هل أصبحت الدولة في اليمن مطلبا سياسيا واجتماعيا ضروريا وملحا؟ لا يتعلق هذا السؤال باليمن وحده، بل يشمل السودان والعراق وسوريا ولبنان وليبيا. وهذا بعدما انهارت هذه “الدول الوطنية الجمهورية” المستقلة، الناشئة بعد الحقبة الكولونيالية.
بعد نجاح “الثورة” في إيران سنة 1979، واتخاذها من “تصدير الثورة” إلى العالم الإسلامي عقيدة للدولة الجديدة، عملت “دولة الملالي” على استغلال الضعف واضطراب وطنية بعض الدول العربية، بغية “تصدير الثورة” إليها.
استهلت إيران “الخمينية” عملها التخريبي في المشرق العربي بإنشائها “حزب الله” في لبنان سنة 1982، في خضم حروبه الأهلية– الإقليمية بمشاركة أساسية من المنظمات الفلسطينية المسلحة والرئيس حافظ الأسد الذي ساهم بقوة، قبل إيران، في تصديع الدولة اللبنانية والاحتراب الأهلي اللبناني، والأحرى “الملبنن”. وتصدر ذاك الحزب الشيعي وميليشياته تاج إيران التخريبي في الديار المشرقية.
أما في العراق، بعدما غزته أميركا واحتلته سنة 2003، وفي اليمن وسوريا ما بعد “الربيع العربي” بدءا من 2011، فصارت إيران- حسبما تباهى كبار ضباط حرسها “الثوري”- تسيطر على (تحتل) عواصم عربية أربع: بيروت، بغداد، دمشق، وصنعاء، وتتحكم في القرار السياسي والأمني فيها. و”فيلق القدس” في “الحرس الثوري الإيراني”، هو الذي رعى، بقيادة قاسم سليماني، نشأة الميليشيات في بلدان هذه العواصم، وهو من يسلّحها ويدربها ويقودها.
فلسطين ذريعة إيرانية- حوثية
إذا كان لضعف الهويات الوطنية دور متقادم في اضطراب بعض الدول العربية الناشئة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فإن قيام دولة إسرائيل في فلسطين المنكوبة بعد هزيمة الجيوش العربية فيها سنة 1948، فاقم الاضطراب في تلك الدول. وهذا ما تجلى في الانقلابات العسكرية وسيطرة نظام الحزب الواحد في كل من مصر وسوريا والعراق، ولاحقا ليبيا والسودان، نسجا على منوال “النظام الناصري” المصري (نسبة إلى الزعيم جمال عبد الناصر).
وأدت نكبة الفلسطينيين ولجوؤهم إلى دول عربية كثيرة، وإنشاؤهم في بعضها منظمات عسكرية لتحرير بلدهم، إلى حروب أهلية: في الأردن (سنة 1970) وفي لبنان (سنة 1969–1982). وسنة 2007 انقلبت حركة “حماس” في غزة على سلطة “منظمة التحرير الفلسطينية” في رام الله بالضفة الغربية.
ومنذ استيلاء الإمام الخميني على السلطة في طهران سنة 1979، جعل من القضية الفلسطينية والعداء لأميركا والغرب، مطيّة مزدوجة لتصدير ثورته إلى دول عربية مشرقية أنهكنها تبعات القضية عينها: لبنان الممزق بحرب أهلية منذ 1975، وبنشوء “حزب الله” فيه. وبعده العراق الذي غزته أميركا واحتلته سنة 2003، وظهر فيه تنظيم “داعش” سنة 2014. وهكذا جعلت إيران بقيادة “المرشد” علي خامنئي و”الحرس الثوري” عداءها لأميركا مطيّة أخرى جديدة لسيطرة ميليشيات شيعية عراقية تابعة لها على قرارات أساسية في الدولة العراقية.
وها هي ميليشيا “أنصار الله” الحوثية الزيدية المنقلبة إلى اثنى عشرية في دعوتها السياسية العقائدية الموالية لإيران، تسيطر على العاصمة اليمنية صنعاء منذ سنة 2014. واستغلت إيران الحرب الراهنة في غزة، فجعلتها مطيّة يمنية حوثية لتعطيل الملاحة البحرية الدولية في مضيق باب المندب، مدخل البحر الأحمر وقناة السويس. وهذا لهدف إيراني صرف يخدم طهران في نزاعها ومفاوضاتها مع الولايات المتحدة الأميركية.
