بماذا كان يؤمن ذاك “الانتحاري” الذي فجّر نفسه داخل كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق؟ سؤال يجب أن يؤرقنا جميعاً.
ففي التراث الفقهي الإسلامي الضخم والمتنوع، حد التضارب في بعض الحالات، لا توجد فتوى تبيح قتل آمنين في دار عبادة. وهذه ليست أول مرة نعيش فيها شططاً صادماً وغرائبياً في فهم الدين الإسلامي، من جانب متطرف ما. لكنه مؤشر جديد على هشاشة هذا الفهم، في مفرداته الأولية، لدى شريحة من أتباع هذا الدين، بصورة أتاحت، أن تنبت وتعمّر، تجارب كتجربة تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش”، أو أشباه كثيرة لها.
في ذاك التراث الفقهي الإسلامي ومدارسه المتنوعة، نجد يميناً متشدداً، ووسطاً، وفي حالات، يساراً، إن صح التعبير. لكن حتى في مدارس “اليمين المتشدد” منه -تلك التي تشكّل روافد أساسية لـ “السلفية الجهادية”، التي من المفترض أن “داعش” وكل الفصائل المتشددة التي عرفتها الساحة السورية، تتحدر منها- نجد سقف المعاملة التمييزية حيال “غير المسلمين”، هو دعوتهم للإسلام، مع الإشارة إلى عدم مساواتهم بـ “المواطنة” مع المسلمين، وفرض “الجزية” عليهم، مقابل فرض “الزكاة” على المسلمين. مع التأكيد على عدم ظلمهم بالنفس أو المال أو العرض، وإباحة المعاملات معهم.
وبطبيعة الحال، عدم ظلمهم هذا، يحيل إلى حماية دور عباداتهم وحقوقهم في ممارسة تلك العبادات. أما “قتلهم”، من دون حق، فهو من “أكبر الكبائر”، وفق وصف فقه ذاك “اليمين”. مع التأكيد على أن “المسالم” من “غير المسلمين”، محقون الدم والمال في الإسلام.
كان “شرعيو داعش” ينسبون كثيراً من سياساتهم، إلى فقه “ابن تيمية”، لا يمكن أن نجد في فقه الرجل، ما يدلل على إباحة قتل مسيحيين يصلون داخل كنيسة.
ما سبق، نبذة موجزة عن أكثر المواقف الفقهية تشدداً حيال غير المسلمين، في التراث الفقهي الإسلامي. لكن حين التطبيق، على أرض الواقع، ذهب تنظيم “الدولة الإسلامية – داعش”، وفي حالات، فصائل متشددة أخرى أيضاً، أبعد من ذلك كثيراً، حين التعاطي مع المسيحيين في مناطق سيطرة تلك التنظيمات خلال الـ 14 عاماً الفائتة بسوريا. وكان هناك فارق صارخ بين الفتوى، حتى المتشددة منها، وبين التطبيق، بصورة تُظهر أن غرائزية متعلقة بالانتماء، تتحكم بالأفعال على أرض الواقع، أكثر بكثير من الضوابط الفقهية. خاصة على صعيد تصرفات العناصر في تلك الفصائل، في القواعد، لا قريباً من أعلى هرم القيادات.
وفي حين كان “شرعيو داعش” ينسبون كثيراً من سياساتهم، إلى فقه “ابن تيمية”، لا يمكن أن نجد في فقه الرجل، ما يدلل على إباحة قتل مسيحيين يصلون داخل كنيسة. وهنا تجب الإشارة إلى أن فقه “ابن تيمية” القروسطي، ينتمي إلى مرحلة مأزومة، حينما كان ذاك “العالِم” المثير للجدل، يعمل على شد عصب “المسلمين” لمواجهة غزوات المغول، التي كانت تهدد دمشق حينها. كما أن فقهه، منفصل عن يومنا هذا. ففي زمنه كانت الدول تقوم على الانتماء الديني، لا المواطنة. وكانت جميعها، تنتهج معاملات تمييزية حيال غير المنتمين لدين الأكثرية. لذا، في عصره، كانت فتاواه منسجمة مع السياق السياسي المحلي والعالمي. لكن، حتى مع كل ما سبق، لا نجد في فقه “ابن تيمية”، ما يبيح قتل “أهل ذمة” في دار عبادة. مما يجعل السند “الشرعي”، حتى في أشد المدارس الفقهية الإسلامية تشدداً، غير متاح لتبرير جريمة التفجير في كنيسة مار إلياس.
