
ثلاث صفحات من فصل من رواية. ابنة فيصل، أُمنية، تروي قصتها.
……………………………
يكتب الصديق نصار تعليقا على هذا الفصل:
” ينتقل السرد إلى مستوى مختلف عما اعتدنا عليه، من أدب السجون: الاغتراب المتبادل بين طفلة عاشت في كنف جدها الميسور الحال بل الغني، وأب يخرج من السجن و ” معتر ” على كل الأصعدة..
بهذا المعنى أعتقد أنك تحاول الكلام عن الضمائر الغائبة وهم عائلة السجين الصغيرة خاصة.”
………………………………………………………..
أُمنية تروي.
أبي يحمل اثقال الماضي على ظهره، ويريد مني أن أحملها أنا أيضا. لماذا أحمل ماضيا ليس ماضيً أنا. لماذا أتحمل أعباء خيارات ليست خياراتي. إنه ماضيه هو، وخياراته هو. اختار أن يكون شيوعيا، ومعارضا للنظام في وقت لم أُولد بعد. ورثت عنه بعض جيناته، فلماذا ارث بعض خياراته!
عندما عشت في كنفه وعمري ثلاثة عشر عاما، كان قد أمضى عشر سنوات في السجن، وأنا أمضيت إحدى عشرة سنة في كنف جدي الدكتور رأفت. عالمان متناقضان الى أبعد حد. منحني جدي كل شيء، العاطفة والحنان، والكثير من الأفكار. اهتم جدي، وجدتي بالتأكيد، بكل تفاصيل حياتي. لذلك تأثرت به وبأفكاره تجاه الحياة. كان غنيا، فمنحني طفولة سعيدة. غرس في أعماقي بذور الطموح وروح المنافسة والتحدي والتطلع لأن أكون رقم واحد في كل شيء. تربيته لي جعلتني أنظر الى الحياة على أنها حلبة صراع، والبقاء للأقوى. جعلني أحب الحياة بكل ما فيها من بذخ ومتع. بالمقابل جعلني أحب نفسي، وأهتم بها. كان يقول لي، اهتمي بنفسك، كوني نفسك ولا تعيري اهتمام للاخرين وما يقولونه عنك. من قواعده الذهبية، من يملك المال يملك كل شيء.
لم يتحدث عن أبي بسوء، ولكن لم يكن معجب به، ولا بخياراته، ولا برؤيته للحياة. كان يقول لي: “ابوك اختار أن يكون فقيرا، وسوف يبقى فقيرا طيلة حياته. هناك ناس يتعاطفون مع الفقراء والفقر الى درجة التقديس. لا يميزون بين التعاطف مع الفقير وبين أن يكونوا فقراء. هؤلاء لا يمكن أن يصبحوا في يوم من الأيام أغنياء، وسوف يعيشون طيلة حياتهم في بؤس وعوز. على المرء أن يكون غنيا، وأن يتطلع الى الرفاهية، وتكون حياته سعيدة، وهذا لا يتحقق الى في المضي الى الامام والارتقاء ولا يلتفت الى الخلف. لا يهم كيف تصل الى القمة، ولكن المهم أن تصل”.
هذه فلسفة جدي عن الحياة. ويمكن القول إنني تأثرت بها الى حد كبير. بينما فلسفة ابي هي على النقيض من ذلك. تقديس الفقر والفقراء، وهذا ما كان سببا لخلاف استمر حتى وفاته.
قالت لي أمي أنني زرته ثلاث مرات برفقتها، عندما كان في السجن. كان عمري سنتين ونصف السنة الى أن أصبح عمري ثلاث سنوات ونصف السنة. ثم منع جدي رأفت أمي أن تأخذني معها لزيارة أبي.
