ملخص
قبل مئة عام، أُعدم المهاجران الإيطاليان ساكو وفانزيتي ظلماً في الولايات المتحدة بسبب مواقفهما السياسية، مما أثار احتجاجات عالمية واسعة. تحولت قضيتهما إلى رمز للظلم الاجتماعي، وألهمت موجة من الأعمال الفنية التي خلدت نضالهما عبر المسرح، السينما، والموسيقى.
في مثل هذه الأيام قبل 100 سنة يوماً بيوم، أي في عز عام 1925، كان العالم غير عالم اليوم، وكانت القيم الإنسانية غير قيم اليوم، لكن الفن كان أيضاً غير فنون اليوم. ففي تلك الأيام التي نتساءل عما إذا كان ثمَّة من يتذكرها اليوم ليحتفل بها لم يكن موضوع الاحتجاجات العامة في العالم بأسره مذابح تطاول أطفالاً وكباراً في السن، ولا هدماً يسوي المستشفيات ودور العبادة بالأرض، بل كان الموضوع كذلك نوعاً من ظلم له ضحاياه بوصفهم ضحايا لعدالة لا تسكت عنه فحسب، بل تتسبب فيه كذلك، وذلك من خلال قضية عاملين ينتسبان إلى تيارات اشتراكية فوضوية، لا يزال ثمَّة حتى اليوم بعد مرور قرن من الزمن بأكمله من يؤكد لك أنهما أُعدما على الكرسي الكهربائي ظلماً وعدواناً، إعداماً لمواقف سياسية تبنياها، لا لجريمة قتل لم يرتكباها، فألصقت بهما، وأسفرت عن إعدامهما أمام سمع العالم وبصره بعد حين، وبعدما تواصلت السجالات والاحتجاجات ما يقارب ثمانية أعوام كان شرفاء العالم كله يتابعون خلالها مجريات الأحداث وهم يحبسون أنفاسهم، فيما الفن يغوص في الاحتجاج بدوره بصورة لا سابق لها في تاريخ الإبداع. فن يدور من حول ساكو وفانزيتي الضحيتين الآتيين من إيطاليا إلى الشرق الأميركي باحثَين عن الرزق ويركضان وراء حلم أميركي خاص بهما، يجمع بين الرزق والحرية، ويُلائمانه مع تصورهما لاشتراكية فوضوية إنسانية ستكشف لهما قضيتهما التي سميت “قضية ساكو وفانزيتي” عن أنها حقاً لا تتناسب مع المنظومة الفكرية الأميركية، ما دامت تلك المنظومة انتهت بهما إلى الموت تحت جبروت الكهرباء الفورية، حتى وإن أكد المحتجون سواء بسواء أن الأدلة لم تكن على الإطلاق كافية لإعدامهما.
تحرك شعبي في لندن للمطالبة بإنقاذ ساكو وفانزيتي من الإعدام (غيتي)
فنون الإنسانية الغاضبة
والحال أنه من الصعوبة بمكان الآن إحصاء الأعمال والأصناف الفنية التي اتخذت بكثرة أول الأمر، ثم بتواتر يظهر في المناسبات، من تلك القضية عنوان لها، ومن اسمي ساكو وفانزيتي موضوعها، فهي بالتأكيد تظل ذات حضور يتساوى طرداً مع استعادة الذاكرة الجماعية أو الفردية، القضية وحكاية الضحيتين، في مناسبات معينة، ومن ذلك مثلاً تنفيذ الإعدام نفسه عام 1927، والذكرى الـ50 للإعدام عام 1977، واستشراء موجات الهجرة على الصعيد العالمي منذ بداية تدفق الباحثين عن الرزق والعدالة على مستوى العالم طوال الربع الأول من القرن الـ21.
ويكاد المرء يجزم أن ثمَّة العشرات من المسرحيات وعدداً كبيراً من الشرائط السينمائية، وبخاصة في إيطاليا الموطن الأصلي لساكو وفانزيتي، وعدداً أكبر من لوحات فنية وأغنيات مُسيَّسة، وبخاصة في أميركا السبعينيات مع الأحداث الشبابية والطلابية. ومع ذلك فإن في الإمكان دائماً التوقف عند نصف دزينة من أعمال كبيرة تجمع بين الجماليات المطلقة والحبكات الصاخبة، عرفت أكثر من غيرها كيف تخلد تلك القضية. فمن الرسام الأميركي الكبير بن شاهن الذي تعتبر لوحته الضخمة المتحدثة عن “آلام ساكو وفانزيتي” من أشهر أعماله، إلى السينمائي الإيطالي الطليعي جوليانو مونتالدو، الذي حقق فيلماً روائياً طويلاً سرعان ما بات من كلاسيكيات السينما السياسية في العالم خلال عام 1971 تمهيداً للذكرى الخمسينية الأولى لجريمة العدالة الأميركية في حق العاملين المهاجرين، وصولاً إلى المغنية الكبيرة جوان بوز التي تعد هي نفسها من أروع ما غنت، ذلك النشيد عن موسيقى إينيو موريكوني متحدثاً عن ساكو وفانزيتي وعن إعدامهما تحت عنوان “ذلك من أجلك”.
