ملخص
في رواية البكاؤون (منشورات “تكوين”) التي حلت في القائمة الطويلة لجائزة بوكر العربية، يكشف الروائي عقيل الموسوي عن خصوصية المجتمع الشيعي في البحرين، موضحاً كيف ينعكس تأثير ذلك الانتماء الطائفي والديني على لغة الفرد ورؤيته وخياراته الشخصية ليصبح أسلوب حياة.
جاء عنوان “البكاؤون” المختصر في مفردة واحدة، معبراً بقوة عن فكرة الرواية ومتناغماً مع أجوائها، إذ يحضر البكاء بوصفه تيمة رئيسة لها، يعالجها الكاتب من زوايا نفسية واجتماعية متشابكة. يناقش النص كيف يورث البكاء عبر الأجيال ويتحول إلى سلوك يمكن اكتسابه وتعلمه وممارسته في مناسبات معينة، أكثر من كونه انفعالاً تعبيرياً يلبي حاجة الإنسان الفطرية إلى التخفف من الأحزان. فالشخص الذي ينشأ في بيئة المآتم والحداد السنوي، تتبدل علاقته بالحزن ويتعلم كيف يتفنن في البكاء، حتى يصبح البكاء لديه عادة عاطفية، حتى ليجد نفسه خبيراً فيه أكثر من غيره، بدموع سريعة الانهمار. هكذا يعالج الموسوي، تيمة البكاء بسردية ذكية، موزعاً الفكرة على شخصيات متنوعة من حيث العمر والجنس والانتماء الفكري.
ذاكرة المنامة
الرواية البحرينية (منشورات تكوين)
حملت مدينة المنامة ذاكرة المكان وحظ النوستالجيا، وسعى عقيل إلى توثيق ملامحها ما بين الحاضر والماضي. ففي السابق وصف لنا رحابة الشواطئ وبساطة الأبنية القديمة وكيف شيد الأطفال ملعباً في المقبرة ليلعبوا كرة القدم في ساحة صغيرة بجوار الأموات. لكن هذه الصورة تتغير مع الزمن، بحيث تزحف البنايات الأسمنتية الشاهقة وتتراجع الشواطئ ويتغير إيقاع الحياة وأسلوب العيش. يعرفنا الكاتب على مدينته، وثقافتها الشعبية وعلى مصطلحات شائعة في البحرين، مثل كلمة “حلايل” التي تعود إلى البحارنة القرويين، ومفردة “سوشي” التي تجمع بين الطائفتين الأساسيتين، وفي العاشر من محرم، يصور المنامة قائلاً “مظلمة وثكلى والشوارع خالية، كأن أهلها قد ماتوا…”.
اعتمد الموسوي صوتين أساسين للسرد، استخدمهما بالتناوب، مرة بصوت الراوي العليم ومرة بصوت ضمير المتكلم، مانحاً إياه حصراً لشخصية صادق، إذ كان صوته يتدخل أحياناً ليعبر عن الأنا وانفعالاتها الداخلية وتفاعلها مع بقية الشخصيات الثانوية. أما الراوي العليم فقد هيمن على معظم السرد، ولم يظهر صوت صادق إلا في بداية الفصل الخامس. وقد استخدم الروائي عقيل الزمن الماضي، وجعل السرد يروى من الذاكرة، وكذلك الأحداث الواقعة في الزمن الحاضر، مما يجعلها في كثير من الأحيان، تفقد حيويتها وتفتقر إلى التشويق، بما أن المشهد المروي في تلك اللحظة يبدو كما لو أنه انتهى ولسنا سوى بصدد معرفة ما حدث وليس ما سيحدث.
شخصية صادق
الروائي عقيل الموسوي (صفحة البوكر)
يمثل صادق الشخصية المحورية في الرواية، فهو ينفرد بصوت السرد حيناً ويتوارى خلف صوت الراوي العليم حيناً آخر. بدا صادق بمثابة عين المتلقي على ما يجري، كالعين السحرية التي يتلصص منها المرء من غير أن يشعر به أحد. يعرفنا الروائي عقيل الموسوي من خلال شخصية صادق على تفاصيل لا يعرفها إلا من نشأ في بيئة شيعية، ويبدأ هذا الكشف من التسمية الغريبة لبعض الشخصيات، مثل اسم “عبد علي” جد صادق، واسم “عبدالزهراء” ابن عمه، وأسماء أخرى قد لا تصادفها في دول عربية مجاورة.
يركز الكاتب عقيل على الارتباط النفسي الوثيق بين الشيعي والحزن، فهو يمارس حداداً سنوياً، في الـ10 الأوائل من شهر محرم ثم تستعاد الذكرى مرة أخرى بعد مرور الـ40، فيستعد الشيعة نفسياً لطقوس الحداد، فتحضر الولائم وتجهز النصوص والمواويل، وترتدي النساء السواد ويبكين من وراء النوافذ والأبواب المواربة، وهن ينتظرن مرور المواكب. وبعضهم يطلب إجازة من العمل من دون أجر مقابل الأجر الديني الذي يتوقع كسبه. وفي اليوم العاشر، يعاد سرد قصة مقتل الحسين، بالتأثر والانفعال نفسيهما، كأنها تروى للمرة الأولى.
