–
حين تنكسر الدولة وتتآكل سرديّتها الجامعة، تُصبح الجماعات الأكثر عراقة في النسيج الاجتماعي أول من يدفع الثمن. وهذا ما تكشّف بأقسى صوره في العراق بعد 2003، حين بدأت الهُويَّة الوطنية بالتفسّخ تحت وطأة المحاصصة الطائفية والتوظيف السياسي للمقدّس، وانتهت المأساة بخروجٍ جماعيٍّ لمكوّن أصيل في البنية التاريخية للعراق، هم المسيحيون. ولم يكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) سوى التعبير الأقصى عن مسارٍ طويلٍ من التآكل المؤسّسي، بدأ حين أُعيد تشكيل الدولة على قاعدة التمثيل الفئوي، وعندما جرى تأطير النفوذ الطائفي أداةً للتحكّم في المجال العام، ما فتح المجال أمام استثمار الهُويَّات الضيّقة بديلاً من العقد الوطني، وهيّأ لبروز العنف بوصفه لغة تمثيل. في هذا السياق، ومع انسحاب الدولة من دورها التمثيلي، باتت الهُويَّة تُعيد توزيع مواقع الشرعية والنفوذ داخل بنى مسبقة، ما يُفرّغ الفضاء الوطني من إمكان التنوّع الحقيقي. وهي السيرورة ذاتها التي نشهد ملامحها اليوم في المشهد السوري الانتقالي، إذ يُعاد تعريف الحضور العام على أسس ما دون وطنية.
في طوْرها الانتقالي الراهن، تتّخذ التجربة السورية ملامحَ مألوفةً في سياق ما بعد انهيار الدولة، إذ تبدو بعض ملامح الهُويَّة الجمعية آخذةً في التبلور ضمن قوالب أكثر انغلاقاً، وتُستبدل فكرة الانتماء الوطني بإطارات ضيّقة ترتكز في الانحدار العَقَدي أو الرمزي. غير أن الخطر الأكبر يمتدّ إلى استمرار فاعلية بعض القوى الجهادية المتطرّفة، التي وجدت في الفوضى الأمنية فرصةً لإعادة التموضع.
تهديد الجماعات الجهادية هو نتاج فراغٍ مزدوج ينطلق من غياب الدولة إطاراً إدماجياً، ومن ضمور الفضاء المدني مجالاً لإنتاج المعنى
يُقرأ تفجير كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق (22 يونيو/ حزيران الجاري) مؤشّراً على اختراقٍ محتملٍ لمساحات من الأمن الهشّ، وعلى قدرة الجماعات المتطرّفة على تنفيذ عمليات تُهدّد المكوّنات الأقلّ عدداً، وتُعيد استنساخ مشهد الترويع (والتفريغ) الذي عاشه مسيحيو العراق في العقدَين الماضيَين. كذلك لا يمكن النظر إلى تهديد الجماعات الجهادية باعتباره امتداداً أمنياً منفصلاً عن تحوّلات الاجتماع السياسي السوري، فيجب إدراكُه أيضاً نتاجَ فراغٍ مزدوج؛ ينطلق من غياب الدولة إطاراً إدماجياً، ومن ضمور الفضاء المدني مجالاً لإنتاج المعنى. ومع استمرار هشاشة البنية الأمنية في مناطق متفرّقة من البلاد، تجد التنظيمات المتطرّفة فرصةً لإعادة التموضع والظهور بأشكال هجينة، تُغذّيها تصدّعات الهُويَّة الوطنية وارتباك الخطاب الرسمي حيال التنوّع. هذا التهديد لا يستهدف جماعةً بعينها، فهو يُقوّض أسس التعايش، ويُعيد إنتاج منطق الفرز الرمزي الذي يجعل من الآخر المختلف هدفاً وجودياً. ومن دون استيعاب هذا الخطر بوصفه اختلالاً في التصوّر السياسي والتوازن الأمني، ستبقى الدولة الوليدة عرضة للاختراق من أطراف تملأ فراغ الشراكة بخطاب التكفير وسلوك التصفية.
تستمدّ التحوّلات الأمنية في سورية أهميتها من البنى التي تُعيد تعريف العلاقة بين السلطة والانتماء الوطني. لقد أظهر تفجير الكنيسة خللاً بنيوياً في منظومة الحماية الرمزية والسياسية، ويشير إلى انكشاف مواقعَ تاريخيةٍ في الجغرافيا السورية باتت محرومة ضمانات الاستقرار والانخراط المتكافئ. ورغم محدودية المعطيات الأمنية المتوافرة، فإن تجاهل بُعد الخطر الجهادي في التحليل قد يُفضي إلى قراءة منقوصة لما تعيشه المكوّنات الأصغر، خصوصاً حين يتقاطع الاستهداف الرمزي مع أفعال عنف فعلي قابلة للتكرار. ليست المقارنة مع التجربة العراقية نابعةً من استدعاءٍ للتاريخ، بقدر ما تنطلق من فهم آليات التآكل البنيوي حين تغيب منظومات الحماية المشتركة، وتَضمر مرجعيات التصوّر الوطني المشترك. فالمسألة تكمن في تشابه القواعد التي تُعيد إنتاج الإقصاء بصيغٍ جديدة من الانفلات الأمني إلى الفرز الرمزي، ومن انعدام التأثير والتمثيل إلى هندسة الإطار العمومي للمشاركة وفق مراتب غير مُعلَنة من الامتياز والولاء.
