***
“كل شيء يبدو أصغر عندما نكبر في العمر، إلا المقابر”
جان ـ باتيست أندريا.
لا أخفي، بداية، أنني كنت متهيبًا بعض الشيء في قراءة كتاب “انتبه لها”، ليس بسبب عدد صفحاته التي تصل إلى 590 صفحة، بل، بالضبط، لأنه حاز جائزة “غونكور”؛ غالبًا ما تأتي الرواية الفائزة مخيبة للآمال، لدرجة أنك تتساءل عن معنى اختيارها هي بالذات، لا غيرها. فمن “المتعارف” عليه ـ فيما لو صح القول ـ أن عليك في العقود الأخيرة أن تتجنب قراءة “غونكور” إن كنت تبحث عن متعة ما في القراءة، وعن معرفة تأخذك إلى فضاءات أرحب. لقد عرفت الجائزة على مدى سنين طويلة كيف تبني لنفسها “سمعة سيئة”، بسبب الصراعات الداخلية بين أعضاء لجنة التحكيم، حيث يرغب كلّ كاتب فيها أن يشدّ الحبل صوب الدار التي تنشر أعماله، متناسين القراءة الفعلية، أو ربما يقرأون، لكنهم يغضون الطرف. لذا عليك، ولكي تضمن ما تبحث عنه، أن تقرأ الروايات “الخاسرة”، لأنها تملك بالتأكيد، سحرًا يجعلك تتعلق بها، أكثر ممّا ستجده في الكتاب المتربع على عرش الجائزة. بيد أنك في النهاية، تعود للقراءة، إذ تقول لنفسك، مهما كان عليه الأمر، فــ”غونكور” تبقى اسمًا علمًا في الخارطة الأدبية الفرنسية، لذا لا بدّ أن تلقي نظرة على الكتاب الفائز، على الأقل من باب العلم بالشيء، أو لنقل لكي تملك معطيات فعلية كي تجد أسبابًا مبررة لرفضك ولنقدك له، ولتكون لك حصتك الخاصة فيما لو أحببت أن “تسخر” مثلًا من هذه الجوائز.
بيد أن ثمة مفاجأة فعلية في كتاب هذا العام، إذ لا تكاد تقطع عشرات الصفحات حتى تكتشف أنك فعلًا أمام كاتب مختلف، أمام رواية مبنية بشكل دقيق، وأمام لغة تأخذك إلى فضاءات جديدة. بل زد على ذلك، تجد نفسك أمام عمل “متخيّل”، حقيقي، يعيد البهاء إلى الكتابة الروائية، بكونها عملًا يعتمد على الخيال وقوته، وعلى تركيب الشخصيات، وعلى اتساع زمنها الروائي، بعيدًا عن مناخات “التخييل الذاتي”، وهي المناخات التي سيطرت في السنين الماضية، على قسم كبير من المنتج الروائي الفرنسي، الذي أُطلقَ عليه “أدب السرّة”، بكونه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحميميات الكاتب، التي قد لا تعنيك كقارئ، ولا تقدم لك أي معرفة سوى ايهامات وفانتسمات، مكتوبة بشكل سيء في أغلب الأحيان.
وبالطبع أستثني بعض الأسماء اللامعة التي عرفت كيف تعيد طرح سؤال الكتابة ومعناه، في أدبها هذا (أفكر بالكاتب المدهش بيير ميشون، على سبيل المثال).