عندما خرج من السجن، أصر أن انتقل للعيش معه. لم ارغب في ذلك، لأنني لم أكن اعرفه. كنت أنظر اليه على أنه رجل غريب. مفهوم الابوة لم يترسخ في ذهني، لم اشعر به. كان هناك اب بديل، جدي هو الذي رباني ومنحني كل المشاعر والاحاسيس التي تعطى للطفل من قبل الاب. كانت أمي قد توفيت، وكنت أعيش حالة حزن وفقد شديدين. حاول كل من جدي وجدتي أن يعوضاني عن فقدان الام، بعد أن عوضاني عن فقدان الاب. ولكنني بقيت أحن الى أمي وابكي في الليل، وعندما أرى الأطفال برفقة أمهاتهم. كنت أقول، لماذا أنا!؟
عندما خرج من السجن، كنت أحاول جاهدة الخروج من عالم فقد الام. بدأ يصر أن أعود للعيش معه، وأنا لم أكن جاهزة نفسيا لذلك. ثم بدا الصراع بينه وبين جدي. كل منهما حاول الانتقام من الاخر من خلالي. كنت الوسيلة، أو كما يقولون في عالم السياسية، الورقة التي من خلالها يتم الضغط على الطرف الاخر. كنت أحب أن أبقى في بيت جدي، وأشعر بالغربة مع أبي، ولكن كان للخلاف بينهما أثر كبير على حياتي ومشاعري. كلاهما لم يهتما بي وبمشاعري بمقدار ما اهتما بتفوق أحدهما على الاخر. هذا ما قالته جدتي مرة بحضورهما وحضوري. كان ذلك في جلسة عاصفة من الخلاف الشديد والاتهامات المتبادلة بينهما. وقتها ولأول مرة صرخت جدتي بكل ما تستطيع من قوة، وطلبت منهما التوقف، والنظر الى مصلحتي كطفلة ممزقة المشاعر والعواطف. وقتها وصل الصراع بينهما الى ذروته، وتنازل جدي عن حضانتي لأبي، الذي هدد باللجوء الى القضاء.
انتقلت للعيش في بيت أبي رغما عني. كانت مشاعري تجاهه غريبة ومتناقضة. شعرت أنه رجل حزين وبائس وفقير، ولكنني شعرت بالمقابل أنه رجل قوي وعنيد وذو بائس شديد. اشعر بالعاطف معه لأن حياته فقيرة بالمقارنة مع حياة جدي وجدتي، وأشعر بالنفور من أفكاره التي كنت لا افهمها لغرابتها بالنسبة لي في ذلك الوقت. لم يكن يهمني ما يحمل من أفكار نبيلة، بمقدار ما كان يهمني من أن أعيش كما اريد، وكل ما أطلبه يجب أن يتحقق. هكذا كانت حياتي قبل أن أنتقل للعيش معه.
لم يمنحني الحب والحنان. لم يضمني مرة، أو يربت على رأسي، ويسمعني كلاما لطيفا، كما كان فعل جدي رأفت، الذي كان يغمرني بكل الحنان الموجود في أعماقه، ويسمعني الكلمات اللطيفة الجميلة. كانت المقارنة دائما موجودة في ذهن الطفلة أمنية بين جدي وأبي.
أدركت في وقت لاحق أنه يحبني جدا. أكثر من مرة رأيته يبكي لوحده. حدث هذا بعد خلاف بيني وبينه. كان ينزوي ويبكي لأنه لم يكن قادرا على تلبية رغباتي المادية. سمعته يقول لجدتي مرة أنني أشكل كل حياته، وأنه يعيش لأجلي، وأن الحياة لا معنى لها إذا لم أكن على وفاق معه. ولكن هذا الكلام لم يكن يعني لي كثيرا. كان ذلك في فترة مراهقتي المجنونة. كانت الهرمونات تعصف بجسدي وبنفسيتي ولم أكن أرى إلا رغباتي.
لا يعرف أبي أن يوصل مشاعره للطرف الاخر. كان يحتفظ بها لنفسه، ويترجمها بطريقة عكسية. يترجمها بحرص ونظام ابوي قمعي مبني على أوامر ونواهي. افعلي ولا تفعلي. هذا ممنوع وهذا مسموح. هذه الطريقة فجرت خلافا شديدا بيني وبينه، وحولت حياتي معه الى جحيم.
السنة الأولى من حياتنا المشتركة كانت قاسية ومريرة الى أبعد حد. أراد أبي أن يطبق حياة ونظام السجن على حياتنا. النوم في وقت محدد، والاستيقاظ في وقت محدد. الفطور والغداء والعشاء في أوقات محددة. نظام الطعام والمصروف كان يتميز بالتقتير. يجب عدم اهدار حتى قطعة الخبز الصغيرة واليابسة. مثلا كان يجفف الخبز القديم ثم يستخدمه في الشوربا ولا يرميه في القمامة. بسبب الفقر، او لنقل الدخل المحدود والقليل، لا يوجد حلويات ولا فواكه في البيت، ولا مشاوير ولا رحلات ولا سينما، او أي نوع من أنواع الترفيه. فرض روتينا يوميا مملا، العمل ثم البيت ثم العمل وهكذا. فرض عليً نفس الروتين، البيت، المدرسة ثم البيت. دائرة مكررة من حياة فقيرة وبائسة ومملة الى ابعد حد.
