
………………………………………
يقول فيصل: ما اكتبه عن السجن ليس لاستدرار العواطف، ولكن لتأثيم السجن والسجان، من أجل النضال للوصول الى حياة خالية من السجن. لا يوجد شيء أقسى من السجن، حتى الموت أهون.
……………………………..
لا يمكن أن أكتب كل شيء عن تجربتي في السجن، لأنها تجربة خاصة جدا، تتضمن الكثير من المشاعر الشخصية تجاه الاخرين، وبالتالي يمكن أن يكون فيها بعض الظلم للبعض، الذين أمضوا ردحا من عمرهم في المعتقل. فلا يمكن أن أظلم أحدا، وخاصة ممن كانوا معي. لذلك سوف أحاول الابتعاد قدر الإمكان عن كثير من الأمور الملتبسة.
ما أقصده أن هناك أخطاء ارتكبناها في سياق حياتنا المشتركة في السجن. لأن الخلافات التي جرت بيننا هي تفاصيل بسيطة تتعلق بحياتنا اليومية. فحياة السجين مليئة بالتفاصيل البسيطة، بل والتافهة، التي ربما لا تثير انتباه الاخرين. لو قيض للآخرين التلصص على حياتنا من خارجها، لسخروا من خلافاتنا، واعترتهم الدهشة من كونها خلافات بسيطة لا يمكن أن تثير انتباه أي انسان، حتى البسيط، فما بالك بتلك المجموعة التي طرحت على نفسها تغيير المجتمع والسلطة وتحقيق منجزات ضخمة كالعدالة الاجتماعية. ولكن نفس هذه الخلافات وقعت في مهاجع أخرى لناس اعتقلوا لأسباب قضائية، كان ثمنها غال جدا، وصل الى الضرب العنيف، ثم تدخلت إدارة السجن وعاقبهم عقوبات شديدة. ما جعلنا نتميز عنهم أننا استطعنا إدارة الخلافات إدارة حكيمة بكثير من الهدوء والصبر، وبعيدا عن إدارة السجن.
إضافة الى ما ذكرت، هناك مشكلة أخرى تتعلق بالكتابة عن السجن، وهي كيف يمكن للمرء أن يوفق بين الامانة للحدث الذي وقع، وبين مراعاة مشاعر الاخرين، الذين كانوا جزءا من الحدث. إن كان مطلوبا مني أن اسرد الواقعة كما جرت تماما، سوف أكشف مساوئ الاخرين المشاركين في هذا الحدث، وأنا واحد منهم.
هذه المعضلة أخذت مني بعض الوقت. انتهيت الى حجة تقول إن الناس في سياق حياتهم يخطئون، وهذا الخطأ نابع من الطبيعة البشرية المفطورة على الخطأ، ولا يوجد انسانا من صنف الملائكة. هذه الحجة اراحتني كثيرا وخففت عن ضميري التأنيب الذي سينجم عن ذلك.
السجن هو عالم التفاصيل الصغيرة، عالم الخلافات حول التفاصيل الصغيرة والمحدودة. فحياتنا في المعتقل محدودة جدا، تتعلق بالمكان والنوم والطعام والكلام، بمعنى الصوت، والتدخين، والتمييز بين حياة المساجين فيما بينهم، بمعنى هناك من يأكل طعاما افضل لأنه يمتلك نقودا، وهناك من يعتمد على طعام السجن. فالحصول على بيضة مسلوقة زيادة يعتبر ثروة. كان أحد الأصدقاء يردد دائما مازحا: عندما أخرج سأشتري سحارة بندورة.
في الحقيقة لم نعاني من المشاكل التي تتعلق بالطعام والتدخين واللباس، لأننا استطعنا إدارة حياتنا بطريقة ممتازة. وانطلاقا من قيمنا التي نؤمن بها، وهي العدالة والاشتراكية، جعلنا طعامنا مشتركا ولباسنا مشتركا والتدخين متساو فيما بيننا، وحتى نقودنا كانت مشتركة. انتخبنا لجنة اجتماعية تهتم بإدارة حياتنا الاجتماعية. فكل ما نملك، وكل ما يأتينا اثناء الزيارات من طعام ولباس ونقود وتبغ تأخذه اللجنة وتعيد توزيعه علينا بالتساوي، بغض النظر عن صاحب الزيارة. بهذه الطريقة استطعنا ان نحقق المساواة، واستطعنا ان نساعد من لا يستطع اهله زيارته أو لا يستطيعون تقديم ما يلزمه من نقود. فكان الغني يتساوى مع الفقير في كل شيء. وبالتالي هذه المعضلة لم نعاني منها أبدا فيما يخص الطعام واللباس والتدخين وحتى النقود.
الخلافات او المشاكل التي حصلت، كانت تتعلق حقيقة بالوضع النفسي لكل انسان، وتتعلق بالخلافات السياسية التي نجمت بيننا فيما بعد. حصلت مراجعات سياسية وحتى فكرية، بسبب الكتب الوفيرة والمتنوعة التي حصلنا عليها. من قرأ أكثر، وخاصة كتب متنوعة، تمايز موقفه أكثر وافترق عن المجموع. هذا التمايز خلق خلافا كبيرا، لم يبق في إطار الخلاف السياسي، وإنما انسحب على الحياة الشخصية لكل منا.
أما الوضع النفسي لمجموعنا فكان سيئا. يمكن القول لم نكن بخير، وذلك يعود للسجن وتأثيره على الكائن المفكر، الذي يفكر ويشعر ويتألم ويفرح ويحزن.
في المعجم:
سَجَّنَ كفعل تعني الحبس أو المبالغة في الحبس.
و سَجَّنَ الشَّيْءَ : شَقَّقَهُ.
