في 7 أكتوبر (تشرين الأول)، غزت إسرائيل شمال غزة بقوة قوامها أربعون ألف جندي تقريباً. وشنّت على المنطقة الصغيرة هذه واحدة من أعنف حملات القصف في التاريخ. فأخلى ما يقرب من مليوني شخص منازلهم. وأفادت وزارة الصحة التي تديرها “حماس” في غزة بأنّ أكثر من 15 ألف مدني (من بينهم حوالى 6 آلاف طفل و5 آلاف امرأة) قُتلوا في تلك الهجمات، فيما قالت وزارة الخارجية الأميركية إن الحصيلة الحقيقية قد تكون أعلى من ذلك. وقصفت إسرائيل المستشفيات وسيارات الإسعاف، ودمرت حوالى نصف المباني في شمال غزة. وإلى ذلك، قطعت بصورة شبه تامة إمدادات المياه، والمواد الغذائية، والكهرباء، عن سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة. فهذه الحملة تُعتبر، بكل المقاييس، في مثابة إجراءات عقابية جماعية وعامة ضد المدنيين.
وإلى اليوم، في الوقت الذي تتوغل فيه القوات الإسرائيلية في جنوب غزة، لا يزال النهج الإسرائيلي يفتقر إلى هدف دقيق وواضح. وعلى رغم زعم قادة اسرائىل أنهم لا يستهدفون إلا “حماس”، يثير الفشل الملحوظ في التمييز [بين “حماس” والمدنيين] تساؤلات مشروعة حول النوايا الفعلية للحكومة. فهل رغبة إسرائيل الحادة في تدمير غزة هي نتيجة لعدم الكفاءة التي أدت إلى إخفاق الجيش الإسرائيلي الذريع في التصدي لهجوم “حماس” في السابع من 7 أكتوبر، على رغم أنّ خطط الهجوم كانت بين أيدي مسؤولي الجيش والاستخبارات الإسرائيليين قبل أكثر من عام؟ وهل تدمير شمال غزة، والآن جنوب غزة، يمهّد لدفع جميع سكان القطاع إلى مصر، على ما ألمحت “ورقة المفاهيم” الصادرة عن وزارة الاستخبارات الإسرائيلية؟
وكائناً ما كان الهدف النهائي يثير الدمار الواسع النطاق الذي تلحقه إسرائيل بقطاع غزة قضايا أخلاقية جوهرية. وتناول النهج الإسرائيلي من الناحية الاستراتيجية البحت، لا بد أن يحكم في مصيره بالفشل لا محالة، وبدأت علامات فشله في الظهور منذ اليوم. فالعقاب الجماعي للمدنيين لم يقنع سكان غزة بالرجوع عن دعم “حماس”. وعلى النقيض من ذلك، زاد مشاعر الاستياء والسخط بين الفلسطينيين. ولم تفكك الحملة الجماعة التي تزعم إسرائيل استهدافها. وتثبت هذه الحرب، وهي تجاوزت الخمسين يوماً، أن إسرائيل قادرة على تدمير غزة، لكنها عاجزة عن تدمير “حماس”، بل إن الحركة قد تكون أقوى الآن مما كانت من قبل.
وليست إسرائيل أول دولة ترتكب خطأ التعويل المفرط على أثر القوة الجوية القاهرة. ويدل التاريخ على أن القصف الواسع النطاق للمناطق المدنية قلما حقّق أهدافه. وكان من الممكن أن يكون وضع إسرائيل أفضل كثيراً لو أنها استفادت من هذه الدروس، وردّت على هجوم السابع من أكتوبر باستهداف دقيق لقادة حركة “حماس” ومقاتليها عوض شنّ حملة القصف العشوائية التي اختارتها. ولم يفت الأوان بعد لتغيير المسار، والعمل باستراتيجية بديلة تحقق الأمن الدائم، وانتهاج خطة من شأنها أن تُحدث شرخاً سياسياً بين “حماس” والفلسطينيين، بدلاً من التقريب بينهما. وتقضي الخطة بمبادرة إسرائيل، من تلقاء نفسها، إلى الخطو خطوات نحو حل الدولتين.
