بعد عشرة أيام من الحرب الإسرائيلية الإيرانية، دخلت أميركا مباشرة على الخطّ، وشنّت الطائرات الحربية الأكثر تطوّراً في العالم، والمتخصّصة باستهداف التحصينات العميقة تحت الأرض، عملياتٍ نوعيةً ضدّ المنشآت النووية الإيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان، بعد تخدير طهران بعروض الحوار معها، وانتظار نتائج حوارها مع اللجنة الثلاثية الأوروبية، وذلك كلّه على قاعدتي: من غير المسموح لإيران امتلاك السلاح النووي وممنوع تخصيب اليورانيوم. كان الردّ الإيراني: مستعدّون للتوصّل إلى تفاهم حول المشروع النووي السلمي، ولا نريد تصنيع سلاح نووي عسكري لكنّ القول “صفر تخصيب اليورانيوم” مستحيل. ضربت أميركا، فرحت إسرائيل. فُتحت المنطقة على احتمالات كثيرة، لا أحد يمكن أن يتوقّع مداها وانعكاساتها وحدودها في أكثر من مكان واتجاه.
نتنياهو، الأكثر فرحاً وارتياحاً بما جرى، أكّد في أكثر من تصريح: “قلنا إننا سنغيّر الشرق الأوسط ونحن الآن نغيّر العالم”. وأطلق تهديداتٍ بقتل المرشد الأعلى علي خامنئي: “لا أحد فوق رأسه خيمة. كلّ الخيارات مفتوحة… عندما أقيمت دولة إسرائيل واجهت عالماً عربياً موحّداً، لكنّها تمكّنت من تفكيك وحدته وتقسيم الصفّ العربي”.
الحرب بين إسرائيل وإيران مستمرّة، ولا يمكن أن تتراجع إيران خصوصاً إذا لم يصب مشروعها بأذىً كبير
هذه المواقف مترابطة. فعلها ترامب وضرب ضربته. لكن ليس ثمّة معلومات مؤكّدة (وحاسمة) عن إصابة المفاعلات النووية في جوهرها. المؤشّرات من الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومن الكويت، الجارة الأقرب، تؤكّد عدم تسرّب إشعاعات نووية، بما يفسّر أنه لا توجد أسلحة نووية، أو أن المواد النووية المشعّة قد نقلت قبل الضربة، ولا سيّما أن مواقع تواصل كثيرة نقلت صور شاحنات ضخمة كانت تنقل مواد من مفاعل فوردو. وذهب بعضهم إلى حدّ القول إن الضربة “مسرحية، وإيران كانت على علم بها، وهرّبت المواد المُستهدَفة”.
في كلّ الحالات، الحدث استثنائي، فتح الباب أمام مرحلة صعبة. الحرب بين إسرائيل وإيران مستمرّة، ولا يمكن أن تتراجع إيران خصوصاً إذا لم يصب مشروعها بأذىً كبير، وإسرائيل ستبقى مصرّة على استنفار ومحاولة استدراج الجميع ضدّها، آخذين بالاعتبار أن الضربة الأميركية جاءت بعد اتهام رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رفائيل غروسي، إيران بالعمل على تطوير برنامجها النووي، ثمّ تراجع وقال “ليس ثمّة أدلة على ذلك”، وجواب الإيرانيين: “تأخّرت يا سيد غروسي”. وبعد أن قالت المسؤولة في الاستخبارات الأميركية، تولسي غابارد، إنه ليس ثمّة “تأكيدات على تورّط إيران في إنتاج سلاح نووي”، عزلها ترامب وجمّد عملها. ويذكّر هذا كلّه بما جرى في الحرب الأميركية على العراق، التي بنيت على أساس وجود أسلحة دمار شامل، ودُمّر العراق، حتى خرج وزير الخارجية الأميركي (رئيس أركان الجيش الأميركي سابقاً)، كولن باول بتصريحه: “لقد ضلَّلتني المخابرات الأميركية”. لكن ما حصل كان قد حصل، ولا نزال نعيش تداعياته. هذه هي أميركا، قوة عظمى، تضرب، تدمّر، تقتل، تحتلّ، وليس ثمّة من يحاسبها. واليوم تشعر أنها أقوى من الماضي، بعد سلسلة الحروب على غزّة ولبنان واليمن والتغيير في سورية. أمّا مسألة التهديد باغتيال خامنئي، وحديث نتنياهو عن تغيير العالم، فأول المنتقدين لهما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يخشى قتل خامنئي وإسقاط النظام بالقوة، فيصبح التهديد على باب روسيا، ويختلّ التوازن لمصلحة أميركا وحلفائها، وكثيرون يريدون استهداف وحدة الاتحاد الروسي والعمل في تفكيكه. ما يجري يستهدف الصين أيضاً، وتركيا بالتأكيد في منطقتنا. ويشعل المنطقة كلّها، من دون أن ننسى موقف السيستاني، المرجع الشيعي المهم المتميّز من سلطة ولاية الفقيه، الذي رفض استهداف المرجعيات الدينية الكبرى مثل خامنئي.