عالم أبي هو عالم الصمت. يأتي من العمل، يجلس لوحده، يصغي الى الاخبار، ثم يقرأ في كتاب ما، ثم يغوص في عالم لا أعلم عنه أي شيء. وقتها كنت اشعر بتعاطف تجاهه، حتى أنني بكيت مرة وبصمت ودون أن يدري. الخلافات بيننا كانت شبه دائمة وعاصفة. كنت استفزه الى أبعد حد عندما أقارنه بجدي. كان يرفض مجرد المقارنة، ويتهم جدي بالفساد وبأنه رجل بلا أخلاق، باع نفسه لنظام متوحش ومجرم. لم أكن أدرك تلك المفردات ولا اعرف معانيها، إنما كنت أغضب لجدي. بعد كل شجار أذهب الى جدتي، وأرتمي في حضنها وأبكي. تحتضنني، وتسمعني كلمات لطيفة، وتوعدني بمشوار برفقة جدي عندما يعود من المشفى.
يأتي جدي، ويأخذني معه. كنت اشعر بالزهو برفقته، وبأنني انسانة متميزة، وأعلى شأنا من كل من التقي بهم. كنت أجلس الى جانبه في سيارة مرسيدس حديثة الطراز، لا يركبها الا الوزراء. ما أن أجلس في السيارة حتى أنظر الى جميع المارة بأنهم اقل شأنا منا. كانت رؤيتي للأشياء والناس تختلف عنها عندما أمشي برفقة بابا. نتابع مشورانا، انا وجدي، نتجول في الأسواق، وندخل الى أفضل المطاعم، ونشتري أجمل الثياب لي وله.
كل ذلك التقتير ليس ناجما من بخل في طبيعة أبي، وإنما من حالة الفقر الذي كان يعيشها. تم فصله من عمله كمهندس، ورفضت كل شركات العامة والخاصة أن توظفه لديها كمهندس. عمل في قطاعات كثيرة كعامل، وبأجر زهيد. الاجر الذي يحصل عليه جدي في يوم واحد يعادل أجر ابي في سنة، وليس في شهر.
” ينتقل السرد إلى مستوى مختلف عما اعتدنا عليه، من أدب السجون: الاغتراب المتبادل بين طفلة عاشت في كنف جدها الميسور الحال بل الغني، وأب يخرج من السجن و ” معتر ” على كل الأصعدة..
بهذا المعنى أعتقد أنك تحاول الكلام عن الضمائر الغائبة وهم عائلة السجين الصغيرة خاصة.”
………………………………………………………..
أُمنية تروي.
أبي يحمل اثقال الماضي على ظهره، ويريد مني أن أحملها أنا أيضا. لماذا أحمل ماضيا ليس ماضيً أنا. لماذا أتحمل أعباء خيارات ليست خياراتي. إنه ماضيه هو، وخياراته هو. اختار أن يكون شيوعيا، ومعارضا للنظام في وقت لم أُولد بعد. ورثت عنه بعض جيناته، فلماذا ارث بعض خياراته!
عندما عشت في كنفه وعمري ثلاثة عشر عاما، كان قد أمضى عشر سنوات في السجن، وأنا أمضيت إحدى عشرة سنة في كنف جدي الدكتور رأفت. عالمان متناقضان الى أبعد حد. منحني جدي كل شيء، العاطفة والحنان، والكثير من الأفكار. اهتم جدي، وجدتي بالتأكيد، بكل تفاصيل حياتي. لذلك تأثرت به وبأفكاره تجاه الحياة. كان غنيا، فمنحني طفولة سعيدة. غرس في أعماقي بذور الطموح وروح المنافسة والتحدي والتطلع لأن أكون رقم واحد في كل شيء. تربيته لي جعلتني أنظر الى الحياة على أنها حلبة صراع، والبقاء للأقوى. جعلني أحب الحياة بكل ما فيها من بذخ ومتع. بالمقابل جعلني أحب نفسي، وأهتم بها. كان يقول لي، اهتمي بنفسك، كوني نفسك ولا تعيري اهتمام للاخرين وما يقولونه عنك. من قواعده الذهبية، من يملك المال يملك كل شيء.