فقدان القلوب والعقول
ومنذ بداية استخدام القوة الجوية، قصفت الدول أعداءها من أجل حملهم على الاستسلام، وفي سبيل تحطيم معنويات المدنيين. وتتوقع النظرية إن عند دفع الشعوب إلى حافة الانهيار والانكسار يدعوها إلى الانتفاض على حكوماتها، والخروج عليها ونزع ولائها. وبلغت استراتيجية العقاب القهري ذروتها في الحرب العالمية الثانية. وتذكر أسماء الأماكن المستهدفة بالقصف، مثل هامبورغ (40 ألف قتيل)، ودارمشتات (12 ألف قتيل)، ودريسدن (25 ألف قتيل)، بالقصف العشوائي الذي أصابها في تلك الحرب.
يضاف اليوم اسم غزة إلى هذه القائمة المعيبة. وقد شبّه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الحملة العسكرية الحالية بمعارك الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. وهو نفى تورط إسرائيل في إنزال عقاب جماعي، ولكنه ذكر بأن غارة جوية، نفّذها سلاح الجو الملكي [البريطاني]، استهدفت مقر الغستابو في كوبنهاغن، وأسفرت عن مقتل العشرات من أطفال المدارس.
وما لم يقله نتنياهو هو أن سعي الحلفاء في معاقبة المدنيين عقاباً جماعياً لم تتكلل بالنجاح مرة واحدة. ففي ألمانيا، أدّت حملة القصف التي شنها الحلفاء في عام 1942، إلى إلحاق ضرر كبير بالمدنيين، ودمّرت منطقة حضرية تلو الأخرى، وبلغ مجموع المدن والبلدات الألمانية المدمرة 58 مدينة وبلدة عشية نهاية الحرب. ولكنها لم تُضعف معنويات المدنيين ولم تؤد إلى تمرُّد على أدولف هتلر، على خلاف توقّع مسؤولي الحلفاء حدوث ذلك وثقتهم. بل إن هذه الحملة دعت الألمان إلى القتال بعناد، خوفاً من السلام الصارم الذي قد يحل بعد الحرب.
لم يسبق لأي حملة قصف شنّتها دولة أجنبية أن حرضت الشعوب المستهدفة على الثورة ضد حكوماتهم.
ولا يفترض أن يفاجئ هذا الفشل أحداً، في ضوء ما ترتب على محاولة النازيين استخدام نفس العمل. فغارات الـ”بليتز” [الغارات الجوية الألمانية] التي قصفت لندن، والمدن البريطانية الأخرى في المدة بين 1940 و1941، أدت إلى مقتل أكثر من 40 ألف شخص. ورفض رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، الاستسلام. وعوض ذلك، تذرّع بالخسائر البشرية الناجمة عن الغارات إلى حث المجتمع على تقديم التضحيات اللازمة في سبيل تحقيق النصر. وبدلاً من تحطيم المعنويات، حفزت غارات الـ “بليتز” البريطانيين، وحلفائهم الأميركيين والسوفيات، على تنسيق جهود مديدة أفضت، في نهاية المطاف، إلى شن هجوم مضاد، وغزو الدولة التي قصفتهم.
والحق أن التاريخ لا يذكُر حالاً واحدة أدت حملات القصف الجوي فيها إلى حمل المواطنين في البلد المقصوف على الثورة على حكوماتهم. وجرّبت الولايات المتحدة هذا التكتيك مرات كثيرة من غير جدوى. ففي أثناء الحرب الكورية، دمرت 90 في المئة من شبكات توليد الطاقة الكهربائية في كوريا الشمالية. ومثلها، دمرت، في حرب فيتنام، النسبة نفسها تقريباً من البنية التحتية الكهربائية في فيتنام الشمالية. وفي حرب الخليج، عطلت الغارات الجوية الأميركية 90 في المئة من طاقة توليد الكهرباء في العراق. ولم يشهد في حال من الأحوال هذه، قيام انتفاضات شعبية على نظام حكم البلد الذي تعرض للقصف.