وقد يتساءل من لم ينشأ في بيئة مماثلة، أننا نبكي موتانا، ونحزن لفراقهم، لكن فطرة النسيان تحتم على الإنسان التجاوز والمضي قدماً. قد يبكي البعض اشتياقاً من حين لآخر، ولكن من دون صدمة المفجوع، بينما يبكي أبناء هذه البيئة، بجرح أبدي مفتوح لا يندمل. يبدو الأمر محيراً: كيف يفجع المرء سنوياً على النحو نفسه؟
تتميز عائلة صادق الشيعية بالتنوع الأيديولوجي، فنجد الجد قومياً، مناصراً لمبادئ علمانية بعبر عنها في جملة، “لم تخلق العمامة للحكم” في المقابل، يأتي الأب “جواد” موالياً لإيران، فيرى في الخميني مرجعاً دينياً وثائراً معاصراً، ويرد على والده ساخراً، “وهل خلقت قبعة جمال عبدالناصر العسكرية للحكم؟” أما الجدة الحسينية فقد جعلت من الحزن أسلوباً لحياتها، إذ تؤمن بأنه من العبث أن تهدر دموعها على توافه الحياة والأجدر بها أن تذرفها على الحسين. أما الابن صادق، بطل الحكاية، فقد ورث التشيع عن عائلته، وعلمه جده فن البكاء منذ الطفولة، إذ يصفه الراوي بأنه تعلم البكاء قبل أن يتعلم القراءة.
الروائي البحريني فريد رمضان رصد تحولات المكان والهجرات
الروائي سعيد خطيبي “يغالب” مجرى نهر الذاكرة
يتشتت صادق لاحقاً مع التقدم في العمر، بين ضغط والده الذي يلح عليه بضرورة التقليد، محذراً “من دون تقليد ستكون أعمالك باطلة”، وبين تأثير أستاذه غازي الذي يوصيه، “لا تعلق أعمالك في رقبة فقيه كالقلادة”، محاولاً استدراجه للانضمام إلى جماعة الأمر، المسماة بالسفارة، وهي جماعة شيعية تؤمن بأن الإمام المهدي حي وقائم بينهم. وبعد مغادرته المنامة إلى لندن، يتعرف صادق إلى شابة إيرانية، يظنها مسلمة، فيكتشف عالماً مغايراً تماماً يتمثل في العقيدة البهائية، فيقترب من هذا الدين فضولاً، ثم يجد نفسه مضطراً لاعتناقه رسمياً كي يتمكن من الزواج بالشابة التي أحبها. يتخبط صادق بين المذاهب والعقائد، يقول “أفقدتني لندن صلتي بتشيعي كأنه لا وجود له، مر محرم من دون أن أتذكر مواكب العزاء الحسينية”. وفي النهاية، يعود إلى تشيعه لكن باعتدال، بلا التزام كامل بجميع الشعائر.
في العائلة الواحدة أيضاً، نتعرف إلى شخصية “عبدالزهراء” الذي يمارس التطبير منفرداً عن عائلته. والتطبير هو أن يتسبب الشخص بالأذى للنفس، بإحداث جروح في الرأس أو الجسد، تعبيراً عن الحزن وتجسيداً لتمثيليات مقتل الحسين. لذا نشهد في الرواية نقاشات واختلافات في العائلة الواحدة، بحيث يسلط الروائي الضوء على بعض العادات وربما يلمح إلى نقدها ضمناً، على ألسنة شخصياته، مثل رفض تزويج بنات المنامة لأبناء القرى، أو منع الفتاة الشيعية من الزواج بشاب إيراني شيعي مثلها، فقط لأنه عجمي.
أنا أبكي إذن أنا موجود
“أنا أبكي إذن أنا موجود”، عبارة وردت على لسان شخصية زاهر، حين فكر في كتابتها على جدار زنزانته. لتعبر بدقة عن روح النص، وعن ارتباط البكاء لدى الشيعي كفعل وجود. يجعل عقيل الموسوي من بطله روائياً في نهاية المطاف، ويختم رواية “البكاؤون” باسترجاع مسارات حياته وتحولاتها، قائلاً “من يصدق أن صادق الذي ربته بيبي حسينية ليكون ملا وحلم به الجد عبد علي طبيباً وتمناه النائب جواد محامياً، أصبح روائياً؟” وعندما سأله ابنه عن بكائه أجاب “أردت أن أعلمه الشيء الأصيل في عائلتي وأننا قوم بكاؤون، جئنا إلى الدنيا كي نسطر حياتنا بالدموع”.
هذه الرواية إذاً ليست مجرد مرآة تعكس واقع المجتمع الشيعي في البحرين، بل نص ينفتح على أسئلة تعيد تقليب المفاهيم وتدعو إلى تأمل هادئ وتصور، أكثر رحابة مما مضى وما هو آت.