ملخص
منذ سقوط النظام قبل نحو 7 أشهر تداعت كثير من التقارير والوثائقيات والشهادات الحية لتصف واقع المعتقلين في سجون الأسد خلال الثورة السورية، لكن منتجاً جديداً لهيئة الإذاعة البريطانية يضع بصمة خاصة في الحديث عن هذه المآسي عبر روايتها على لسان الجلادين الذين حول صمتهم الجريمة إلى كارثة ولكنه كان أيضاً ثمن بقائهم أحياء وخارج الزنازين.
بينما كانت الاحتفالات بسقوط الأسد تصدح وسط دمشق، كان آلاف السوريين يتوجهون إلى سجون النظام بحثاً عن أحبائهم الذين اعتقلوا واختفت أخبارهم منذ أعوام أو ما يفوق عقداً بالنسبة إلى كثيرين، حتى فرحة “انتصار الثورة” لم تشغلهم وما إن فتحت أبواب السجون حتى تهافتوا إليها بحثاً عن صورة أو ورقة تقودهم إلى مصير أولادهم وإخوتهم وأزواجهم، وعندما فشلوا تفحصوا جدران الزنازين لعلها تحمل علامة تهدئ مخاوفهم.
حتى ذاكرة السجناء المحررين لم تنجُ من البحث، فقد نبشها المتلهفون أملاً بصوت أو ملمح أو اسم مر بها للغائب الذين لا يعرفون إن كان تعفن بين جثث المقابر الجماعية، أو حرق في أفران المعتقلات أو التهمته الظلمة في مكان بارد.
المصير المجهول للمعتقلين والمفقودين اليوم هو جانب واحد من مأساة شعب بأكمله رواها وثائقي جديد أنتجته هيئة الإذاعة البريطانية حديثاً بعنوان “الناجون من السجون السورية”، امتد على نحو 75 دقيقة فقط لكنه لخص أكثر من خمسة عقود متواصلة تحت حكم نظام البعث، وختم بأسئلة مصيرية حول مرحلة ما بعد الأسد.
شقيقان ممن شاءت الأقدار بأن يخرجوا أحياء عادوا مع المصورين إلى السجون التي اعتقلوا فيها والزنازين الضيقة التي تعذبوا بين جدرانها، استذكروا ما عاشوه من ألم بأنفاس متثاقلة تفضح قهراً يعشش في الصدور ويوغل في القلوب إلى أعماق لا يمكنهم سبرها اليوم ويخشون ظلالها على مستقبلهم ونظرتهم للدولة والوطن.
المحنة التي عاشها الشقيقان شادي وهادي هارون، دفعتهما للهرب خارج سوريا بعد إطلاق سراحهما، وجعلتهما يكرسان حياتهما لتوثيق حالات اعتقال واختفاء الثوار على نظام الأسد، كانت روحيهما تعودان إلى السجن مع كل قصة يسمعانها ويقرآنها لكن وحدهم العائدون من الموت يستطيعون فهم ما يقال عن العالم الآخر.
من رقعة الشطرنج إلى سجون الأسد: عائلة العباسي في رحلة بحث عن ابنتها
“المنفردة والدولبة” في سجون الأسد والذهاب وراء الشمس
من سجون الأسد وفظائعه… “قيصر” يروي حكايته مع المعذبين
في سجن صيدنايا تنقل الأخوان هارون بين الزنازين حيث كان كل منهما يتألم مرتين، واحدة على أيدي الجلادين وأخرى بصرخات تعذيب شقيقه المتسللة عبر شقوق الجدران أو الفتحات الصغيرة في الأبواب الحديدية، ومع كل كلمة كانا يصفان فيها ما جرى تثقل مقلتيهما بالدموع، فتتحرر تارة وتدفن تحت الجفن تارة أخرى.
يلتقط الشقيقان قطع الأوراق المتناثرة على الأرض في السجن، فيفككان شيفرة الاعتقال الذي كان يعرف البشر بالأرقام، وعندما تتلف الوثائق أو تضيع يزول كل أمل بأن تعرف مصير صاحب الملف وكأنه لم يمر من هنا أصلاً، بينما الحقيقة أنه عاش في هذا المكان أبشع فصل في حياته كلها، وغالباً ما يكون الفصل الأخير.
عندما تختطف من الشوارع، وهو الوصف الوحيد المناسب لعملية الاعتقال حتى ولو كان رجال الأمن هم من فعلوا ذلك، قد لا تصل إلى السجن مباشرة، فهناك شقق سكنية سخرتها “الدولة” للتحقيق معك قبل أن تتحول إلى رقم وتودع في زنانة، وهناك في الشقة تعيش عينة مما سترى وممن ستعامل معهم حتى الموت.
في الشقة تبوح بكل شيء إن كان هناك أصلاً ما تقوله، فكثر ممن خرجوا في التظاهرات بداية الثورة كانوا يظنون أنها مسألة أيام ويسقط النظام في سوريا كما جرى في دول أخرى، ولكن عندما وجدوا أنفسهم تحت أقدام الضابط “الإله” في تلك الشقة أدركوا أنهم أكباش فداء لحرب طويلة على “الإرهاب” بدأها النظام للتو.