***
بعد أن عمل كاتبًا لسيناريو أفلام سينمائية لمدة عشرين سنة، قرر جان ـ باتيست أندريا أن ينتقل إلى الكتابة الأدبية، الذي أكدّ فيها موهبته منذ روايته الأولى، “ملكتي”، التي صدرت في عام 2017، والتي كانت السبب في لفت أنظار القراء إليه، كما العديد من أنظار النقاد. تدور أحداث روايته هذه في منطقة البروفانس، بوادي لاس. إنه صيف عام 1965، حيث نكتشف الفتى شل، الذي يعيش في محطة وقود مع والديه المسنين، وحيث السيارات لا تمر إلا في ما ندر. لم يكن يتردد إلى المدرسة، بسبب اختلافه عن أترابه. ومع ذلك، يقرر في أحد الأيام أن يرحل، أن يذهب للحرب كي يثبت “أنه رجل”. لكن على الهضبة المطلة على الوادي، لم تندلع أي حرب. لم يكتشف هناك سوى الصمت ورائحة الأدغال، وفتاة ـ كنفحة نفس ـ تظهر أمامه. معها، يعيد اختراع كل شيء. يعيد اختراع عالمه المتهاوي، ليصبح المستحيل الذي كان يبحث عنه، حقيقة. أطاع أوامرها كما لو أن المرء يرمي نفسه من أعلى هاوية. حدث ذلك، من أجل الحبّ. من أجل اللعب. من أجل الرغبة المطلقة. إزاء ذلك كله، أتت رواية “ملكتي” بمثابة قصيدة للحرية والخيال والاختلاف، حيث صَوّر فيها أندريا شخصيات تالفة، أو بالأحرى صَوّر كائنات في انسجام تام مع عالم تنقلب فيه القيم، ليوقع في ذلك على حكاية رقيقة ومبهرة.
هذا الشعر والحب والرغبة المطلقة، كما هذه الحرية والاختلاف والخيال، نعود لنجدها في حبكته الفضفاضة (بالمعنى الإيجابي للكلمة) التي تنبني عليها روايته الرابعة “انتبه لها”، التي تأخذنا معها إلى إيطاليا في فترة ما بين الحربين العالميتين، كي يروي من خلالها الحياة المضطربة لنحات عبقري يقع في حب فتاة أرستقراطية ذات شخصية تعشق المغامرة، وكأنها كائن متفرد سابقة لعصرها. كأن ثمة “هوة لا تمكنه من سبر أغوار حياتها” حيث تفصله عنها “الاتفاقيات والعوائق الطبقية”.
***
تبدأ “انتبه لها” من النهاية، في عام 1986. كان مايكل أنجلو فيتالياني، المعروف باسم “ميمو” ـ وهو نحات شهير ـ على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، في أحد الأديرة بمنطقة “البيمون”، محاطًا بالإخوة الرهبان الذين رحبوا به بينهم قبل أربعين عامًا. كيف انتهى الأمر بهذا الرجل غير المتدين في هذا المكان المنعزل، ما هي حياته وما هي الأسرار التي يخفيها؟ بحسب البعض، كان موجودًا هناك “لحراسة”، آخر أعماله، (منحوتته) التي وضعها الفاتيكان وخبأها في هذا المكان، إذ أنه فضّل إخفائها عن الأنظار بسبب التأثير القوي جدًا الذي تمارسه على كل من يراها ويشاهدها. مع اقتراب حياته من نهايتها، يتذكر ميمو أبرز أحداث وجوده المضطرب الذي يمتد على فترة ثمانين سنة.
هذا الوجود بدأ مع ولادته في فرنسا، في العام 1904، من والدين يعملان في مقلع للحجارة، غادرا مسقط رأسيهما بحثًا عن الثروة. كان صغير الحجم جدًا، وكان قدره أن يبقى كذلك: أن يبقى قزمًا، بسبب مرض أصيب به في طفولته. توفي والده في حرب 1914 ـ 1918. وعندما بلغ الثانية عشرة من عمره، أرسلته والدته إلى إيطاليا إلى “بييترا دالبا”، ليعمل مع “عمّه” زيو ألبرتو، النحات (يعمل في مقلع الحجارة أيضًا) الوحشي وعديم الموهبة، المدمن على الكحول، البخيل والعنيف، الذي قبل على مضض أن يستقبل هذا “القزم” ليعمل في خدمته. ومع ذلك، عرف ميمو كيف يستغل مواهبه الهائلة، التي بدت تظهر عليه. أثناء العمل في قلعة عائلة أورسيني التي تحكم المنطقة، وهي أكبر عائلات تلك المنطقة وأغناها، يلتقي ميمو بابنتهما الوحيدة فيولا. فغيّر هذا اللقاء حياته إلى الأبد.