وتُعتبر الحرب في أوكرانيا أحدث مثال على ذلك. فعلى مدار ما يقرب من عامين، أرادت روسيا إخضاع أوكرانيا بواسطة شنّها موجة تلو الأخرى من الهجمات الجوية المدمرة على المدن في جميع أنحاء البلاد، ما أسفر عن مقتل أكثر من 10 آلاف مدني، وتدمير أكثر من 1.5 مليون منزل، وتشريد حوالى ثمانية ملايين أوكراني. ولا شك في أن روسيا تسعى في تحطيم أوكرانيا. وبدلاً من سحق الروح القتالية في أوكرانيا، أدى العقاب الجماعي للمدنيين إلى إقناع الأوكرانيين بمقاومة روسيا مقاومة أصلب من أي وقت مضى.
حملة تؤتي بنتائج عكسية
وهذا النمط التاريخي يتكرر في غزة. وعلى رغم مرور شهرين تقريباً على العمليات العسكرية المكثفة، وفي الأثناء لم تفعل الولايات المتحدة وبقية العالم شيئاً يُذكر لكبحها، ولم تحرز إسرائيل سوى نتائج ضئيلة. وبصرف النظر عن المعيار المستخدم في تقويم الوضع، لم تؤدِّ الحملة إلى هزيمة “حماس”، ولو جزئياً. وأسفرت العمليات الجوية والبرية الإسرائيلية عن مقتل ما يصل إلى 5 آلاف من مقاتلي “حماس” (بحسب مسؤولين إسرائيليين)، من أصل عدد المقاتلين الإجمالي البالغ 30 ألفاً تقريباً. ولكن هذه الخسائر لن تقلل كثيراً من التهديد الذي يواجهه المدنيون الإسرائيليون. فعلى ما أثبتته هجمات 7 أكتوبر، لا يقتضي إلحاق الخسارة بالمجتمعات الإسرائيلية أكثر من بضع مئات من المقاتلين. والأسوأ من ذلك أن المسؤولين الإسرائيليين يعترفون بأن عدد المدنيين الذين تقتلهم الحملة العسكرية يبلغ ضعفي عدد قتلى “حماس”. وبعبارة أخرى، لا شك في أن إسرائيل تبعث إرهابيين يفوق عددهم عدد الذين تقتلهم. فمقتل مدني واحد يحمل أفراد عائلته وأصدقاءه على الانضمام إلى “حماس” انتقاماً وثأراً للقتيل.
وعلى رغم أن بنية “حماس” التحتية العسكرية متواضعة، إلا أنها لم تُفكَّك على نحو ملموس بعد. وفي أعقاب العمليات التي تباهت تل أبيب بشنّها على مستشفى الشفاء، بعد زعم الجيش الإسرائيلي أن “حماس” تستخدمه كقاعدة لعملياتها، لم تنحسر عمليات الحركة في ضوء ما تظهره مقاطع الفيديو التي نشرها الجيش الإسرائيلي، استولت إسرائيل على مداخل عدد من أنفاق “حماس” ودمرتها. ويمكن إصلاح هذه المداخل على الطريقة نفسها التي بُنيت بها حين بُنيت. والأهم من ذلك، يبدو أن قادة “حماس” ومقاتليها قد غادروا الأنفاق قبل دخول القوات الإسرائيلية إليها، ما يعني أن ركن الحركة (أي مقاتليها) نجا من الدمار. وعلاوة على ذلك، تتمتع “حماس” بميزة تتفوق بها على القوات الإسرائيلية: ففي مستطاع مقاتليها التوقف عن القتال، والاندماج في صفوف السكان المدنيين، والبقاء على قيد الحياة للقتال مرة أخرى في ظروف أفضل. لذا، فأي عملية برية إسرائيلية كبيرة محكومة بالفشل.