لم يتحدث عن أبي بسوء، ولكن لم يكن معجب به، ولا بخياراته، ولا برؤيته للحياة. كان يقول لي: “ابوك اختار أن يكون فقيرا، وسوف يبقى فقيرا طيلة حياته. هناك ناس يتعاطفون مع الفقراء والفقر الى درجة التقديس. لا يميزون بين التعاطف مع الفقير وبين أن يكونوا فقراء. هؤلاء لا يمكن أن يصبحوا في يوم من الأيام أغنياء، وسوف يعيشون طيلة حياتهم في بؤس وعوز. على المرء أن يكون غنيا، وأن يتطلع الى الرفاهية، وتكون حياته سعيدة، وهذا لا يتحقق الى في المضي الى الامام والارتقاء ولا يلتفت الى الخلف. لا يهم كيف تصل الى القمة، ولكن المهم أن تصل”.
هذه فلسفة جدي عن الحياة. ويمكن القول إنني تأثرت بها الى حد كبير. بينما فلسفة ابي هي على النقيض من ذلك. تقديس الفقر والفقراء، وهذا ما كان سببا لخلاف استمر حتى وفاته.
قالت لي أمي أنني زرته ثلاث مرات برفقتها، عندما كان في السجن. كان عمري سنتين ونصف السنة الى أن أصبح عمري ثلاث سنوات ونصف السنة. ثم منع جدي رأفت أمي أن تأخذني معها لزيارة أبي.
عندما خرج من السجن، أصر أن انتقل للعيش معه. لم ارغب في ذلك، لأنني لم أكن اعرفه. كنت أنظر اليه على أنه رجل غريب. مفهوم الابوة لم يترسخ في ذهني، لم اشعر به. كان هناك اب بديل، جدي هو الذي رباني ومنحني كل المشاعر والاحاسيس التي تعطى للطفل من قبل الاب. كانت أمي قد توفيت، وكنت أعيش حالة حزن وفقد شديدين. حاول كل من جدي وجدتي أن يعوضاني عن فقدان الام، بعد أن عوضاني عن فقدان الاب. ولكنني بقيت أحن الى أمي وابكي في الليل، وعندما أرى الأطفال برفقة أمهاتهم. كنت أقول، لماذا أنا!؟
عندما خرج من السجن، كنت أحاول جاهدة الخروج من عالم فقد الام. بدأ يصر أن أعود للعيش معه، وأنا لم أكن جاهزة نفسيا لذلك. ثم بدا الصراع بينه وبين جدي. كل منهما حاول الانتقام من الاخر من خلالي. كنت الوسيلة، أو كما يقولون في عالم السياسية، الورقة التي من خلالها يتم الضغط على الطرف الاخر. كنت أحب أن أبقى في بيت جدي، وأشعر بالغربة مع أبي، ولكن كان للخلاف بينهما أثر كبير على حياتي ومشاعري. كلاهما لم يهتما بي وبمشاعري بمقدار ما اهتما بتفوق أحدهما على الاخر. هذا ما قالته جدتي مرة بحضورهما وحضوري. كان ذلك في جلسة عاصفة من الخلاف الشديد والاتهامات المتبادلة بينهما. وقتها ولأول مرة صرخت جدتي بكل ما تستطيع من قوة، وطلبت منهما التوقف، والنظر الى مصلحتي كطفلة ممزقة المشاعر والعواطف. وقتها وصل الصراع بينهما الى ذروته، وتنازل جدي عن حضانتي لأبي، الذي هدد باللجوء الى القضاء.
انتقلت للعيش في بيت أبي رغما عني. كانت مشاعري تجاهه غريبة ومتناقضة. شعرت أنه رجل حزين وبائس وفقير، ولكنني شعرت بالمقابل أنه رجل قوي وعنيد وذو بائس شديد. اشعر بالعاطف معه لأن حياته فقيرة بالمقارنة مع حياة جدي وجدتي، وأشعر بالنفور من أفكاره التي كنت لا افهمها لغرابتها بالنسبة لي في ذلك الوقت. لم يكن يهمني ما يحمل من أفكار نبيلة، بمقدار ما كان يهمني من أن أعيش كما اريد، وكل ما أطلبه يجب أن يتحقق. هكذا كانت حياتي قبل أن أنتقل للعيش معه.