قصة حب مؤثرة بين طفلين يفصل بينهما كل شيء. لم تكن العلاقة مع فيولا بسيطة، كما أنها لم تكن متوازنة دومًا. ومع ذلك فقد دامت هذه العلاقة طويلًا. دامت حياة بأسرها، وكأن مغناطيسًا ما كان يجذبهما إلى بعضهما البعض. صحيح أنهما كانا يتشاجران ويتعاركان ويبتعدان، إلا أنهما كانا يعودان ليلتقيا دومًا، وكأنهما خُلقا لكي لا يترك أحدهما الآخر بتاتًا. من هذا المنظور، كان كل لقاء بينهما أشبه بنفس، بنفحة، ينتقل من الواحد إلى الآخر، قبل أن يعودا ويستأنفا ما نسميه الحياة الحقيقية. هل هي الرومانسية؟ ولِم لا. من قال إنه علينا أن نتخلى عنها. أبدًا.
على مرّ مراحل الكتاب، نجد أن كلّ شخص منهما بنى طريقه الخاص. تتزوج فيولا في ظروف صعبة، ويصبح ميمو نحاتًا عظيمًا فاضت شهرته من روما إلى فلورنسا. ولكن في كل مرة، عند العودة إلى قرية بييترا دالبا، يلتقي الطفلان اللذان يتقدمان في العمر سنة وراء أخرى، مثلما كانا يلتقيان في المقابر وهما صغيران بعيدًا عن الحواجز الاجتماعية. هو لقاء يعود ليجدد السحر بينهما من جديد.
***
بيد أن رواية “انتبه لها” لا تقف عند حدود هذه العلاقة بين ميمو وفيولا. إننا في الواقع أمام لوحة جدارية هائلة تتتبع تاريخ إيطاليا بين الحربين العالميتين، بدءًا من صعود الفاشية، ووصول بينيتو موسوليني إلى السلطة. في هذا السياق السياسي والاجتماعي المثير للانقسام، يصور الروائي شخصياته، حيث يلعب كل فرد أوراقه، مع السلطة أو ضدها. ميمو في قمة فنه، يستغل الفرص التي توفرها له صداقة عائلة أورسيني، التي فهمت أيضًا المزايا التي يمكن أن تجلبها لها مواهب النحات… لكن في منتصف، كانت هناك فيولا، الشخصية الأكثر ذكاءً، والعضو الأكثر ثقافة في هذه “العشيرة”، والتي كانت تنتقد القوة الفاشية بشدة كبيرة.
تأتي رواية جان ـ باتيست أندريا بطريقة مصممة بشكل مثالي، وكأنها ترغب أن تعرض افكارها بكتابة واضحة ومبتكرة، وبخاصة حين تغمرنا بتاريخ تلك البلاد السياسي، لتقيم أيضًا رابطًا مع إيطاليا التي شهدت ولادة عدد من الفنانين العباقرة. هذه هي إيطاليا “مملكة الرخام والقمامة. بلدي” كما يقول ميمو.
***
كما في “ملكتي”، يروي جان ـ باتيست أندريا قصة الحب الذي ولد في مرحلة الطفولة، والمبني على قَسَم لا يتزعزع. وهكذا، فإن ميمو وفيولا، على الرغم من تقلبات الحياة والمشاجرات، وسوء الفهم، ينتهي بهما الأمر دائمًا بالعثور على بعضهما بعضًا. هذا الحب الأفلاطوني سوف يُوَلد أكثر أعماله إثارةً، وأعظم أعماله الفنية. لكننا، للأسف، لا نشهد ولا نقرأ، طيلة العمل، أي وصف لهذا النحت أبدًا، فالتفاصيل غائبة خلال السرد، باستثناء التأثيرات التي يخلقها، لذا تبقى هذه المنحوتة غامضة حتى النهاية.