وعلى مستوى عام، لم تنجح الحملة العسكرية الإسرائيلية في إضعاف سيطرة “حماس” على غزة على قدرٍ بالغ. ولم تخلص إسرائيل إلا رهينة واحدة من 240 رهينة اُسرت في هجوم 7 أكتوبر. أما الرهائن الآخرين المحررين، فـ”حماس” أطلقت سراحهم. وهذا دليل على أن الحركة لا تزال تتمتع بالقدرة على إدارة مقاتليها والسيطرة عليهم.
وعلى رغم النقص الكبير في الطاقة، والدمار الواسع في جميع أنحاء غزة، تواصل “حماس” إنتاج مقاطع فيديو دعائية تُظهر الفظائع التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في حق المدنيين، والمعارك الضارية التي تدور بين مقاتلي “حماس” والجيش الإسرائيلي. وأصبحت بروباغندا الحركة متداولة على نطاق واسع عبر تطبيق المراسلة “تليغرام”، وتحظى قناتها بأكثر من 620 ألف مشترك. ووفقاً لإحصاءات مشروع جامعة شيكاغو حول الأمن والإرهاب (الذي أتولى إدارته)، نشرت “كتائب القسام”، جناح “حماس” العسكري، ما يقرب من 200 مقطع فيديو وإعلان في الأسبوع، بين 11 أكتوبر و22 نوفمبر (تشرين الثاني)، عبر تلك القناة.
الأرض مقابل السلام
والطريقة الوحيدة لإلحاق هزيمة دائمة بـ “حماس” تتلخص في مهاجمة قادتها ومقاتليها، وفصلهم عن السكان المحيطين بهم. ولكن قول ذلك أسهل من فعله، بخاصة وأن “حماس” تجنّد مقاتليها مباشرةً من السكان المحليين وليس من الخارج.
والواقع أن الأدلة التي جُمعت، من خلال الاستطلاعات، تظهر إلى أي مدى تسهم العمليات العسكرية الإسرائيلية، الآن، في بعث إرهابيين يفوق عدد من يقتلون. وفي استطلاع لرأي الفلسطينيين أجراه “مركز العالم العربي للأبحاث والتنمية”، في 14 نوفمبر في غزة والضفة الغربية، قال 76 في المئة من الذين استطلع رأيهم، أنهم يقومون “حماس” بشكل إيجابي. وفي المقابل، في سبتمبر (أيلول)، قال 27 في المئة من المشاركين في استطلاعات أخرى للرأي، في كلا المنطقتين، أن “حماس” هي “أجدر جهة بتمثيل الشعب الفلسطيني”. والمعنى الضمني لذلك يثير القلق. فهو يعني أن شريحة كبيرة من الفلسطينيين الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و34 سنة، والبالغ عددهم أكثر من 500 ألف، جاهزون للانضمام إلى “حماس”، أو غيرها من الجماعات الفلسطينية التي تستهدف إسرائيل ومدنييها.
وتتفق هذه النتيجة مع الدروس التاريخية المستفادة من الماضي. فخلافاً للرأي السائد، لا يختار أغلب الإرهابيين الإرهاب بسبب الدين أو الأيديولوجيا، على رغم أن بعضهم يفعل ذلك من غير شك، ولكنّ معظم الذين يعتنقون الإرهاب إنما يفعلون ذلك لأن أرضهم سُلبت منهم.
