنىً خاويةً لا تصمد أمام ثقل الواقع. في هذا الزمن الرمادي، حيث لا إمبراطورية تنهض ولا منظومة تنهار دفعة واحدة، يبقى الأمل أن تمضي هذه المرحلة بانحلالها البطيء من دون أن تبتلع ما تبقّى من هشيمنا. أن تمرّ العاصفة ونحن نحتمي لا في الخنادق، بل في المعاني التي نصوغها معاً من اللغة، من الخبز، من ظلّ الشجرة التي لم تُقصف بعد. لعلّ ما بعد الإمبراطوريات لا يكون فجراً، لكنّه قد يكون هدنةً نُعيد فيها اختراع الحكاية، من دون سادة ولا أوصياء. في لحظات كهذه، لا نملك ترف النبوءة ولا رفاهية الإنكار، فقط هذا الوعي الحادّ بأننا نعيش في تخوم نهاية لم نكتبها، وبدايات لا نعرف لغتها بعد. العالم كما نعرفه يتفسّخ بهدوء مروّع، ونحن، أبناء الشقوق، لا نحلم بتغيير التاريخ، بل بأن ننجو من صخبه من دون أن نفقد قدرتنا على رواية ما جرى، لا ضحاياً، بل ناجين يُصرّون على أن يكون لهم صوت، ولو في الهامش.
google newsتابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News