لكن في موازاة ذلك، يقدم جان ـ باتيست أندريا صورة جميلة لامرأة شجاعة وذكية وحرة تقع في حب شخصية ذات مزاج معذب، وكأنه يقف في منتصف مكان ما بين أن يكون ملاكًا، أو ولدًا سيئًا، فمواهبه كنحات تتحفز من جراء الحب الذي يكنه لفيولا. بينما في المقابل، تدعو الشابة، ميمو للقراءة، “لأن يزرع نفسه فيها” كي يهرب من حالته وشرطه التاريخي والاجتماعي، كشخصية تنويرية. انطلاقًا من هذه الثقافة المتحصلة عبر القراءات، يتحول ميمو كما نحته، وكأنه صار لا ينحت شكلًا، بل يزيل الأحجار الخارجية، ليخرج روح الشيء الموجود داخل الحجر. فالرواية أيضًا هي تأمل فلسفي عميق في معنى النحت، في معنى الفن. هل لذلك لم يرغب الكاتب في توصيف هذه المنحوتة التي أدهشت الجميع؟ هل أنها تمثل فيولا، وبخاصة حين يصف جمالها الخلاب؟ بمعنى أن القراءة الشخصية، تجعلنا نفكر بهذه المقارنة، حين تغيب صورة الحجر، تحضر صورة الجسد البشري الرخامي. أسئلة مشروعة. لكن الأهم أنها تبقى أسئلة من دون أجوبة. كل فن كبير هو سؤال بالدرجة الأولى، وحين يقدم جوابًا، لا يعود فنًا. فالرخام، هو أيضًا رخام المقابر. من هنا علينا أن نقرأ هذا المثلث الرخامي، أو بالأحرى هذا الثالوث: رخام الفن، رخام الجسد، ورخام المقابر.
تغمرنا رواية الحب هذه في جو قريب من روايات الفروسية كتلك التي كنّا نقرأها في زمن “الحب المهذب”، في جو شبه سحري، بحبكة فيها تقلبات متعددة وشخصيات ملونة لتضيء بنورها هذه الفترة المظلمة من تاريخ إيطاليا وتغمر هذه الحقبة المضطربة بما يكفي كي تكشف عن عظمة وبؤس النفس البشرية.
***
بالطبع، إن كتاب “انتبه لها” عبارة عن لوحة جدارية روائية، فيها عدد من الأحداث المؤسفة التي تتضمنها القصة. لكن هذا الكتاب هو أيضًا دعوة رائعة لشم رائحة الليل، ورائحة الكانولي، وأشجار برتقال أورسيني، والحجر، دائمًا الحجر. وإذا كان المؤلف أيضًا يغرقنا أحيانًا في تراب بعض المدن الإيطالية، فذلك لإظهار ثراء قلمه، الذي نكافح من أجل تركه، صفحة بعد صفحة.
ثمة غنى في هذا الكتاب يُظهِر، في بعض النواحي، طموحًا مُقاسًا. إذ أن “انتبه لها” ليس كتابًا يقتصر على أهواء القدر التي تقذف ميمو وفيولا بعيدًا عنها. يبتعد جان- باتيست أندريا أحيانًا عن الروائية الميدانية لينسج تأملات دقيقة حول الفن، أو نهاية الطفولة، أو الحب، أو حتى النقوش البارزة في إيطاليا، البلد الذي، من الواضح، أنه ألهم جائزة “غونكور” الرائعة جدًا. ربما أيضًا لأن الكاتب لم يختر إيطاليا عن طريق الصدفة، إذ أنها أرض أجداده التي حلم بها كثيرًا، بعد أن انقطع عنها. بلد أنجب كثيرًا من العباقرة، بلد رومانسي، إن وجد، يسمح للمؤلف بنشر الكتابة التي لا تتردد في لمس حس معين.