في السياق السوري الراهن، تعيش بعض المكوّنات التاريخية، وفي مقدّمتها المسيحيون، حالةً مزدوجةً من الحضور العددي والغياب الفعلي. رغم استمرار الوجود الديمغرافي، يغيب التأثير الفعلي من مراكز القرار الثقافي والسياسي، ما يؤدّي غالباً إلى الاختزال في وظيفة رمزية تُستخدم لتزيين سردية الفسيفساء المجتمعية، من دون ضماناتٍ للمشاركة الفعلية. ويغدو البقاء، في هذا السياق، مجرّد استمرار جسدي يستند إلى حضور رمزي معزول، يُستخدم للزينة السياسية بدل أن يُمكَّن بوصفه شريكاً فعلياً ويستند إلى عقد وطني متكافئ. وقد أسهمت سنوات الصراع في تفكيك مفهوم المواطنة، عبر ترسيخ تصوّرات استبعادية تُعرّف الفرد من خلال انتمائه الأولي، وليس من خلال موقعه في مشروع وطني مشترك. وسط هذه البنى، تتعرّض الجماعات الأصغر (المسيحيون مثلاً) لإعادة تصنيف تُقصيهم من أدوار الفعل، وتحصرهم في مواقع الشهادة أو التزكية. بذلك قد يتحوّل الخليط الهُويَّاتي من قيمة بنيوية إلى عنصر ديكوري، وتُعامَل المواطنة مكانةً غير مستقرّة، تتحدّد وفق مقاييس الولاء، تبعاً لمعادلات الهُويَّة المُهيمنة.
في لحظات التحوّل والمراحل الانتقالية، تُقاس الجدّية السياسية بقدرة المشروع الانتقالي على صون الذاكرة المشتركة والاعتراف بتعدّديتها
في العراق، بدأ الانهيار حين رُفعت الحماية الطائفية إلى منزلة العقد البديل، وحين تشظّت الدولة إلى كانتونات تمثيلية تُعيد تعريف الطائفة فاعلاً سياسياً مستقلاً. وفي سورية، تُنذر المؤشّرات الراهنة بأن أيّ مرحلة انتقالية لا تؤسّس لصيغة دستورية جديدة، تتخطّى الانتماءات الضيقة نحو أفق وطني مشترك، ستفضي بالضرورة إلى تكرار آليات التفكّك ذاتها. فالحضور المسيحي، كي يكون فعّالاً، لا يُقاس بمجرّد الاستمرار العددي، بل بقدرته على المساهمة المتكافئة في صياغة المجال العمومي السيادي فاعلاً كاملاً في صياغة المعنى الوطني، وليس شاهداً رمزياً على تنوّع مُفرغ من مضمونه. يتجلّى الخطر في استمرار بنية التطييف السياسي، سواء عبر صمت غير مقصود أو من خلال غياب سياسات الإدماج الواضح، وتحويل التعدّديات من مكوّنات بنيوية في النسيج الوطني إلى “ملفّات” تُدار أحياناً بمنطق الحذر أو عبر مقاربات رمزية لا تستند إلى تمثيل فعلي. هذا النمط من الإدارة لا يقتصر أثره على المسيحيين، فهو يشكّل جزءاً من هندسة المجتمع وفق مرجعية أحادية تُعيد توزيع الشرعيات على أساس الانضباط الرمزي والانتماء المؤدلج. في هذا الإطار، يُختزل الوجود المسيحي، كما سواه من وجود الفاعلين غير المتماثلين، إلى حالة إشكالية يُراد احتواؤها أو تدبيرها، بدلاً من أن يُفهم بوصفه مكوّناً أصيلاً يُشارك في إنتاج المشروع الوطني.
يعيد التجاهل الرسمي لدلالات تفجير كنيسة مار إلياس، أو تحويله خطاباً استهلاكياً خالياً من مساءلة جذرية لمصادر العنف، إنتاج نمط مأزوم شهدناه في التجربة العراقية. ففي مثل هذه السياقات، لا يكون الاعتداء على الكنيسة موجّهاً إلى مكوّن ديني بعينه، بل إلى مرتكزات الدولة ذاتها، وإلى إمكانية قيام عقد وطني فعلي يضمّ الجميع، ضمن أفق مدني متكافئ.