وذكر موقع “المشهد اليمني” الإلكتروني (4 يناير/كانون الثاني 2024) أن الميليشيات الحوثية ضاعفت حملات التحشيد والتجنيد من معقلها في صعدة وحتى صنعاء، تحت عنوان القتال في فلسطين. لكن هدف هذه الحملات الحقيقي والفعلي أن يظل اليمن أرضا ومجتمعا “دار حرب” داخلية دائمة تحول دون قيام مجتمع عادي أو طبيعي غير منقسم عموديا، ودون قيام دولة موحدة فيه.
ومن مظاهر “النفير الحوثي” قيام عناصر من “أنصار الله” بجولات على كبار التجار في صنعاء لإجبارهم على التبرُّع بقسط من أموالهم للقتال في فلسطين، أي للحركة الحوثية التي أصبح نفر من قادتها من كبار الأثرياء في اليمن، أولئك الذين لا يتركون مصيبة تنزل بأي من البلدان من دون تحويلها إلى فرصة يستفيدون منها. وهذا ما يفعلونه حين يجندون جماعات من الأفارقة الفارين من الحرب والتصحر والجوع في بلادهم، لزجهم في حروب اليمن الداخلية.
وليكتمل مشهد استعمال الحرب في غزة مطية حوثية- إيرانية، عمدت ميليشيا “أنصار الله” إلى تزوير صور بأسماء مقاتلين تابعين لها، مدعية أنهم “شهداء سقطوا في فلسطين”. وقد بيّنت استطلاعات موقع “المشهد اليمني” الصحافية أن أصحاب تلك الصور ما زالوا أحياء يرزقون في ديارهم.
قاعدة عسكرية إيرانية جنوبية
ماذا تريد الحركة الحوثية الميليشياوية من هذا كله؟
ليس أقل من السيطرة على اليمن بتحويله إلى قاعدة عسكرية إقليمية في خدمة المصالح القومية والدولية لدولة الولي الفقيه الإيرانية. وهي لذلك تعمل دائبة على منع قيام دولة يمنية وطنية مستقلة وقادرة على رعاية مصالح اليمنيين في أطيافهم الاجتماعية المتنوعة.
وهناك من الخبراء الدوليين في الشؤون اليمنية من يقول إن الرعاية الإيرانية مكّنت “الحوثيين” من إقامة نظام ميليشياوي شبه توتاليتاري في اليمن الشمالي. وبعضهم يشبهه بنظام كوريا الشمالية، لكن بلا قنبلة نووية. أي قوة منعزلة وعدوانية، مسلحة تسليحا جيدا، وتمتلك قدرات عسكرية فاعلة من الصواريخ والطائرات دون طيار والمروحيات. وهذه الخصائص- إضافة إلى العقيدة الدينية الحربية المتطرفة، وإلى الموقع الجغرافي الاستراتيجي الدولي والصلة العضوية بإيران- جعلت من القوة الحوثية قاعدة إيرانية “جنوبية” (باعتبار “حزب الله” في لبنان قاعدة إيرانية شمالية) معادية لأميركا والغرب ودول الخليج العربية.
لكن هل للولايات المتحدة- بوصفها القوة العالمية العظمى، وحسب الخبراء الدوليين إياهم- خطة واضحة حول كيفية ردع “الحوثيين” عن تكرار اعتداءاتهم على الممرات العالمية وزعزعة طرق الملاحة البحرية الدولية في البحر الأحمر بعد الضربات التي وجهتها لقواعدهم ردا على تعكير خطوط الإمداد الدولية في باب المندب؟ يشير الخبراء أيضا إلى ضرورة أن تعزز واشنطن دعمها للقوى غير الحوثية في اليمن. وذلك لضمان عدم تمكّن ميليشياتهم من اجتياح مناطق يمنية أخرى، وخصوصا مأرب الغنية بالنفط والغاز، وحيث قامت في الأيام الأولى من هذا العام احتجاجات على ارتفاع أسعار الوقود، فعملت السعودية على احتوائها خشية تحولها إلى مواجهات بين مسلحين قبليين في مأرب الخاضعة للحكومة اليمنية الشرعية التي تقاوم الميليشيات الحوثية الراغبة في التمدد إليها.
ميليشيا ضد الدولة
ما تحاوله وتريده الميليشيات الحوثية التي انقلبت على الدولة اليمنية، بتسليحٍ وتدريب إيرانيين، هو تحويل ما تسيطر عليه من مناطق اليمن وسواها الراغبة في التمدد إليها بالقوة العسكرية، إلى نظام راسخ الجذور في المجتمع ليصبح مجتمع حرب دائمة ضد قيام دولة ومؤسسات وحياة سياسية يمنية متوائمة ومستقلة في إطارها.
