–
في قلب التجربة السياسية الغربية، وتحديداً في الولايات المتحدة، يتصارع تياران تاريخيان شكّلا الوعي السياسي الحديث: الليبرالية التي تُمجّد الحرّيات الفردية، وتدعو إلى حياد الدولة الأخلاقي، والجمهورية التي تسعى إلى بناء “مواطن فاضل” عبر تدخل مؤسّسات الدولة في صياغة منظومة القيم العامة.
يتتبع المفكر الأميركي، مايكل ساندل، في كتابه “السخط الديمقراطي”، هذا التوتر بين التيارين، محذّراً من انبعاث نسخة جديدة مما يسميها “المورالينا الجمهورية”؛ وهي تلك النزعة التي تحوّل السياسة إلى ميدان لاختبار الفضيلة الفردية، وليس إلى تدبير الشأن العام.
ليس هذا التحليل حكراً على الغرب. في الحقيقة، تتردّد أصداؤه بوضوح في السياسة العربية، وتحديداً في سورية ما بعد السقوط. فما يطرحه ساندل لا ينطبق على المنظومة السياسية الغربية فحسب، بل على الطبيعة الخطيرة لأي سياسةٍ تتقمّص دور المعلّم الأخلاقي. كما تتحوّل السياسة في الغرب إلى معركة بين “الطيبين” و”الأشرار” (وفقاً لسلوكاتهم أو آرائهم، لا برامجهم)، فإنّ المشهد العربي ليس بمنأى عن هذا الميل. غير أنَّ الفرق يكمن في أن الغرب لبسَ رداء “الأخلاق التقدّمية” أو القومية، أما نحن فلبسناه بالدين، أو بالانتماء الطائفي، أو حتى بالولاء لرمز سياسي.
تاريخ الفكر العربي مليء بالمحاولات لإنتاج تصور للسياسة لا يقوم على فرض الفضيلة بالقوة
في سورية ما بعد الأسد، يبدو أن لحظة “التحرّر” تتحوّل إلى ساحة لتصفية الحسابات الأخلاقية، فبدلاً من بناء تعاقد سياسي جديد، يبدو أن من يحتكر “الشرعية الثورية” أو “الهوية الوطنية الحقّة” الآن يُقصي من يعتبرهم ملوّثين بماضٍ مشكوك فيه أو بانتماء مشبوه. يتحوّل كل من لم يكن “نقياً بما فيه الكفاية” خلال عهد النظام السابق إلى هدف للتشهير أو الإقصاء. تاريخنا المعاصر مليء بلحظاتٍ حاولت فيها النخب السياسية فرض تصوّر أخلاقي صارم عن “الوطني”، أو “الصادق”، أو “المؤمن الحق”. وهذه ليست سياسة، بل شكل مموّه من التطهير، مهما كانت النيّات حسنة.
في غياب عقد اجتماعي متين، يصبح من السهل أن تتحوّل الدولة أو الثورة، أو حتى المجتمع الأهلي، إلى سلطة أخلاقية. وكلما زاد الإحساس بتهديد الهوية (دينية، طائفية، قومية، ثورية) زادت الحاجة إلى رسم خطوط فاصلة بين “نحن” الأخلاقيين و”هم” المنحرفين.
في سورية الجديدة، تظهر تيارات تدّعي أنها حارسة الأخلاق الجديدة، سواء تحت راية الإسلام، أو الديمقراطية، أو “قيم الثورة”. وهنا الخطر الأكبر: هذه القوى تتورط في المأزق نفسه الذي حذّر منه ساندل، وسقط فيه الغرب، أي أن تتحوّل السياسة إلى محكمة تفتيش.
لعلّ أحد أعمق الأصوات التي تنبّهت إلى هذا المنزلق صوت الفيلسوفة السياسية جوديث شَكلار، التي دعت إلى مقاربة واقعية للسياسة، ترى في تجنّب الشر (الظلم، التهميش، القمع) هدفاً أهم من فرض الخير أو صناعة الإنسان الكامل. كانت تدرك أن أي مشروع يطمح إلى بناء مواطن “فاضل” بالقوة، سينتهي إلى استبداد جديد.
تاريخ الفكر العربي مليء بالمحاولات لإنتاج تصور للسياسة لا يقوم على فرض الفضيلة بالقوة. من ابن خلدون الذي فهم السياسة بوصفها إدارة للمصلحة، إلى عبد الرحمن الكواكبي الذي أدرك خطر استبداد الدين باسم الأخلاق، كان هناك دائماً صوت خافت يقول: ليست مهمة الدولة أن تخلق “إنساناً مثالياً”، بل أن تمنع الظلم وتضمن العدالة والعيش الكريم.
علينا أن نستعيد هذا الفهم، فالعبرة من التجربة الغربية ليست أن نستنسخ نموذجها الأخلاقي أو نتمرّد عليه، بل أن ندرك خطورته عندما يُفرض بالقوة أو يُقدّم حلاً أوحد للأزمات السياسية والاقتصادية.
الطريق إلى العدالة لا يمر عبر تطهير الخصوم، بل عبر تأسيس نظام يمنع الظلم قبل أن يسعى إلى فرض الخير
وبالعودة إلى التجربة السورية، يبدو هذا الدرس أكثر إلحاحاً، فالأولوية ليست لبناء مجتمع “نقي”، بل لصياغة تعاقد يضمن الحرية، والمساواة، والعدالة، حتى لمن نختلف معهم، وحتى لمن كانوا في صفّ النظام ولم يتورّطوا في دماء أو فساد.
السياسة في معناها الحقيقي ليست تطهيراً أخلاقياً، بل فن العيش المشترك. هي القدرة على إدارة التعدّد والاختلاف، لا محو الفروق وتوحيد القيم. وإن كان من درسٍ يجب أن نستخلصه من تجربة الغرب، فهو أن الدولة التي تفرض تصوّراً واحداً للفضيلة، تنتهي إلى قمع كلّ من لا يتطابق مع هذا التصور.
في سورية ما بعد النظام، لا نحتاج إلى “نموذج أخلاقي جديد”، بل إلى فضاء عام تعدّدي، يتسع للضحية كما يتسع للتائب، وللإسلامي كما للعلماني، وللمؤمن كما للملحد، ما دام الجميع ملتزماً بقواعد اللعبة الديمقراطية. والوقوع في فخ الأخلاقوية السياسية، سواء باسم الدين أو الثورة أو الوطنية، لن ينتج إلا استبداداً جديداً بأدوات جديدة. لن تُبنى سورية الجديدة (أو أي دولة عربية أخرى) على يد “الأنقياء” وحدهم، بل على أساس عقد سياسي يعترف بجرح الماضي، من دون أن يحوّله إلى أداة لابتزاز المستقبل.
الطريق إلى العدالة لا يمر عبر تطهير الخصوم، بل عبر تأسيس نظام يمنع الظلم قبل أن يسعى إلى فرض الخير. هذا ما نحتاج إلى أن نتعلمه، لا من الغرب نموذجاً، بل من فشله مثالاً تحذيرياً.