غير أن هذا الغياب عن المعالجة لا يُردّ دائماً إلى تجاهل سياسي متعمّد فقط، فهو قد يُفهم أيضاً في ضوء محدودية البنية الاتصالية للسلطة الانتقالية، التي لا تزال تفتقر إلى منظومة إعلامية قادرة على إنتاج سرديات وطنية جامعة، وهو ما يؤدّي إلى هيمنة خطاب أحادي أو رمزي على لحظاتٍ تستدعي تواصلاً وطنياً شفّافاً، ويؤشّر في الآن ذاته على اختلال أعمق في تمثيل التعدّد السوري داخل مؤسّسات التعبير العمومي. وحين تغيب البنية القادرة على الاستجابة الرمزية المنصفة، يصبح الاعتداء على جماعةٍ ما، لا يُجابَه باعتباره مسّاً بجوهر العقد الوطني، بل يُفرغ من دلالته، ويُعاد تفسيره حدثاً معزولاً.
بعد الإبادة الجماعية في تسعينيّات القرن الماضي، اختارت رواندا أن تُعيد تأسيس مشروعها الوطني على قاعدة المساواة القانونية الصارمة، واحتكار الدولة الهُويَّة السياسية الجامعة. وُوجه موروث الكراهية من دون توازن تمثيلي بين الهُويَّات، وفُرِضت لغة وطنية موحّدة، وسياسات إقصاء للخطابات الإثنية من المجال العام. رغم جدليته، نجح هذا النموذج في بناء دولة احتفظت بحدٍّ من التماسك المؤسّسي. وفي السياق السوري، تُطرح تساؤلات عن إمكان الانتقال من تمثيل هُويَّاتي متشظٍّ إلى مواطنة قائمة على التساوي في الحقوق والفرص. كذلك يُستدعى النقاش حول مدى إمكانية الاستفادة من التجربة الرواندية، لاستلهام آليات التعاقد الاجتماعي الذي يتجاوز موازين الطوائف نحو تأسيس مشروع وطني جامع.
الاعتداء على كنيسة مار إلياس ليس موجّهاً إلى مكوّن ديني بعينه، بل إلى مرتكزات الدولة ذاته
وبالعودة إلى التجربة العراقية، لم يكن ما يثير القلق فيها لحظة صعود “داعش” (في ذلك الوقت)، وإنما المسار الذي مهّد لصعوده، إذ تحوّلت الدولة ساحةً تُدار بمعادلات الهُويَّة، وفقدت قدرتها على أداء وظائفها السيادية. في سورية، تبدو المرحلة الانتقالية محفوفةً بالخطر نفسه، ما لم تُبنَ على رؤية تتجاوز منطق المحاصصة، وتعيد تأسيس المجال الرمزي للمواطنة على قواعد دولة تحتكم إلى القانون، وتُنظِّم التنوّع بدل أن تُقنّنه. في الأنظمة التسلطية، غالباً ما يُعاد تشكيل موقع الأقلّيات ضمن منظومة تعامل تُغلّب منطق الرعاية المشروطة على مبدأ الشراكة المتكافئة. لا يعود الاحتضان السياسي الفعلي قائماً على استحقاق المواطنة، ويتحوّل مستنداً إلى خطاب يتعامل مع الجماعات التاريخية بوصفها كيانات تحتاج إلى طمأنة فقط من دون تمكين. ضمن هذا التصور، تُختزل الأهلية السياسية إلى امتثال هادئ، وتُقوّم الانخراطات السياسية أحياناً ضمن أطر تُغلّب الحذر على الشراكة. هذا النمط، الذي ساد في ظلّ نظام الأسد، يبدو أنه يجد امتداداته اليوم، فتُظهِر المرحلة الانتقالية ملامحَ أوليةً لفرز رمزي مقلق، قد يُفضي (إن لم يُعالج) إلى إعادة إنتاج علاقات هيمنة تحت مظهر شراكات شكلية.
في لحظات التحوّل والمراحل الانتقالية، تُقاس الجدّية السياسية بقدرة المشروع الانتقالي على صون الذاكرة المشتركة والاعتراف بتعدّديتها، بالتوازي مع بناء مؤسّسات تعبّر عن الجميع. وسورية اليوم تحتاج إلى مسار سياسي مختلف يُرسّخ حضور المواطن بوصفه فاعلاً في نسيج التفاعل الوطني، وفق معايير الانتماء المدني، وخارجاً عن أيّ تموضع في خرائط الهُويَّة المسبقة. وإذا لم تُفكّك العلاقة العضوية بين الدولة والانتماء ما دون الوطني، ويُستعاد الحقل الوطني بوصفه إطاراً مفتوحاً للمشاركة، فإن المقبل سيُصاغ بلغة الإقصاء التدريجي، ويتلاشى المجال المدني ليُعاد إنتاجه سلسلةً من الامتيازات الخاضعة لتوازنات النفوذ بعيداً من أيّ منطق تعدّدي.