أنشأ “الحوثيون” مؤسسات موازية للسيطرة على المجتمع الأهلي. فجندوا الأطفال للالتحاق بنظام الميليشيا
ومجتمع الحرب الحوثي، الذي تشكّل محافظة صعدة الشمالية نواته بكونها موطن قبائل جبلية محاربة، تمدّدت نواته تلك إلى محافظات شمالية كثيرة وصولا إلى صنعاء. وقوام مجتمع الحرب ذاك، بثُّ الدعوة العقائدية الدينية الحوثية في نسيج المجتمع وعلاقاته ومؤسساته الأهلية. وذلك للسيطرة عليه عرفيا، وجعله مجتمعا غير سياسي (أي شبه توتاليتاري) تتسلط عليه ميليشيا منظمة تنشر ثقافة ونمط حياة يوهمان الناس بأن لا ضرورة للدولة التي تنظم المجتمع وتجعله مجتمعا سياسيا، بناء على دستور وقوانين تتيح تداول السلطة وتصريف الخلافات والنزاعات والحؤول دون تحولها حربا أهلية.
وفي المناطق التي سيطرت عليها منذ عام 2014، دأبت الحركة الحوثية (على غرار “حركة طالبان” الأفغانية) على إنشاء مؤسسات اجتماعية أمنية مثالها نظام الميليشيات العسكرية وعقيدته. فإلى سيطرتها على جهاز القضاء وسواه من أجهزة ومؤسسات الدولة السابقة، أنشأ “الحوثيون” مؤسسات موازية للسيطرة على المجتمع الأهلي. فجنّدوا الأطفال وتلاميذ المدارس لإعدادهم كي يكونوا مؤهلين للالتحاق بنظام الميليشيا. ومن ثم أنشأوا للنساء جهاز “الزينبيات”. وهو جهاز شبه أمني يراقب النساء على غرار شرطة الآداب في إيران. ومنذ أكثر من سنة أدخلت الميليشيات الحوثية تعديلات أساسية على المناهج التعليمية في مدارس المحافظات اليمنية التي تسيطر عليها. وهدف هذه التعديلات التربوية تنشئة التلاميذ على ثقافة وقيم جديدة تلائم العقيدة الدينية الشمولية للحركة الحوثية، وتغذي الكراهية والعنف. وقد أشرف على ذلك يحيى الحوثي، شقيق زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، والذي شكل هيئات ولجانا أصدرت توصيات وبرامج بغية تطبيقها في قطاع التعليم، خدمة لمشروع الميليشيا.
نشأة الحركة الحوثية
نشأت الحركة الحوثية عما سمّي “منتدى الشباب المؤمن” الذي تأسس سنة 1992 في صعدة، موطن أكبر تجمعات المذهب الزيدي. وذلك بذريعة الحفاظ على المذهب، بعدما أقدم الشيخ مقبل الوادعي على إطلاق دعوة دينية سلفية في دماج القريبة من صعدة. وفي طريق زحفهم إلى صنعاء سنة 2014، دمّر “الحوثيون” “دار الحديث” التي كان يرأسها الشيخ يحيى الحجوري بدماج.
قبل ذلك، كانت “حركة الشباب الزيدية” قد تحولت إلى “حزب الحق” كممثل سياسي لأهل المذهب، ففاز حسين بدر الدين الحوثي (1960- 2004) في الانتخابات البرلمانية. لكنه تخلى عن النيابة لاحقا وانصرف إلى تأسيس مدارس دعوية دينية للمذهب. وهذا بعدما رحل ووالده بدر الدين إلى إيران ولبنان، فاتصلا بالملالي الإيرانيين وبمشايخ “حزب الله” قبل أن يتحصل حسين الحوثي على شهادة في العلوم الشرعية في السودان.
ويرى باحث يمني أن الدعوة الحوثية تستقطب قبائل وجمهورا من محاربي الجماعة الزيدية. وهي تريد التغلب بالعصبية الحربية والسيطرة على اليمن وحكمه، رغم أنها أقلية في المذهب الزيدي نفسه. وهي تعتمد- إضافة إلى العصبية الحربية- على المدد والمال الإيرانيين، كحال “حزب الله” في لبنان.