فقدان السند الشرعي لم يمنع “داعش” من ارتكاب جرائم بشعة مشابهة. ففي كانون الأول 2016، تبنى التنظيم تفجير كاتدرائية “القديس مرقس” في العباسية بمدينة القاهرة، حيث قُتل خمسة وعشرون مسيحياً. وفي كانون الثاني 2024، تبنى التنظيم هجوماً على الكنيسة الإيطالية “سانتا ماريا” في إسطنبول التركية.
تقع هنا مسؤولية كبيرة على عاتق رجال الدين الإسلامي في سوريا، بضرورة تكثيف التوعية الدينية، وتصعيد الخطاب القائم على الوسطية والاعتدال.
وهنا يصبح السؤال: كيف يعبئ “داعش” أو أي تنظيم متطرف شبيه به، فرداً “مسلماً” كي يقتنع بأن يفجّر نفسه داخل كنيسة، من دون وجود سند شرعي لذلك؟ الجواب متاح بكثرة في دراسات سبق وأجريت على المنتسبين للتنظيم حينما كان في أوجه. فالغالبية العظمى من هؤلاء، تحديداً، في القواعد، ممن يتم تعبئتهم للقيام بالأعمال الخطرة والانتحارية، لا يمتلكون معرفة شرعية جديرة بجعلهم قادرين على تمحيص ما يقال لهم. ببساطة هم جهلة، منقادون، تعبئهم الخطابة الكاريزمية البسيطة، ولديهم قدر كبير من العقد النفسية الكفيلة بجعلهم منساقين إلى حتفهم، من دون إدراك بأنهم يقتلون ويُقتلون، من دون سند شرعي حقيقي. وحتى وفق “اليمين المتشدد” في التراث الفقهي الإسلامي، هم يرتكبون “كبيرة”، من “أكبر الكبائر”.
للسعودية في ذلك تجربة فريدة. فهي التي خرج منها بعض من أبرز متزعمي تنظيم “القاعدة”، اشتقت مساراً تصاعدياً، بعيد أحداث 11 أيلول 2001، بغية لجم الميل للتطرف والفهم الشاذ للدين. وتمكنت السلطات السعودية خلال عقد ونصف بعد 2001، من تقليص هوامش الفهم المتطرف في مجتمعها، بصورة نوعية، عبر حرب فكرية وأمنية، بالتزامن.
في حالتنا بسوريا، اليوم، نحن أحوج ما نكون لذلك. فسواء كانت جريمة تفجير كنيسة مار إلياس، من تنفيذ “داعش”، أو فصيل متطرف آخر، فالحاجة ملحة لحرب على أكثر من صعيد. ومع الأهمية القصوى للبعد الأمني، فإنه وحده غير كفيل في منع تكرار ما حدث عشية ذاك الأحد الأسود، في دمشق. وتقع هنا مسؤولية كبيرة على عاتق رجال الدين الإسلامي في سوريا، بضرورة تكثيف التوعية الدينية، وتصعيد الخطاب القائم على الوسطية والاعتدال.
وتتحمل السلطات الرسمية في ذلك، مسؤولية كبيرة أيضاً، مع الحاضنة “المتدينة” الواسعة، المؤيدة لها، والقواعد ذات الخلفية “الجهادية” المحسوبة عليها. فهي الأكثر معرفة، والأكثر قدرة، على تجفيف منابع التطرف في سوريا، لا بالأدوات الأمنية فقط، بل أيضاً بالأدوات التعبوية. وفي التراث الفقهي الإسلامي، سعة كبيرة، لإيجاد أسس شرعية لهكذا تعبئة إيجابية.