لا نملك معطيات كافية لفهم طبيعة الدور الذي لعبته إدارة الرئيس الأميركي السابق بايدن، في التحولات العميقة التي شهدتها سورية في الهزيع الأخير من العام الماضي، لكنّنا بتنا، مع ذلك، نعرف أن المفاوضات ظلت مستمرّة مع نظام الأسد، بوساطة عُمانية، حتى بعد سيطرة فصائل المعارضة على حلب، بحسب تحقيق نشرته صحيفة نيويورك تايمز في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. تضمن العرض استعداد إدارة بايدن لسحب القوات الأميركية من مناطق شرق الفرات إذا وافق الأسد على فكّ تحالفه مع إيران، وأوقف خط إمداد حزب الله عبر سورية. لكن إدارة بايدن، وفيما كانت تغري الأسد بالانقلاب على حلفائه، كانت تمنع، في الوقت نفسه، المليشيات العراقية (جماعة الحشد الولائي) من عبور الحدود لدعم نظامه الذي تهاوى بسرعة صدمت حتى إدارة بايدن نفسها بشهادة كبار مسؤوليها (وزير الدفاع لويد أوستن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن). سوف تُبدي لنا الأيام، بالتأكيد، تفاصيل إضافية تساعد في رسم صورة أكثر وضوحاً لمجريات الأيام الـ 12 التي هزّت سورية والمشرق، لكن الواضح أن إدارة بايدن لزمت الحذر في التعامل مع “زلزال” سقوط نظام الأسد، ووصول هيئة تحرير الشام إلى الحكم في دمشق، ولم تشأ تقييد خلفها بسياسة معينة تجاه دمشق.
خلال الشهور الثلاثة الأولى من حكمها، لم تبدِ إدارة ترامب اهتماماً كبيراً بسورية، حتى إنّ ترامب نفسه لم يذكرها سوى مرّة أو اثنتين عرضاً، وكملف ملحق بقضايا إقليمية أكثر أهمية بالنسبة إليه، أبرزها عندما أبدى خلال لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مطلع إبريل/ نيسان الماضي، في البيت الأبيض، استعداداً للوساطة في الصراع بين حليفيه في أنقرة وتل أبيب حول سورية، كاشفاً أنه قال لأردوغان “أعرف أنك أنت من أخذ سورية”. كان واضحاً خلال هذه الفترة وجود تيارين داخل إدارة ترامب يتنازعان السياسة حول سورية؛ الأول تعبّر عنه وزارة الخارجية، ويرى بضرورة منع انزلاق سورية إلى الفوضى، وإعطاء إدارة دمشق الجديدة فرصة لإثبات أنها تغيّرت، وقطعت مع ماضيها. والتيار الثاني يعبّر عنه الجناح الأمني في الإدارة، ويقف على رأسه سبستيان غوركا، مسؤول ملف الإرهاب في مجلس الأمن القومي، وتولسي غابارد، مديرة المخابرات الوطنية، ويتخذ موقفاً متشكّكاً ومتشدّداً من حكّام دمشق الجدد. ساعد تدخل تركيا ودول خليجية، في مقدمتها السعودية وقطر، في ترجيح كفة وزارة الخارجية في واشنطن، من طريق التأثير على ترامب، وإقناعه بأهمية الانخراط مع دمشق، والاستثمار في التحول الكبير الذي مثله سقوط الأسد.
التغيير في الموقف الأميركي، عقب لقاء ترامب برئيس السلطة الانتقالية السورية أحمد الشرع، في زيارته الرياض في 13 مايو/ أيار الماضي، كان عميقاً وسريعاً، إذ رفعت الولايات المتحدة أو جمّدت أكثر العقوبات عن سورية، وبعضها يمتد عقوداً، وتوجت ذلك برفع هيئة تحرير الشام، أخيراً، من قائمة التنظيمات الإرهابية، التي كانت دخلتها عام 2012. لا شكّ أن الوساطات العربية الخليجية والتركية لعبت دوراً مهمّاً في تغيير موقف ترامب، لكن الواضح أيضاً أن الولايات المتحدة بدأت تدرك حجم المصالح المرتبطة بالتغيير الذي شهدته دمشق. بالنسبة إلى إدارة ترامب، وآخر همها الديمقراطية، تمثل سورية فرصة لإحداث تحوّل عميق في الشرق الأوسط لا يقلّ أهمية عن التحوّل الذي أحدثه غزو العراق عام 2003، بل هي فرصة لمحو بعض آثاره، من ذلك تفكّك الدولة المشرقية، وهيمنة جماعات ومليشيات مسلّحة يصعب السيطرة عليها، بعكس السلطات المركزية، فضلاً عن تغوّل النفوذ الإيراني، وصعود التنظيمات الجهادية ردَّ فعل عليه. السلطة الجديدة في دمشق يمكن أن تؤدي دوراً مهمّاً في الترتيب الجديد للمنطقة، وهي تبدي كل الاستعداد لذلك. طبعاً، لا يمكن أن يكتمل المشهد الجديد، بالنسبة لواشنطن، إلّا بالتطبيع مع إسرائيل، الذي قال المبعوث الأميركي، توماس برّاك، أنه أحد الشروط الخمسة لرفع العقوبات عن سورية. برّاك يتولى حاليّاً إدارة شؤون سورية ولبنان، وهو يقود التوجّه الأميركي الجديد في المنطقة، ومثل رئيسه، ترامب، يتعامل مع القضايا السياسية الحسّاسة بكثير من “الشخصنة”، بما في ذلك إفراطه في التعبير عن “مشاعر الحب” للسلطة السورية الجديدة، رغم أنه، يدرك، باعتبار جذوره المشرقية (لبنانية)، أن الكثير من الحب قد يكون مؤذياً، لكنه، يعطي، من جهة ثانية، فكرة عن مقدار التحوّل في العلاقة بين دمشق وواشنطن، من العداء إلى الاحتضان، في ستة شهور.