دولة الوحدة وتفككها
لكن الحركة الحوثية لم يكتب لها النجاح العسكري لولا التشققات العميقة والتاريخية الضاربة الجذور في المجتمع والدولة اليمنيين وتحولاتهما. فتاريخ الشمال الإمامي الزيدي، مختلف عن تاريخ الجنوب الذي كان محمية بريطانية في عدن، قبل تحرره وتحوله إلى دولة نظامها اشتراكي ماركسي تابع للاتحاد السوفياتي. هذا فيما تحول الشمال إلى جمهورية سنة 1964. وكان أن نشبت حروب أهلية في كلا اليمنين الشمالي والجنوبي، أدت في مطلع التسعينات إلى وحدة قاهرة للجنوب برئاسة علي عبدالله صالح، قبل أن تنشب حرب طاحنة بين الشمال والجنوب سنة 1994، ليستمر حكم صالح مديدا في طغيانه حتى عام 2011.
في ذاك العام، وفي إطار “الربيع العربي”، أطلق الشبان اليمنيون ثورتهم على نظام بلادهم القهري، فخرجوا إلى الساحات العامة لإسقاطه. لكن القوى والجماعات اليمنية المتباينة والتي تبيّت الثارات والعداوات في ما بينها، سرعان ما قفزت إلى ساحات التغيير لممارسة ثاراتها وعداواتها:
– “حزب الإصلاح الإسلامي” الإخواني، وتحالفه مع الفريق علي محسن الأحمر، لمنع الرئيس علي عبدالله صالح من توريث الحكم لنجله، ولممارسة عداوته لـ”الحوثيين” ولحركة الشبان المستقلين الثائرين.
– الحركة الحوثية بثاراتها ضد نظام صالح والأحمر وحزب الإصلاح.
– “الحراك الجنوبي” الذي انتفض وسار جمهوره من عدن إلى صنعاء للخلاص من حكم الشمال القهري والتسلطي.
– هناك أيضا الشقاقات والثارات القبلية والجهوية القوية الحضور في المجتمع والدولة في اليمن.
– والرئيس علي عبدالله صالح المعزول من سدة الرئاسة، ظل نفوذه قويا في الجيش ومؤسسات الدولة والتركيبات والولاءات القبلية، ويتحيّن الفرص لاستعادة سلطته.
– حالف صالح الحركة الحوثية بعدما شن عليها 6 حملات عسكرية (2004-2009)، وبعدما مكّنها انقلابها على مخرجات الحوار الوطني من الزحف الميليشياوي من صعدة إلى صنعاء. وقد حالفها صالح لظنه أنه يستخدمها للعودة إلى الحكم. لكن الحوثيين هم من استخدموه وبادروا إلى قتله سنة 2017.
وهكذا تفككت الدولة اليمنية، فملأت الحركة والميليشيا الحوثيتان– بدعم إيراني- الفراغ الذي نشأ عن ذاك التفكك.
تعدد قوى الشرعية الحكومية
يشكل “الحوثيون” ومن خلفهم إيران، العامل الأول والأساسي الذي يحول دون إعادة تكوين الدولة وقيامها في اليمن. لكن القوى التي تجابه المشروع الحوثي وتقاومه، ممثلة في الحكومة الشرعية اليمنية المتخذة من عدن عاصمة مؤقتة لها في الجنوب، غير موحدة عمليا وعلى الأرض، رغم التقائها تحت مظلة الشرعية الحكومية، ورغم عمل التحالف العربي بقيادة السعودية على دعمها وتوحيدها.
ويرى باحث يمني أن القوى والميليشيات المناوئة للحوثيين، والمندرجة في إطار الشرعية، تتصدّرها قيادات وزعامات متعددة الولاءات والأهداف والانتماءات القبلية والجهوية والمناطقية. وهذا يترك آثاره السلبية على مجابهتها ميليشيا الحوثي.
واتخذ الباحث إياه مدينة تعز ومحافظتها مثالا على ذلك. فتعز المدينة يتوسطها خط تماس حربي، وتسيطر الميليشيا الحوثية على شطر منها. أما الشطر الآخر من المدينة فتسيطر عليه ميليشيات وقوى عسكرية عدة. منها “كتائب أبو العباس”، وهي خليط من السلفيين والقوميين اليمنيين. هذا إضافة إلى ميليشيا “حزب الإصلاح” الإخواني. والحال هذه- أي تعدد القوى والميليشيات التي تجابه “الحوثيين” وتقاومهم- تشمل أيضا مأرب والحديدة التي للميليشيا الحوثية حضور وسيطرة على بعض أجزائها.