إذا استمرّ الوضع على ما هو عليه فهذا يعني الذهاب إلى الفوضى الدولية الكُبرى، وهي حلم نتنياهو، وإذا أراد ترامب تجنّب الحروب الكبرى، وذهب إلى منطق التسوية، فإنه يريد الحلّ بين إيران وإسرائيل، مثل ما يفعله بين روسيا وأوكرانيا على طريقته: “لا بدّ من اتفاق، لكن أحياناً للوصول إليه يجب أن تقاتل”. هنا يقوم بواجبه مع نتنياهو؛ أعطى دفعاً ودعماً لإسرائيل. لكن لا بدّ من اتفاق فتقاتلوا لمرحلة ثمّ نرى. المشكلة أبعد وأعمق، والحرب ستكون طويلة، والمخاطر كبيرة تحيط بكلّ المنطقة، والعرب غير موجودين في المعادلة. يعيشون حالة قلق ورعب. وسموتريتش طالبهم بـ”دفع تكاليف الحرب التي تشنّها إسرائيل وتخلّصهم في النهاية من إيران”.
نرى في مجريات الحرب مشهداً خطيراً في إيران. إيران كلّها في كلّ محافظاتها، سيطرة شبه تامّة للطيران الحربي الإسرائيلي بالتعاون مع الأميركيين. استهداف كلّ المواقع المحدّدة في بنك الأهداف. وفي الأرض اختراقات لا تصدّق. جواسيس وعملاء في كلّ مكان، ومصانع للمسيّرات في قلب طهران وعدة مدن. ومن ثم، اغتيال قادة عسكريين وأمنيين والعلماء في منازلهم، تماماً كما حصل مع حزب الله في لبنان. كيف؟ ولماذا؟ وأين إيران التي كانوا يتحدّثون عنها؟… أسئلة تطرح الآن، وستكون لها نتائجها لاحقاً، مع ملاحظة أن الشعب الإيراني موحّد الآن ضدّ الضربات الإسرائيلية.
استمرار الحرب بين إسرائيل وإيران على هذا المنوال سيؤدّي إلى دمار عامّ، وليس ثمّة (حتى الآن) أيّ أمل بوقفها
لكن ذلك لا يستمرّ بمرور الوقت، إذا خرجت إيران من هذه الحرب باتفاق شبيه بالاتفاق العراقي الإيراني عام 1988، الذي وضع حدّاً للحرب بعد ثماني سنوات، وقال الراحل، الإمام الخميني، يومها: “لقد تجرّعت كأس السمّ”. وهذا ما دفع مسؤولين إسرائيليين إلى مخاطبة خامنئي بالسير في طريق سلفه، وتجرّع كأس السمّ مرّة جديدة، أي الاستسلام اليوم أمام الشروط التعجيزية المطروحة عليه. في المقابل، ثمّة سيطرة إيرانية صاروخية نوعية على الأجواء والأرض في إسرائيل. وللمرّة الأولى في تاريخها، تشهد دولة الاحتلال هذا الكمّ الهائل من الدمار والخراب، وهذا الذهول والقلق في أوساط الناس. حقيقة هو مشهد غير مسبوق. عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليين الأمنيين والعسكريين قالوا: “لقد فوجئنا بنوعية الصواريخ الإيرانية وحجمها ودقّتها”، وأُقرّ قانون يقضي بحبس أيّ شخص يلتقط صوراً للدمار الحاصل، أو يعممه، مع ضغط كبير على وسائل الاعلام الأجنبية. هذا المسلسل سيستمرّ.. لقد فعلها ترامب، فماذا بعد؟
ستكون الحرب طويلة. الردّ الإيراني على أميركا باستهداف قواعدها وعناصرها، كما ورد في تصريحات مسؤولين إيرانيين، سيؤدّي إلى ردّ أميركي عنيف ومدمّر. وتورّط أميركا أكثر، سيؤدّي إلى ردود أكبر وحرب أكثر دماراً. واستمرار الحرب بين إسرائيل وإيران على هذا المنوال سيؤدّي إلى دمار عامّ، وليس ثمّة (حتى الآن) أيّ أمل بوقفها، وفي الأجواء وفي الأرض أيّ خطأ أو خلل أو مفاجأة قد تُحدث تحوّلات كبيرة. ذاهبون إلى فوضى عامّة في المنطقة، وربّما إلى متاهة طويلة.