من فيلم “مونتالدو” (اندبندنت عربية)
غيض كبير من فيض
والحقيقة، إننا لئن كنا قد اكتفينا هنا بالإشارة إلى هذه الإبداعات المتنوعة التي تناولت قضية ساكو وفانزيتي من بين ما قد يصل تعداداً إلى مئات الأعمال الفنية الأخرى، فما هذا إلا لأن هذه الأعمال هي رأس جبل الجليد، وتحمل توقيعات مبدعين من كبار الذين عرفهم القرن الـ20، وليس فقط من خلال قضية المهاجرين الإيطاليين، مما يعني بالنسبة إلينا أن هؤلاء إنما وضعوا تأملاتهم الإبداعية حول القضية التي شغلت العالم كله قبل قرن من الزمن، في سياق، وليس على هامش، إبداع فني إنساني أكثر شمولاً وحضوراً في مسار النضال والإبداع العالميين. ولعل خلود أعمالهم في هذا المجال يعكس تواصل حضور ساكو وفانزيتي في الضمير الصاحي للإنسانية العالمية، وتماماً على عكس ما شاء القضاء الأميركي حين أعتقد أنه بإنهاء القضية على الكرسي الكهربائي، يقدم لكل الحالمين درساً يمنعهم من الحلم، ولكن بعد هذا كله لا بد أن نتساءل دائماً عن حيثيات القضية التي عرف الفن كيف يعبر عنها، وذلك بالتحديد استجابة لما توخَّاه ذلك الفن نفسه من التركيز عليها ذات لحظات من مساره النزيه، وذلك بالنظر إلى أن غاية أساسية من غايات تناول ذلك الفن للقضية جعلها حاضرة على الدوام في الذاكرة الجماعية، كما نسهم هنا في تأبيد حضور قضية الفن هذه لمناسبة المئوية الأولى للتضحية بالمناضلين الإيطاليين على يد “عدالة” تريد دوماً أن تضع حداً لأحلام الحالمين الذين يهتمون بألا يتركوا شقاء العالم وأشقياءه يفرضون قوانينهم الجائرة، بالتحديد لأنها جائرة.
من الواقع إلى الشاشة
يمكن على أية حال اختصار القضية بالنسبة إلى ما يهمنا عادةً هنا، أي من خلال ارتباطها بالإبداع الفني المعبر عنها، بما يقدمه لنا فيلم الإيطالي مونتالدو الذي يبدأ سرده بعملية سطو تبدو أول الأمر عادية، تقع في ربيع عام 1920 في ولاية ماساتشوستس الأميركية، وسرعان ما تعلن الشرطة أنها قد ألقت القبض على “الفاعلين” ليتبين أنهما عاملان مهاجران من أصل إيطالي، هما نيكولا ساكو وبارتولوميو فانزيتي.
لعنة الفيلم الوحيد… حكايات التوبة عن الإخراج
غريتا غاربو “تنطق” للمرة الأولى في فيلم يوجين أونيل
وإذ تبدو الأمور منطقية ومن دون غبار حتى الآن سرعان ما سينكشف أمران في غاية الأهمية، أولهما أن المتهمين مناضلان سياسياً ينتميان إلى فكر نقابي فوضوي مناضل، ولدى الشرطة الإدارية الأميركية سجلات تتعلق بمواقفهما السياسية المعروفة، لكن في المقابل بدا واضحاً أن تلك الشرطة لا تملك في ما يتعلق بهما أية سجلات جنائية، بيد أن تدبير مثل تلك السجلات لم يكن أمراً صعباً، وهكذا، ومن دون وجود أية أدلة على الإطلاق، بدا من السهل تلفيق التهمة للمعتقلين لجعلهما يدفعان، وفي حقيقة الأمر، ثمن “جرائمهما” السياسية، حتى ولو كانت ثمة قناعة مطلقة بأنه لا علاقة لهما أو لأي منهما بعملية السطو. غير أن أميركا كانت في حينها في حاجة إلى ذلك النوع من “المتهمين المعتادين”، ومن هنا حتى ولو كان أهل ساكو وفانزيتي ورفاقهما والعالم بأسره قد تمسكوا بالقضية وألَّبوا العالم على الظلم القضائي الأميركي الفاقع، فإن ذلك القضاء قرر أنه لا بد من إلصاق التهمة ومن دون أي سند قانوني، بهذين الخارجَين عن “القيم الأميركية الراسخة”، ولو لمجرد جعلهما عبرة لمن يشبههما، ومن يشبههما يجب ألا يكون له مكان في مجتمع الحلم الأميركي. والحقيقة، إنه إن كانت “العدالة” الأميركية قد اتخذت قرارها الصارم ذاك منذ اللحظات الأولى لاعتقال نيكولا وباتيلوميو، فإنها تمسكت بالقرار لأنه بدا مُلائماً لها تماماً. وهي تمسكت به طوال ما يقارب ثماني سنوات شهدت صراعات وسجالات على الصعيد العالمي لم تسفر عن شيء، بل فقط عن تنفيذ ما كانت الأيديولوجيا الأميركية قد سعت إلى تنفيذه… جعل الكرسي الكهربائي نهاية لمهاجرَين بائسين ألصقت بهما ليس فقط تهمة السطو، بل كذلك تهمة قتل فرد واحد خلال السطو، أو هذا في الأقل ما رواه فيلم يبقى من أيقونات السينما السياسية، ومن أنزه الأعمال الفنية التي فضحت “عدالة” ليس لها من العدالة حتى ولا اسمها.