وعلى مدى عقود، ركّزت بحوثي على الإرهابيين الأكثر تطرفاً، أي الإرهابيين الانتحاريين. وتُعدّ الدراسة التي أجريتها وتناولت 462 شخصاً قتلوا أنفسهم في عمليات رمت إلى قتل أشخاص آخرين في أعمال إرهابية، بين عامي 1982 و2003، أوسع دراسة إحصائية لهذا الصنف من الناس. ووجدتُ أن ثمة، بين هؤلاء، مئات من الانتحاريين العلمانيين. والجماعة التي تتصدّر، عالمياً، الإرهاب الانتحاري هي حركة نمور التاميل. وهذه جماعة ماركسية مناهضة للدين، علناً، في سريلانكا، نفّذت هجمات انتحارية أكثر مما نفذته حركتا “حماس” أو “الجهاد الإسلامي” في فلسطين (الجماعتان الإرهابيتان الفلسطينيتان الأكثر فتكاً) مجتمعتين. وما اشترك فيه 95 في المئة من الإرهابيين الانتحاريين، في قاعدة بياناتي، هو قتالهم الاحتلالَ العسكري لأرضٍ يعتبرونها وطنهم.
وفي المدة بين 1994 إلى 2005، نفذت “حماس”، وغيرها من الجماعات الإرهابية الفلسطينية، أكثر من 150 هجوماً انتحارياً، أسفرـ عن مقتل حوالى 1000 إسرائيلي. ولم تتخل هذه الجماعات عن هذا التكتيك، بشكل كامل تقريباً، إلا عندما سحبت إسرائيل قواتها العسكرية من غزة. ومذ ذاك، زاد عدد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية 50 في المئة. وهو أمر يفاقم مصاعب سيطرة إسرائيل على هذه المناطق، على المدى البعيد. وتدعونا أسباب كثيرة إلى الاعتقاد بأن الاحتلال العسكري الإسرائيلي المتجدد لغزة، إلى “أجل غير مسمى” على قول نتنياهو، سيؤدي إلى موجة جديدة من الهجمات الانتحارية ضد المدنيين الإسرائيليين، وربما أقسى من سابقاتها.
مشكلة الاستيطان
وعلى رغم أن للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني وجوهاً كثيرة، يسهم وجه واحد في جلاء الصورة المعقدة. ففي كل عام تقريباً، منذ أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، زاد عدد السكان اليهود في الأراضي الفلسطينية زيادة متصلة، ولا تستثني سنوات “عمليات أوسلو” في التسعينيات. ويعني نمو المستوطنات خسارة الفلسطينيين أراضيهم، وزيادة المخاوف من مصادرة إسرائيل مزيداً من الأراضي، وتوطين مزيد من اليهود في الأراضي الفلسطينية. ودعا يوسي داغان، وهو مستوطن بارز [رئيس المجلس الاستيطاني] وعضو في حزب نتنياهو، أمثاله إلى بناء المستوطنات في غزة، وللعلم، فإن آخر مستوطنة في غزة فككت في عام 2005.
ويؤدي نمو السكان اليهود في الأراضي الفلسطينية دوراً رئيساً في تأجيج الصراع. وفي السنوات التي تلت الحرب العربية- الإسرائيلية، عام 1967 مباشرةً، لم يكن عدد اليهود الإجمالي، والمقيمين في الضفة الغربية وغزة، بضعة آلاف. وكان يسود الانسجام العلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية، في معظم الأحوال. وفي تلك المدة، لم تقع هجمات انتحارية فلسطينية، ونادراً ما حصلت هجمات من نوع آخر.
ولكن الأمور انقلبت رأساً على عقب مع وصول حكومة يمينية، بقيادة حزب الليكود، إلى السلطة في عام 1977، ووعدها بتوسيع كبير للمستوطنات. فارتفع عدد المستوطنين، من حوالى 4 آلاف، في عام 1977، إلى 24 ألفاً في عام 1983، ثم إلى 116 ألفاً في عام 1993. وقُبَيْل عام 2022، كان حوالى 500 ألف مستوطن يهودي إسرائيلي يعيشون في الأراضي الفلسطينية، باستثناء القدس الشرقية، حيث يقيم 230 ألف يهودي إضافي. ومع نمو المستوطنات، تبدد الانسجام النسبي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فنشأت حركة “حماس” في عام 1987، ثم اندلعت الانتفاضة الأولى بين عامي 1987 و1993، والانتفاضة الثانية بين عامي 2000 و2005. واستمرت جولات الصراع وتعاقبت بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ ذلك الحين.
