المفكرة المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي (صفحة الكاتبة – فيسبوك)

وافقت الرقابة عليه ثم منعته على رغم رواجه الكبير حتى في المكتبات المصري

فوجئ المسؤولون عن دار النشر المغربية “الفنك”، وفوجئ معهم زوار معرض القاهرة  للكتاب في دورته الحالية بمنع كتاب “الحريم السياسي” لعالمة الاجتماع المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي (ترجمه إلى العربية الحسين سحبان). واللافت أن هذ االكتاب  عرف – ويعرف – رواجاً كبيراً في  العالم العربي، وتم تداوله أكاديمياً في الجامعات، وأثار نقاشاً واسعاً منذ صدوره باللغة الفرنسية عام 1987، ولم يتم منعه. ولم يتم منعه ولعل هذا ما جعل القراء والنقاد والإعلاميين يسألون عن جدوى منع عرض كتاب متداول ومتاح منذ 37 سنة، في عدد من اللغات، بل يمكن تحميله من المواقع المهتمة بالكتب في دقائق. والمفارقة أن منع الكتب في أيامنا هذه يأتي في الغالب بنتائج تتعاكس تماماً مع ما يريده المسؤولون عن المنع. إنه يعيد الكتاب الممنوع إلى الواجهة ويثير فضول القراء، ويدفع حتى غير المهتمين إلى البحث عنه، مما يضمن له انتشاراً أوسع.

نشرت دار الفنك على صفحتها بياناً مقتضباً تقول فيه: “منع قبل قليل بيع كتاب (الحريم السياسي) لفاطمة المرنيسي في المعرض الدولي للكتاب في القاهرة، ومنع الموظفون من بيع أي نسخة من الكتاب، وتمت إزالة ملصق إعلان الكتاب لمحو كل أثر للكتاب في الجناح”. وختمت الدار بيانها بتجديد التساؤل حول الحريات الفكرية، قائلة: “هذا المنع المتكرر يسائل بالضرورة أوضاع حرية التعبير في العالم العربي”. والغريب أن قرار منع كتاب المرنيسي لم يتخذ إلا في الأيام الأخيرة، بعد الإقبال الملحوظ عليه وقرب نفاد النسخ المعروضة منه. واللافت أن الدار تقدمت قبل انعقاد الدورة الجديدة من معرض القاهرة بلائحة الكتب التي ستشارك بها، وحظيت بالموافقة. غير أن رقابة لاحقة هي التي جعلت كتاب “الحريم السياسي” يقع في دائرة المنع.

وفي غياب أي بيان من الجهات المنظمة لمعرض القاهرة، بعدما حاولت الدار استيضاحها حول المنع، كما أفادتنا مسؤولة الدار، يتساءل القراء والمهتمون عن سبب المنع، في بلد تنتظر الأوساط الثقافية تخطي المراحل التي شهدت حالات المنع المتكررة، وجر الكتاب والمفكرين إلى قاعات المحاكم.

المرأة بين الدين وعلمائه

تستهل فاطمة المرنيسي كتابها الممنوع “الحريم السياسي” بجملة إشكالية: “هل يمكن لامرأة أن تقود المسلمين؟”، وهو سؤال وجهته الكاتبة في البداية لنماذج من بسطاء المجتمع، فكان الجواب بالنفي صارماً وحاسماً. تنطلق عالمة الاجتماع من هذا السؤال، الذي فاجأت به أناساً عاديين، لتجعل منه مدخلاً أساساً لدراستها. فتمثلات معظم الناس في العالم الإسلامي تستند إلى إرث ثقافي يصعب تجاوزه.

عادت المرنيسي إلى الانتخابات التشريعية في المغرب خلال السبعينيات، لتقدم إحصائية صغيرة، لكن مثقلة بالدلالات، فقد اختار 6 ملايين ناخب برلماناً ذكورياً بالمطلق، ولم يصوتوا لأية امرأة. واللافت أن 3 ملايين من الناخبين كانوا نساء. وخلال الانتخابات البلدية في الثمانينيات نجحت فقط 36 امرأة مقابل أكثر من 56 ألف رجل. أما الملاحظات التي قدمتها الكاتبة فتعود إلى أربعة أو خمسة عقود خلت. لكن النسب لم تتغير كثيراً في العقود اللاحقة، فما زالت المرأة تشكل أقلية في المراكز التي تقود وتنظم الحياة العامة في بلدان العالمين العربي والإسلامي.

