إنها مرحلة من الرضوخ الأميركي لأجندة إسرائيل. رضوخ جو بايدن لبنيامين نتنياهو وحكومة يمينية متطرفة في تل أبيب وبعض النصائح. هذا أقل ما يمكن قوله. حتى النصائح التي قيلت في الغرف المغلقة، حسب التسريبات، تلحفت بكثير من الحذر … والارتباك.

هناك أمثلة كثيرة مختلفة، في العلاقات الأميركية– الإسرائيلية. بعضها انطلق من فكرة “انقاذ إسرائيل من نفسها”، أو “رغما عنها”. بعضها الآخر، جاء من فكرة ضغط واشنطن على تل أبيب، قصير الأمد بهدف بناء ترتيبات في الشرق الأوسط تخدم مصلحة أميركا وإسرائيل على المدى الطويل.

أحد الأمثلة، كان بعد حرب الخليج وتحرير الكويت في 1991 ومساعي إدارة الرئيس جورج بوش الأب لترتيب عقد مؤتمر دولي للسلام بمشاركة عربية وفلسطينية. مؤتمر يعلن تفرد وأحادية أميركا في ترتيب أوراق الشرق الأوسط بعيدا عن الاتحاد السوفياتي المنهار وكتلته الشرقية المنفلتة وتضعضع حلفائهما العرب.

رفض رئيس الوزراء الليكودي إسحاق شامير العرض الأميركي. رد وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر، بأن حذره وأعطاه رقم هاتفه كي يتصل به عندما يكون جاهزا لحضور مؤتمر مدريد. كما ضغط الرئيس بوش على شامير وتكتله بأن جمّد ضمانات القروض لبناء المستوطنات. ما كان من شامير إلا أن رضخ للضغط “الجمهوري”، وذهب إلى موتمر مدريد في أكتوبر/تشرين الأول 1991. بعدها بأشهر خرج بالانتخابات من رئاسة الحكومة وجاء إسحاق رابين.

مثال آخر، ما قام به وزير الخارجية هنري كيسنجر عندما أقام في الشرق الأوسط وشن دبلوماسية مكوكية بين مصر وسوريا وإسرائيل بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، استبعدت الاتحاد السوفياتي وأسفرت عن ترتيبات عسكرية وسياسية رسمت معالم في الشرق الأوسط ولا يزال بعضها قائما ومرجعا.

أميركا في 2023 ليست أميركا 1991 أو 1973، كذلك إسرائيل والشرق الأوسط. عالمنا الآن ليس ذاته. روسيا غارقة في أوكرانيا ومغامرة في العالم، والصين متأهبة في آسيا والعالم، وأميركا تكافح وتسعى لترتيبات تبقيها زعيمة للعالم، وهي تقترب من انتخابات مصيرية في مرحلة انقسام غير مسبوقة نهاية العام المقبل. كذلك، فان الهجمات التي تعرضت لها اسرائيل في 7 أكتوبر، غير مسبوقة في عقود طويلة من تاريخ الصراع.

 

فرض نتنياهو برنامج انتقامه في غزة بعد هجوم “حماس” في غلافها. وما كان أمام بايدن سوى تبني الرواية الإسرائيلية، كما أن وزير خارجيته ذهب أبعد بأن تحدث أمام الكاميرات بحضور نتنياهو، عن يهوديته والهولوكست

 

 

رغم كل ذلك، أو بسبب كل ذلك، جاء رضوخ بايدن لمقاربة نتنياهو وجاءت إشارات “تمردات” إقليمية على أميركا، وهذه بعض المؤشرات.

أولا: فرض نتنياهو برنامج انتقامه في غزة بعد هجوم “حماس” في غلافها. وما كان أمام بايدن سوى تبني الرواية الإسرائيلية لما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول. كان أول رئيس يزور إسرائيل ويحضر “غرفة الحرب” في لحظة حرب. قبل الرواية بأنها “حرب بقاء”. كما أن وزير خارجيته أنتوني بلينكن ذهب أبعد بأن تحدث أمام الكاميرات وبحضور نتنياهو، عن يهوديته والهولوكست.