لم يمنحني الحب والحنان. لم يضمني مرة، أو يربت على رأسي، ويسمعني كلاما لطيفا، كما كان فعل جدي رأفت، الذي كان يغمرني بكل الحنان الموجود في أعماقه، ويسمعني الكلمات اللطيفة الجميلة. كانت المقارنة دائما موجودة في ذهن الطفلة أمنية بين جدي وأبي.
أدركت في وقت لاحق أنه يحبني جدا. أكثر من مرة رأيته يبكي لوحده. حدث هذا بعد خلاف بيني وبينه. كان ينزوي ويبكي لأنه لم يكن قادرا على تلبية رغباتي المادية. سمعته يقول لجدتي مرة أنني أشكل كل حياته، وأنه يعيش لأجلي، وأن الحياة لا معنى لها إذا لم أكن على وفاق معه. ولكن هذا الكلام لم يكن يعني لي كثيرا. كان ذلك في فترة مراهقتي المجنونة. كانت الهرمونات تعصف بجسدي وبنفسيتي ولم أكن أرى إلا رغباتي.
لا يعرف أبي أن يوصل مشاعره للطرف الاخر. كان يحتفظ بها لنفسه، ويترجمها بطريقة عكسية. يترجمها بحرص ونظام ابوي قمعي مبني على أوامر ونواهي. افعلي ولا تفعلي. هذا ممنوع وهذا مسموح. هذه الطريقة فجرت خلافا شديدا بيني وبينه، وحولت حياتي معه الى جحيم.
السنة الأولى من حياتنا المشتركة كانت قاسية ومريرة الى أبعد حد. أراد أبي أن يطبق حياة ونظام السجن على حياتنا. النوم في وقت محدد، والاستيقاظ في وقت محدد. الفطور والغداء والعشاء في أوقات محددة. نظام الطعام والمصروف كان يتميز بالتقتير. يجب عدم اهدار حتى قطعة الخبز الصغيرة واليابسة. مثلا كان يجفف الخبز القديم ثم يستخدمه في الشوربا ولا يرميه في القمامة. بسبب الفقر، او لنقل الدخل المحدود والقليل، لا يوجد حلويات ولا فواكه في البيت، ولا مشاوير ولا رحلات ولا سينما، او أي نوع من أنواع الترفيه. فرض روتينا يوميا مملا، العمل ثم البيت ثم العمل وهكذا. فرض عليً نفس الروتين، البيت، المدرسة ثم البيت. دائرة مكررة من حياة فقيرة وبائسة ومملة الى ابعد حد.
عالم أبي هو عالم الصمت. يأتي من العمل، يجلس لوحده، يصغي الى الاخبار، ثم يقرأ في كتاب ما، ثم يغوص في عالم لا أعلم عنه أي شيء. وقتها كنت اشعر بتعاطف تجاهه، حتى أنني بكيت مرة وبصمت ودون أن يدري. الخلافات بيننا كانت شبه دائمة وعاصفة. كنت استفزه الى أبعد حد عندما أقارنه بجدي. كان يرفض مجرد المقارنة، ويتهم جدي بالفساد وبأنه رجل بلا أخلاق، باع نفسه لنظام متوحش ومجرم. لم أكن أدرك تلك المفردات ولا اعرف معانيها، إنما كنت أغضب لجدي. بعد كل شجار أذهب الى جدتي، وأرتمي في حضنها وأبكي. تحتضنني، وتسمعني كلمات لطيفة، وتوعدني بمشوار برفقة جدي عندما يعود من المشفى.
يأتي جدي، ويأخذني معه. كنت اشعر بالزهو برفقته، وبأنني انسانة متميزة، وأعلى شأنا من كل من التقي بهم. كنت أجلس الى جانبه في سيارة مرسيدس حديثة الطراز، لا يركبها الا الوزراء. ما أن أجلس في السيارة حتى أنظر الى جميع المارة بأنهم اقل شأنا منا. كانت رؤيتي للأشياء والناس تختلف عنها عندما أمشي برفقة بابا. نتابع مشورانا، انا وجدي، نتجول في الأسواق، وندخل الى أفضل المطاعم، ونشتري أجمل الثياب لي وله.
كل ذلك التقتير ليس ناجما من بخل في طبيعة أبي، وإنما من حالة الفقر الذي كان يعيشها. تم فصله من عمله كمهندس، ورفضت كل شركات العامة والخاصة أن توظفه لديها كمهندس. عمل في قطاعات كثيرة كعامل، وبأجر زهيد. الاجر الذي يحصل عليه جدي في يوم واحد يعادل أجر ابي في سنة، وليس في شهر.