1.png
لقطة للشقيقين شادي وهادي هارون في الفيلم الوثائقي (وسائل التواصل)
على أبواب السجن تستقبل بالضرب والإهانات، ثم توصم بـ”حرف قرمزي” للإرهاب لتعيش به “عاركاً” داخل الزنزانة وتدفع ثمن “وهنك لنفسية الأمة”، في البداية تفكر فقط بفترة المحنة التي ستمضيها في المعتقل، ثم يختفي السؤال ليحل مكانه فراغ بحجم العالم تستمتع فيه إما بسيجارة مغمسة بالدم، أو بسماحة كافية لتنام على الأرض، ليس على حائط أو مثبتاً لواحدة من أدوات التعذيب الكثيرة في معتقلات الأسد.
الحقيقة الأقسى التي تعرفها في السجن هي أن الدولة مجرد مقاطعة تحكمها عصابة لا يفرط الزعيم بأفرادها من أجلك، ومن يعتقلك بينهم يكون هو الآمر الناهي في مصيرك، وإن كان السجان رئيس الاستخبارات الجوية جميل الحسن فلا شفاعة لك حتى ولو توسط بشار الأسد نفسه لإخراجك، كما حصل مع الشقيقين هارون.
“إن كتب لك الخروج قبل الموت سترى العالم منقسماً بين فئتين، الأولى تراك سبباً في خراب البلاد، والثانية تكره إطلاق سراحك لأنه فرج لم ينعم به أحباؤها”، أما الطامة الكبرى فتصيبك عندما ينفر منك الناس خشية على أنفسهم وعائلاتهم، بينما كنت تظن نفسك بطلاً سيحمل على الأكتاف وتفرش له الورد وتنظم به القصائد.
لا يهم، ستعتاد الغربة في وطنك برحابة صدر كلما تذكرت ماذا كان ينتظرك لو بقيت في السجن، وفي وثائقي “بي بي سي” يقول طبيب في أحد المستشفيات العسكرية للنظام السابق إن عبارة “توقف القلب والتنفس” هي العبارة التي وصفت وفاة كل معتقل مات تحت التعذيب ووصل إليهم هيكل عظمي بجلد متعفن ومتقرح.
شهادات كثيرة استدعاها الفيلم في حقيقة أن عشرات الآلاف من السوريين قضوا في سجون النظام السابق، والجلاد يقول إن “صلاحيات التعذيب إلى حدود القتل” كانت عرضاً مفتوحا من دون الخشية من أي حساب أو عقاب، فمن يصل المعتقلات هو في عداد الأموات ما لم تنقذه وساطة أو يدفع في إطلاق سراحه أموال طائلة.
3.png
لقطة من الفيلم حول البحث عن مصير المفقودين (اندبندنت عربية)
“تجارة المعتقلين” كانت تدار عبر شبكات تضم ضباطاً وأطباء ومحامين وقضاة، وخدماتها التي تراوح ما بين معرفة مكان الاحتجاز وصولاً إلى إطلاق السراح تكلف مبالغ كبيرة تضطر العائلات إلى بيع منازلهم وممتلكاتهم أحياناً، وهذه شهادة من أحد الأشخاص الذين مارسوا هذه التجارة وظهروا في الفيلم بوجوه معتمة.
بين “الوجوه المعتمة” في الفيلم، رجال خجلون من ماضيهم ولن “يقصوه على أولادهم”، وآخرون نفذوا الأوامر كي لا ينضموا إلى المعتقلين ويعيشوا عذابهم، وفئة ثالثة لا تعرف إن كانت مذنبة أم ضحية لنظام زرع أفكاراً مسمومة في عقول الناس لعقود من الزمن حتى باتوا عبيدا لها وله من دون أن يشعروا أو يفكروا.
من خشية الناس الحديث في شؤون البلاد حتى داخل بيوتهم، إلى حياة عسكرية يعيشها الطلبة في المدارس، مروراً بعضوية البعث الإلزامية للوظيفة وكتب القومية المفروضة في المناهج، ثم الخدمة الإلزامية المجبولة بالإهانة، وبعدها الفساد الذي تحول إلى خلق، والمحسوبية التي أصبحت آلية عمل رسمية معتمدة في الدولة.
كل هذه العوامل وأكثر ستنتج سفاحين برأي أصحاب الوجوه المعتمة، لكن المبرر لم يسعف أحدهم على نسيان عبارة رددها سجين في لحظاته الأخيرة قبل الموت تعذيباً “سأشكوكم لله، عز وجل، حين ألتقيه”، والجلاد اليوم مثل غيره في الفيلم لا يمانع الخضوع للمحاكمة في شأن ما فعل، وانتظارها يبعث قلقاً من أنواع كثيرة.
المحاكمة ينتظرها أيضاً المعتقلون المحظوظون بالبقاء أحياء، وعائلات المفقودين الذين لم يعرف مصيرهم حتى الآن، سؤال واحد يدور في خلد الأخوين هارون يتوقان لطرحه على جلاديهما هو، لماذا؟ لكنهم يعرفون أن الإجابة لن تشفيهما، والأخطر أنها لن تمنع سؤالاً أكبر يواجه جميع السوريين اليوم، ماذا سنفعل بعد كل ما جرى، وهل يمكن أن نعود شعباً واحداً لنبني دولة تسودها المواطنة ويحكمها القانون؟