والسبب الرئيسي في خسارة حل الدولتين صدقيته، منذ التسعينيات، هو نمو المستوطنات اليهودية على نحو شبه متصل. ويتعلق حظ مسار جدي لقيام دولة فلسطينية في المستقبل، بتوقف هذا النمو. ففي نهاية المطاف، ما الأسباب التي قد تحمل الفلسطينيين على رفض “حماس”، ودعم عملية سلام مفترضة، إذا لم ينتج من الرفض غير خسارة مزيد من أراضيهم؟
سلام دائم
وعليه، فإن حل الدولتين وحده يؤدي إلى أمن دائم للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء. وهذا هو النهج الوحيد العملي، والقادر على تقويض “حماس” فعلاً. لذا يمكن، لا بل يجب على إسرائيل أن تمضي على خطة منفردة، وأن تتخذ خطوات من تلقائها، وقبل مفاوضة الفلسطينيين. وينبغي أن يكون الهدف هو إحياء العملية التي ظلت ميتة منذ فشل المفاوضات الأخيرة في عام 2008، قبل 15 عاماً. ويتعين على إسرائيل، من غير غموض، أن ترفق النهج السياسي بآخر عسكري. فتشن عمليات محدودة ومتواصلة ضد قادة “حماس” ومقاتليها الضالعين في الفظائع التي ارتكبت في السابع من أكتوبر. وعلى إسرائيل، ومن وجه آخر، أن تدرج في هذه الاستراتيجية العنصر السياسي على الفور، وليس لاحقاً. ولا ينبغي أن تنتظر مجيء زمن أسطوري أو خيالي تنجز فيه انتصاراً كاملاً على “حماس”، بواسطة القوة العسكرية وحدها.
والحق، إن أولئك الذين يشككون في إمكان التوصل إلى حل الدولتين محقون حين يتوقّعون أن استئناف المفاوضات المباشر مع الفلسطينيين لن يضعف من رغبة “حماس” في القتال. فالحركة تؤيد، من غير لبس، فكرة القضاء على إسرائيل. وهي، ثانياً، أكبر الخاسرين من حل الدولتين. فلا شك في أن ينص اتفاق السلام على حظر الجماعات الفلسطينية المسلحة، باستثناء منافس “حماس” الداخلي الرئيسي، أي السلطة الفلسطينية. ومن المرجّح أن تتمتع هذه بدعم وشرعية متجددة إذا تمكنت من عقد اتفاق تدعمه غالبية الفلسطينيين. وحتى في حال التوصل إلى حل الدولتين، تبقى إسرائيل في حاجة إلى قدرات دفاعية قوية. فليس من حل سياسي قادر على القضاء قضاءً باتاً على تهديد الإرهاب، إلى سنوات مقبلة.
ولذا، ينبغي ألا تكون الغاية المباشرة طرح خطة نهائية لحل الدولتين. فهو أمر خارج عن إطار الاحتمالات السياسية، في الوقت الحالي. وعوض ذلك، ينبغي أن يكون الهدف المباشر هو ابتداء مسار يؤدي، في نهاية المطاف، إلى إقامة دولة فلسطينية. وعلى رغم زعم المشككين فإن مثل هذا المسار مستحيل، لأن إسرائيل تفتقر إلى شركاء فلسطينيين مناسبين، في وسع تل أبيب اتخاذ خطوات حاسمة بمفردها.
الطريقة الوحيدة لهزيمة “حماس” تتلخص في دق إسفين سياسي بينها وبين الشعب الفلسطيني.