أضيف إلى ذلك، تقديم كل الدعم العسكري والاستخباراتي لإسرائيل، وإرسال القطع العسكرية قبالة شواطئ لبنان وسوريا وإسرائيل، وإرسال التحذيرات إلى إيران ووكلائها من توسيع الحرب. واضافة الى كل ذلك، جاء تبني بايدن ومؤسسات أميركية الرواية الإسرائيلية لمجزرة المستشفى. وفوق كل ذلك، ان احد البنود الرئيسة لجولة بلينكن في مصر والأردن، كان الضغط لقبول تهجير ٢.٤ مليون شخصي من غزة تمهيدا لـ “محو” حركة “حماس”.

ثانيا: جرأة عربية في التعاطي مع إدارة بايدن. دول حليفة وقريبة لواشنطن، لم تغير روايتها لمجزرة المستشفى بعد نفى بايدن مسؤولية إسرائيل عنها. العاهل الأردني الملك عبدالله بن الحسين ألغى قمة رباعية كانت مقررة مع بايدن ورئيسي مصر والسلطة الفلسطينية. هذا لم يكن يحصل سابقا، الأردن حليف أميركا يلغي قمة مع رئيس أميركا.

أما مصر، فمخاوفها مختلفة. رتبت قمة دولية- إقليمية– عربية عن السلام وغزة التي كانت ذات يوم تابعة لها، من دون تنسيق مع أميركا، ووجهت الدعوات لبايدن دون التنسيق معه. بايدن قرر عدم الحضور وكلف دبلوماسيا بمستوى منخفض لحضور قمة لم تنجز خريطة طريق لمستقبل غزة والقضية، أو وقفا لاطلاق النار وخطة للمساعدات، وعاد من الشرق الأوسط كي يقدم إلى الكونغرس طلبا لتقديم دعم استثنائي لإسرائيل (وأوكرانيا).

ولاشك ان حديث بلينكن عن تهجير الفلسطينين، كان سبباً لغضب مصري واردني وتركيز خطابات العرب في القمة، على رفض التهجير والرحيل.

 

بدت صفقة اطلاق الأميركيتين وادخال ١٧ شاحنة عبر معبر رفح، أشبه بحملة علاقات عامة خصوصاً اذا عرفنا ان ٦٠٠ شاخنة كانت تعبر يوميا قبل بدء حملة القصف

 

 

ثالثا: شاحنات وأسيرات، إذ أعلن بايدن “انتصاره” بترتيب إرسال 20شاحنة عبر معبر رفح إلى غزة، ثم إطلاق “حماس” سراح سيدتين أميركيتين. رهينتان مقابل 20 شاحنة. قدمه بايدن على أنه إنجاز وانتصار. وقدم تعيينه ديفيد ساترفيلد مبعوثا للشؤون الإنسانية، قرارا قياديا. بدت الصفقة والمساعدات، أشبه بحملة علاقات عامة خصوصاً اذا عرفنا ان ٦٠٠ شاخنة كانت تعبر يوميا قبل بدء حملة القصف، وان أميركا صوت ضد مسودة قرار أممي يطالب بوقف النار.

رابعا: تعرض مواقع أميركية لهجمات من “مسيّرات” شنتها تنظيمات وميليشيات إيرانية في العراق وسوريا واليمن، مع تبادل التوتر والقصف بين “حزب الله” وإسرائيل عبر حدود لبنان. إشارات ورسائل لإبقاء خيار  “توسيع الحرب”، و”وحدة الساحات” وفتح جبهتي الشمال والجنوب، قائما، رغم الإنذارات والتحذيرات العسكرية والدبلوماسية.

 

إن فرض الأحادية القطبية لأي إمبراطورية يتطلب حربا كبرى. كذلك تفكك هيمنة إمبراطورية على العالم، يأتي بعد حرب وحروب

 

 

خفض سقف الدبلوماسية وغياب القيادة وتآكل الردع، دليل على حال أميركا مع حلفائها وأعدائها في المنطقة.

صحيح، ان أميركا لاتزال القوة الأكثر نفوذا في العالم، وتريد صوغ “نظام عالمي جديد” كما قال بايدن، لكن دولا كبرى وإقليمية كثيرة ترى التفاصيل وتوسع الشقوق. بالفعل، إن فرض الأحادية القطبية لأي إمبراطورية يتطلب حربا كبرى. كذلك تفكك هيمنة إمبراطورية على العالم، يأتي بعد حرب وحروب.

معارك وتحرشات أوكرانيا والشرق الأوسط وأذربيجان وكوسوفو وغزة، بعض إشارات العالم الجديد… ولن تكون الأخيرة.