لم يأتِ البيان الصادر عن “اجتماع أستانا” في جولته الواحد والعشرين بجديد، فهو يكاد يكون تكراراً لما تمخض عن الجولة العشرين. من المعلوم أن الروس قد اجتهدوا منذ تدخلهم العسكري المباشر في سوريا خريف عام 2015، لخلق ظروف مناسبة لحل الأزمة سياسياً، فقد أدركوا كغيرهم من الأطراف المتدخلة فيها أن الحل العسكري غير ممكن. لقد ابتكر الروس ما سموه مسار أستانا، وجمعوا من خلاله على طاولة واحدة أهم الدول الإقليمية المؤثرة في الأزمة السورية أي تركيا وإيران، إضافة إلى ممثلين عن النظام السوري والمعارضة الخارجية.
أفضى العمل على هذا المسار إلى حصول تغيّرات مهمة على صعيد موازين القوى بين النظام والمعارضة المسلحة مما جعل كثيراً من أطراف الأزمة السورية من دول إقليمية وبعيدة يسعون إلى ابتكار مساراتهم الخاصة حفاظاً على مصالحهم. وفي هذا السياق جاء لقائي فيينا الأول والثاني لمجموعة من الدول الغربية (أمريكا وبريطانيا وفرنسا)، والعربية (السعودية ومصر والأردن) ذات التأثير في الداخل السوري، وقد صدر عن اللقائين ما يمكن عده علامات طريق نحو التسوية السياسية للأزمة. واستمرت لقاءات هذه المجموعة لاحقاً بالتوازي تقريباً مع مسار أستانا.
منذ بداية العمل وفق المسارين وحتى الجولة الأخيرة من مسار أستانا التي عقدت في مطلع عام 2024 تبين أن جميع الأطراف لم تكن جاهزة للحل بسبب تعارض المصالح. راهن النظام على الحسم العسكري بدعم من إيران، وجزئياً من روسيا، وحقق بعض النجاح فيما سمي بمناطق خفض التصعيد التي أقرها مسار أستانا، لكنه توقف عند مناطق النفوذ الأمريكية شرق الفرات ومنطقة النفوذ التركية في الشمال الغربي من سوريا، وهو اليوم يصر على قراءته الخاطئة للتحولات التي جرت عربياً وإقليمياً باتجاه الانفتاح عليه، وأنها سوف تساعده في إعادة السيطرة على الجغرافيا السورية بدون أن يقدم أية تنازلات.
بدورها فإن المعارضة التي تُفاوض النظام، لا تزال متمسكة بقراءتها الخاصة للقرارات الدولية التي صدرت بخصوص الأزمة السورية، وبصورة خاصة القرار 2254، رغم التغيرات الكبيرة التي طرأت على ظروف الأزمة، وعلى موازين القوى بينها وبين النظام، وبصورة خاصة هرولة كثير من الدول التي كانت تدعمها للتطبيع معه؛ فهي لا تزال متمسكة بالخطاب السياسي ذاته دون تغيير، إذ إنها تريد مرحلة انتقالية بدون الأسد، وبدون من تلوثت أيدهم بدماء السوريين من رجالات النظام، وليتم خلالها إعداد دستور جديد، يتم بموجبه اجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في نهاية المرحلة الانتقالية. لقد نجح النظام في جرها إلى ما يمكن تسميته بالهرطقة السياسية مستغلاً الخلافات بين أطرافها. أضف إلى ذلك فهي ليست حرة في خياراتها ومواقفها السياسية، بسبب الاستثمار السياسي الأجنبي فيها.
في العام الماضي نجح غير بدرسون المفوض الأممي عن الملف السوري في تأمين الموافقات المطلوبة لعقد الجولة التاسعة للجنة الدستورية، لكن جرى خلاف على مكان عقدها بين النظام والمعارضة، ففي حين تمسك النظام بعقدها في سلطنة عمان، أصرت المعارضة على عقدها في القاهرة، وهي بهذا الموقف خدمت النظام الذي بالأساس ليس متحمسا ولا مستعجلا لعقدها.
في نهاية الجولة العشرين من اجتماع أستانا أعلنت الدولة المضيفة إنتهاء هذا المسار (تراجعت لاحقاً عن موقفها)، بحجة أن أطراف الصراع تتفاوض بشكل مباشر، وبالتالي فهي ليست بحاجة لميّسر. وبالفعل جرت لقاءات على مستويات سياسية وعسكرية رفيعة بين تركيا وسوريا بمشاركة روسيا وإيران وتم الاتفاق على وضع خارطة طريق لتطبيع العلاقات بين البلدين. يصر الطرف السوري على أن أية خارطة طريق ينبغي أن تلحظ خروج القوات التركية من الأراضي السورية، أو التوافق على جدول زمني لخروجها. بدورها تصرّ تركيا على بقاء قواتها إلى حين إيجاد حل لتواجد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وتعبيراتها السياسية بالقرب من حدودها. في هذه المعادلة الصعبة تحاول روسيا التوليف بين الموقفين المتعارضين، وإن كانت أقرب إلى الموقف السوري. في الواقع تحاول تركيا ضمان ما تسميه أمنها على المدى البعيد من خلال توطين ملايين السوريين في المناطق التي تحتلها على حساب سكانها الأصليين، تمهيداً لإعلان شريط حدودي بعمق نحو ثلاثين كيلومتر كمنطقة نفوذ دائمة لها. وبحسب ما أعلنته مؤخراً فإنها نقلت نحو مليون سوري إلى إدلب ومناطق شمال غرب سوريا بمساعدة قطر التي موّلت إنشاء آلاف الوحدات السكنية بحسب المصادر التركية.
ثمة أيضاً تعارض في المصالح بين النظام السوري وسلطة الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، وبالتالي في رؤية كل منهما لحل الأزمة السورية، ففي اللقاءات القليلة التي جرت بين وفد من مجلس سوريا الديمقراطية وممثلين عن النظام السوري، لم يُوافق على أي من مطالب الوفد، وخصوصاً تلك المتعلّقة بالاعتراف بالإدارة الذاتية، وبخصوصية قسد عندما يتم استيعابها ضمن الجيش السوري، أما ما عرضه النظام هو تطبيق “المصالحات” التي أجراها في مناطق خفض التصعيد التي أعاد سيطرته عليها.
من ضمن مساعي الدول العربية لاحتواء النظام السوري والتطبيع معه تم الإعلان عن مبادرة لحل الأزمة السورية وفق مسار “الخطوة – خطوة” لكن النظام لم يطبق الشق المتعلق به من المبادرة، مما يشي باستمرار تناقض المصالح والرؤى بين النظام وبعض الدول العربية، وخصوصاً الخليجية منها، وبالمناسبة فقد مارست أمريكا ضغوطاً على بعض الدول العربية لتجميد ما سمي بالمبادرة العربية لحل الأزمة السورية كنوع من الضغط لخروج القوات الإيرانية من سوريا.
ويبقى السؤال الجوهري المتعلق بحل الأزمة السورية سياسياً هو كيف يمكن التوليف بين هذه المصالح المتعارضة، والتي يعد بعضها من طبيعة استراتيجية، في حين أن بعضها الآخر لا يعدو كونه مرحلي وتكتيكي؟ على ما يبدو سوف يمر زمن ليس بالقصير قبل أن يتم إنضاج الظروف للتوليف بين هذه المصالح المتعارضة.