وفي مستطاع الحكومة الإسرائيلية الإعلان أنها تنوي الوصول إلى وضع يعيش فيه الفلسطينيون في دولة يختارونها، جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل اليهودية. ويمكنها الإعلان أنها تعتزم تطوير عملية تؤدي إلى هذا الهدف في عام 2030، على سبيل المثل، وأنها سوف تحدد خطوات على طريق هذه الغاية في الأشهر المقبلة. ويمكنها أن تعلن أنها قررت، على الفور، تجميد المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، والتخلي عن مثل هذه المستوطنات في غزة، حتى عام 2030 ضمانةً أولية تثبت صدق التزامها بحل الدولتين فعلاً. ويمكنها الإعلان أنها راغبة في العمل مع جميع الأطراف، أي جميع الدول في المنطقة وخارجها، وجميع المنظمات الدولية، وجميع الأطراف الفلسطينية، المستعدة لقبول هذه الأهداف.
وهذه الخطوات السياسية جزء لا يتجزأ من العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد “حماس”، ومن شأنها أن تعزز جهوداً مستدامة، وموجّهة بدقة إلى الحد من خطر الهجمات التي تشنها الحركة على المدى القريب. وعملية مكافحة الإرهاب الفعالة تستقي المعلومات الاستخبارية من السكان المحليين، وقد يكون السكان أكثر استعداداً لتقديمها إذا كانوا يأملون في وجود بديل سياسي حقيقي للجماعة الإرهابية.
والحق أن الطريقة الوحيدة لهزيمة “حماس”، على المدى الطويل هي دق إسفين سياسي بينها وبين الشعب الفلسطيني. والخطوات الإسرائيلية الأحادية الجانب، إذا اقترنت بالتزام جدي بمستقبل جديد، في مقدورها تغيير إطار العلاقة الإسرائيلية- الفلسطينية، وديناميكياتها، وتمنح الفلسطينيين بديلاً حقيقياً يحل محل دعم “حماس” وتأييد العنف. وفي المقابل، يحصل الإسرائيليون على مزيد من الأمن. ويسلك الطرفان، أخيراً، الطريق المؤدي إلى السلام.
إن عدد الإرهابيين الذين تؤدي العمليات العسكرية الإسرائيلية إلى ظهورهم يتخطى عدد الإرهابيين الذين تقتلهم.
ولا ريب في أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تبدي علامات على انتهاج هذه الخطة. وقد يتغير الأمر إذا قررت الولايات المتحدة استخدام نفوذها. ففي وسع البيت الأبيض ممارسة مزيد من الضغوط السرية على حكومة نتنياهو في سبيل الحد من هجمات الحملة الجوية العشوائية.
وقد يكون الإجراء الأهم هو مسارعة واشنطن إلى مناقشة عامة وواسعة لسلوك إسرائيل في غزة. فقد تمهّد هذه المناقشة إلى دراسة الاستراتيجيات البديلة، وتوفر معلومات عامة غنية إلى الأميركيين والإسرائيليين، وإلى الناس في جميع أنحاء العالم، تخوّلهم تقويم العواقب بأنفسهم. وقد ينشر البيت الأبيض تقويم الحكومة الأميركية للتأثير الذي خلفته الحملة العسكرية الإسرائيلية في غزة على “حماس” والمدنيين الفلسطينيين. وقد يعقد الكونغرس جلسات استماع تعالج سؤالاً بسيطاً: هل تنتج هذه الحملة إرهابيين فوق ما تقتل؟
فيوماً بعد يوم، يتحقق فشل النهج الإسرائيلي الحالي. لذا، قد تكون المناقشة العامة والمستمرة لهذا الواقع، مقترنة بدراسة جدية للبدائل الذكية، خير فرصة لإقناع إسرائيل بالقيام بما يخدم، في آخر الأمر، مصلحتها الوطنية.
• روبيرت أ. بايب هو أستاذ العلوم السياسية، ومدير مشروع جامعة شيكاغو للأمن والتهديدات، ومؤلف كتاب “القصف للنصر، القوة الجوية والإخضاع في الحرب”.
مترجم من فورين أفيرز، 6 ديسمبر (كانون الأول) 2023