أسهل مقاربة لأي مسألة إشكالية “فيها إنّ”، أن يجلس المراقب في عليائه ليساوي تلقائياً ما بين طرفي النزاع، أي نزاع، فيعطي للعقل إجازة من التفكير ويصفّ كلاماً عاماً مليئاً بصواب سياسي في غير مكانه عن أن الجميع يتحملون قسطاً من الذنب. وما الاقتتال الحالي في السويداء إلا حالة نموذجية لاستسهال إطلاق حكم كهذا. الاقتتال الأهلي ــ الطائفي كما بات معروفاً هو بين مسلّحين من فصائل المحافظة وآخرين ينتمون إلى وزارتي الدفاع والداخلية، يساندون مقاتلي عشائر وبدو، أو هكذا يسمّونهم، ممن نكتشف أنهم يملكون جيشاً مدجّجاً بدبابات وأثقل أصناف الأسلحة، وقد افتتحوا الحرب بخطف مواطنين من السويداء، وبقية القصة باتت معروفة. قد يؤدّي هذا الحدث بالنظر إليه من بعيد على طريقة “الماكرو” والمراوحة في العموميات الوطنية والطائفية، إلى عدم فهم أمر مفيد ومحدّد، ليصبح استعجال مساواة الطرفين خطيئة تحليلية. أما الدخول في “الميكرو” حصراً، في ديناميات الحدث وكيف بدأ وعمر العلاقة الملتبسة بين دروز السويداء وبدو ريفها من السنّة والمناطق الفاصلة بين المحافظة الجنوبية وجارتها درعا وريف دمشق بعداواتها وأزماتها واستغلالها طائفياً وسياسياً من سلطات متعاقبة، فيشوبه خطر الغرق في التفاصيل ونسيان الإطار السياسي العام للانفجار ونمط تعاطي السلطة الوليدة مع مكونات البلد على أساس تمييز مذهبي فجّ، وجرائم طائفية وانتهاكات كثيرة مسجّلة باسمها منذ بداية حكمها قبل نحو ثمانية أشهر.
بين الميكرو والماكرو، بين حكم عام على الحدث انطلاقاً من انحياز طائفي أو سياسي مسبق لأحد طرفي الحرب الأهلية المصغرة، أو الوقوف على الحياد بحجّة أن القصة معقدة وفيها من التاريخ والطبقية والطائفية والسياسة والعوامل الخارجية الإسرائيلية ما نجهله، خصوصاً نحن غير السوريين، يبقى لبّ الموضوع في مكان آخر. لب القصة أنّ من يطمح لبناء وطن، بما أن سورية بحاجة إلى إعادة إعمار وطنية قبل أن تكون هندسية لمنازل ومدن وشوارع، لا بدّ أن يدرك مدى فداحة استهداف مكوّن عدده صغير في البلد، كالدروز، وهم يشكلون ما يناهز 3% فقط من السوريين، يسكنون مناطق لا ثروات طبيعية فيها، وأن المنطق والمشروع الوطني لا يستويان مع الطلب من “الأقليات” في أي بلد متنوّع طائفياً وعرقياً أن يستوعبوا “الأكثرية”. المسؤول من تلك الطينة يعرف أنّ تطمين المكونات وإشراك نخبها في مؤسّسات الدولة بصفتهم مواطنين متساوين مع الآخرين هو حجر الأساس لبناء هوية وطنية وسلم أهلي مستدام ومؤسّسات دولة، وهو ما لا يظهر فعلاً في سورية حالياً، حيث اقتصر فهم السلطة لـ”إشراك الجميع” على تسمية وزير درزي وآخر علوي وكردي ووزيرة مسيحية في الحكومة، في مقابل اقتصار الجيش وقوى الأمن وأجهزة الاستخبارات على عناصر مليشيات إسلامية. ولا شيء مطمئناً في حقيقة أن المحافظين السوريين الـ14 جميعهم تقريباً من أركان هيئة تحرير الشام. لا شيء مطمئناً للمكونات وللمواطنين الأفراد في أنّ سوريين كثر اليوم يحتفلون بوهم إحياء الدولة الأموية، وتمتلئ أحاديثهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بسموم طائفية تملأ الأثير حالياً بمناسبة أحداث السويداء مثلما ملأته بشكل مقرف خلال اقتتال أشرفية صحنايا وجرمانة وقبلهما مجازر الساحل.
هذا شيء عن غلبة الأكثرية وتمدّد تسلط الجماعة الحاكمة في سورية باسم دولةٍ تبنيها على قياسها. لكن ماذا عن طائفية الأقليات؟ عن نزعات انعزالية وانفصالية لدى البعض في السويداء؟ عن مليشيات المحافظة؟ عن رجال دينها الذين لا يفعلون أحياناً كثيرة إلا صبّ الزيت على النار؟ ماذا عن إسرائيل وخبثها في الاستثمار بالانقسام الطائفي؟ يمكن إضافة الكثير على هذه المصفوفة، ولكن كل ما يمكن ذكره لا يحجب حقيقة أن أقصر الطرق إلى تقسيم سورية وإلى زيادة ارتماء سوريين في حضن إسرائيل وإضعاف الوطنية السورية والتشجيع على طلب الحماية من الخارج مواصلة السلطة سلوكها الإقصائي ــ التخويني، سلوك الجماعة لا الدولة، سلوك ديكتاتورية الأكثرية الطائفية التي حلّت مكان ديكتاتورية الأقلية.