و سَجَنَ الهَمَّ : أَخْفَاهُ.
و سَجَنَ في دَيْرٍ: دَخَلَ حَيَاةَ الرَّهْبَنَةِ.
و سجَن لسانَه: لم يتكلّم.
كل تلك المعاني كانت معنا، رافقتنا طيلة فترة السجن، وابتلينا بها، وعانينا منها، اضافة الى المعنى التقليدي وهو سلب الحرية.
حريتنا سلبت، وكف لساننا عن الكلام مع الاخرين، ولن نخرج من أسوار السجن وخاصة النفسية، كما الراهب الذي لن يخرج من رهبنته. اما المعنى الاخير والاهم هو التشقق، فكان له نصيب الأوفر من أرواحنا. لقد تشققت ارواحنا. نعم تشققت، ولا أبالغ إن قلت إنني فيصل اخر بعد السجن، فيصل لا يعرف نفسه، مغتربا عن حاله، فيصل بلا هوية وبلا تعريف. فيصل مجرد اسم لكائن اخر، يصعب أن اتعرف عليه. امضيت كل تلك السنين منذ لحظة خروجي من السجن وحتى الان وانا أحاول أن اتعرف على نفسي. اشعر أنني أطارد شبحا يصعب القبض عليه. أنا الان اسأل نفسي: من أنا؟ لا جواب، او يمكن القول إنني كائن مجهول، احتل هذا الجسد، الذي كانت ملكيته تعود لفيصل، الانسان قبل السجن، المهندس الناجح، الصديق الرائع، الزوج الوفي والمحب، الأب المفتون بابنته، الذي يتعلق بطفلة هي مهجة العين وأمل المستقبل. أما الان، وقبل الان، ومنذ 26 سنة، بل قبل ذلك، منذ مجريات التحقيق بدأت اتفارق مع روحي، وبدأت اتغير. روحي السابقة رحلت مع أول كبل هوى على رأسي، لتحل محلها روح اخرى لكائن اخر، يمكن وصفه بأنه كائن محطم الروح، مكسور الفؤاد. انسان شقق السجن كل شيء فيه الى درجة مريعة..
أنا واحد من مجموع، مارس السجن أعتى هجوما مدمرا علينا. كان التدمير متفاوتا تبعا لكل انسان وتكوينه الداخلي، ولكن في المحصلة تركنا كائنات مفتتة.
لا أحد يعرف ماذا يفعل الزمن بالسجين. ومن الصعوبة بمكان أن أصف هذا الفعل المدمر الماحق للوحدة العضوية والنفسية للكائن المسجون. الزمن أشبه بالدودة الصغيرة، حشرة أو فيروسا غير عضوي، يمكن تسميته تجاوزا ” فيروسا نفسيا”. ما برح يحفر في الروح بشكل يومي، بل بشكل لحظي. يصنع أنفاقا طولية وعرضية في النفس، ويدخل ويتعمق الى أن يصل الى نخاع النفس، الى نقي الروح. عندما ينظر السجين الى جسده في المرآة، أو عندما يرى الناس السجين، إثر خروجه من المعتقل، يرون فيه الرجل الصلب المناضل، الذي قارع أعتى الديكتاتوريات، وقال كلمة حق بوجه الطاغية، وها هو يخرج من المعتقل مزهوا بنفسه، ومعتدا بإنجازاته، ليستأنف حياة كان قد تركها قبل سنوات. كل ما قلته صحيحا، ولكنه في الأعماق يحمل روحا هشة، منخورة من الداخل. هو بقايا انسان يحمل تجربة هائلة لحياة معذبة. هو أشبه بطاولة مصنوعة من السنديان، على سطحها كل الأشياء الجميلة والممتعة، ولكن قوائمها منخورة من الداخل، وسوف تهوي على الأرض في أية لحظة. .
من هنا يمكن فهم الخلافات التي كانت تحصل بيننا بسبب هذه الروح التي كانت تدمر يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة. هذا التدمير كان يخرج أو يتمظهر بتوتر وعصبية، وضيق شديد، ومشاعر عدوانية تجاه بعضنا البعض.
اسر لي محمد حجي، الملقب بالحاج، أنه كان يتخيل صراعا عنيفا مع سمير، جاره في المكان، لأنه شعر أن الاخير طلب منه السكوت أثناء النقاش البارحة. انتهى النقاش، ومضى اليوم، واعقبه اخر واخر، ولكن بقي سمير جارا للحاج، وبقيت مظلوميته ماثلة أمامه وكلما تحدث سمير أو ضحك. كبرت مع الوقت مظلومية الحاج، ولم يستطع الهروب منه، أو الهروب من سمير وشخصيته الفجة. تحولت المظلومية الى دافع عدواني تجاه سمير. كبر هذا الدافع مع الوقت واستفحل في نفسية الحاج. ولأنه غير قادر على تنفيذ أو تصريف عدوانيه، راح يفرغ تلك العدوانية في متخيل شديد العدوانية. تخيل أنه طرح سمير الأرض، وبدأ يضربه ويلكمه على وجهه حتى أدماه. وفي مرات اخرى تخيل أنه يجلد عبد الله لأنه قال بحقه كلمات سيئة في معرض نقده له. جلده، في مخيلته، كما جلد السجان الحاج في مجرى التحقيق معه قبل اعوام. ظل يجلد عبد الله حتى ادماه، ثم جعله ينهض ويرقص كي يرى الالم على وجهه. هكذا راح يصرف الحاج عدوانيته النابعة من السجن. من يعرف الحاج يدرك فداحة السجن، وكيف يمكن أن يحول الجوهرة الى طين. الحاج المبتسم والمتفائل دائما، والمحب للاخرين وللاصدقاء، حوله السجن الى رجل ينتقم من الجميع في خياله.