تتساءل المرنيسي عن الأسباب التي جعلت الكتاب السلفيين يشحذون أقلامهم من أجل الكتابة عن ضرورة إقصاء النساء من المجال السياسي باعتبار هذا الإقصاء شرطاً لإنقاذ الهوية الإسلامية. وتحاول تحديد منابع هذا الانحياز الجنسي في سياقات تاريخية مرتبطة بالمرحلة الكولونيالية، وبالرغبة في عودة السلطة الدينية إلى الواجهة.

تعود المرنيسي إلى بدايات الإسلام لتتعقب حضور المرأة في التاريخ الإسلامي، ولتنتقد قراءة العلماء والمفسرين والمعنيين بالشأن الديني للنصوص الدينية، وطرائق تأويلها. وهي بذلك تختبر المسافة بين الدين وعلماء الدين. وإذ تعود إلى مسار الرسول محمد وحضور النساء في حياته، تؤكد أن الإسلام لم يكن ليكرس دونية المرأة، وهو الذي ضمن لها حقوقاً جديدة، لم تكن تتمتع بها في المرحلة التي قبله. ويكفي أنها أصبحت ترث مع الرجال بعد أن كانت تعتبر جزءاً من الإرث الذي يتناقله الرجال والمقربون بعد وفاة زوجها، فضلاً على أن المرأة في بدايات الإسلام أو ما سمته المرنيسي “الفترة السعيدة” كانت تتصف، حسب النماذج التي قدمتها، بروح المبادرة والاقتراح والممانعة والحوار المعقلن وصعوبة الخضوع. وقد ووجه الوضع الجديد للمرأة بالرفض من لدن الهيمنة الذكورية التي راكمتها تقاليد ما قبل الإسلام في جزء كبير من الجزيرة العربية. في المقابل انتقدت المرنيسي ثقافة سبي النساء التي رافقت الغزوات. لقد عمل المشرفون على السلطة وعلى المجال الديني تباعاً، حسب المرنيسي، على تكريس دونية المرأة، وهو تكريس يجب القطع معه في مجتمعات تنفتح تدريجاً على الحداثة.

الماضي بين التقديس والمساءلة

حاولت الكاتبة أن تعود إلى الجذور، من أجل الوقوف على أسباب هذه السلطة الذكورية الطاغية. ففتحت في كتابها ممرات عديدة باتجاه الماضي من أجل فهم الحاضر. كانت مهمتها بالتحديد هي ما سمته “التنقيب في الأدب الديني”، وهي مهمة شاقة في الضرورة، خصوصاً أنها تقر بأن “النص المقدس لم يجر تداوله فحسب، بل إن تداوله هو خاصية بنيوية لممارسة السلطة في المجتمعات الإسلامية”.

  • ومن أجل تعزيز قراءتها استدعت الكاتبة نموذجين للفكر العربي المعاصر، هما محمد عابد الجابري وعبدالكبير الخطيبي، فصاحب “نقد العقل العربي” يرى أن إنسان اليوم في مجتمعاتنا الإسلامية “التفت إلى الماضي كي يمتاح منه القوة التي لم يعطه إياها الحاضر”، وأن التراث الذي تركه لنا الأجداد أصبح بمثابة رقابة، يزكيها المتدين والسياسي معاً. أما عالم الاجتماع عبدالكبير الخطيبي فقد رأى بأن الذاكرة ليست بالضرورة رجوعاً إلى الوراء بل “هي في المصير، إنها تراكم النجاحات التي تعطيها لها الحضارة العالمية لتفكر، إنها باكتشاف أفكار جديدة وممارسات جديدة”، ومن ثم فكل التراكمات التاريخية هي موضوع تفكير، بالأحرى كل التفاصيل المتوارثة قابلة للمساءلة.

تناقش صاحبة “الحريم السياسي” كثيراً من القضايا الإشكالية في كتابها، كالعنف ضد النساء والعبودية والفتنة السياسية. وهي تشبه كتابها بالسفينة التي تبحر باتجاه قرون سابقة، من أجل “أن تستخرج عصارة أسطورية تعمل على إنبات الأجنحة، وتتيح لنا الانزلاق صوب الكواكب الجديدة”. لذا فالكتاب محاولة لرفع الحجب عن عناصر مسكوت عنها في التراث الديني، ومواجهة جريئة للذين يعملون على تزييف الماضي.

إن كتاب فاطمة المرنيسي “الحريم السياسي” هو اجتهاد فكري مبني على بحث دقيق في التراث، يمكن للقارئ أن يتوافق معه، أو يختلف مع جزء كبير منه، أو يرفض محتواه بالمطلق، لكن المنع ليس هو الحل. فالمفروض هو مجابهته بالفكر والعقل والنقد والتحليل، مما يثري النقاش الثقافي والفكري في العالم العربي، بدل وأد هذا النقاش والتضييق على حريات التفكير والتعبير.