وكان الجيش اليمني الموحد- يعود تأسيسه إلى ما بعد حرب التوحيد القسري بين الشمال والجنوب سنة 1994- قد انقسم أثناء زحف “الحوثيين” على صنعاء واحتلالها سنة 2014. وفي عام 2015 أُعيد تأسيس الجيش الوطني الحكومي اليمني التابع للشرعية، غداة انطلاق عمليات “التحالف العربي” في اليمن. وقد أُدمِجت في هذا الجيش قوات “المقاومة الشعبية” التي جابهت وتجابه “الحوثيين”. أما القوات التي يقودها طارق صالح، ابن شقيق علي عبدالله صالح، فقد التحقت لاحقا بهذا الجيش، بعد قتل “الحوثيين” عمه سنة 2017. وتتمركز قواته في شطر من الحديدة وفي مدينة المخا التي أنشأ فيها مطارا. ويتولى طارق صالح منصب نائب رئيس “مجلس الرئاسة اليمني” المكون من 7 أعضاء يعتبر كل منهم نائبا للرئيس رشاد العليمي.
وللولاءات القبلية والمناطقية والجهوية حضورها القديم الضارب الجذور في اليمن المجتمع والدولة. وانقلاب “الحوثيين” على الشرعية اليمنية وشنهم الحرب عليها واحتلالهم صنعاء، أديا إلى مفاقمة الولاءات والانقسامات. ومن الصعب اليوم، في ظل الوضع المعقد القائم في اليمن، التخلص منها. وإذا كانت القبائل اليمنية منقسمة في ولائها بين “الحوثيين” وقوات الشرعية الحكومية، فإن القوات التي تجابه “الحوثيين” تخضع لتوجيهات وولاءات عدة، قبلية ومناطقية وجهوية. فعلى سبيل المثال، وحسبما ورد في موقع “المشهد اليمني” (27 ديسمبر/كانون الأول 2023) التقى قائد “الحراك التهامي”، و”المقاومة التهامية” (نسبة إلى تهامة) السفيرة الفرنسية في اليمن، وتحدث عن “مظلومية شعب تهامة، وحقه في إدارة شؤونه بنفسه، لتحقيق العدالة والحرية والعيش الكريم”.
معاقل وحصون
ويرى الباحث الفرنسي الخبير في الشؤون اليمنية، فرنك مرمييه، أن اليمن المنقسم اليوم بين حكومة شرعية معترف بها دوليا، وسلطة ميليشيا حوثية تناوئ قيام الدولة اليمنية الموحدة، يعاني من انقسامات شديدة التعقيد. فهناك معاقل وحصون كثيرة نشأت بعد الانقلاب والحرب الحوثيين اللذين فككا الدولة والمجتمع. فالميليشيا الحوثية تسيطر على ثلاثة أرباع سكان اليمن سيطرة عسكرية عرفية غاشمة، وصولا إلى الحديدة ومينائها على البحر الأحمر. وهناك الجنوب ومساحته الكبرى، لكنه لا يضم سوى 7 ملايين نسمة من إجمالي عدد سكان اليمن البالغ 27 مليون نسمة. أما تعز في الوسط، فهي مركز لـ”حزب الإصلاح الإسلامي” الإخواني، لكنها مدينة محاصرة ومدمّرة. هذا فيما يتمركز في مدينة المخا ومينائها ابن أخ علي عبدالله صالح الذي أسس هناك حزبا جديدا.
وفي الجنوب هناك حضرموت التي لديها هوية خاصة ونازع استقلالي عن محيطها الذي يضخ من يافع والضالع مقاتلي “المجلس الانتقالي الجنوبي” في عدن. وهناك مأرب التي كانت تابعة للشمال، محافظة ومدينة، وتقع على حدود حضرموت، وحيث ثروة اليمن من النفط والغاز، ولا تزال مأرب تقاوم “الحوثيين” مقاومة عنيفة وشرسة. وبعدما كان عدد سكانها 50 ألف نسمة، صار اليوم مليون نسمة، بسبب تدفق اللاجئين إليها من صنعاء وسائر المحافظات المجاورة. وقد تمكّن أحد مشايخ قبائلها النافذة، وهو سلطان عرادة، من تكوين ميليشيا قبلية وتعبئة القبائل الأخرى في جبهة متعددة الأطراف ضد “الحوثيين”، وإلى جانب جيش الشرعية.
هذه الشروخ والمعاقل والحصون قد تزول في حال البدء بإعادة تكوين الدولة وتوحيدها في اليمن. لكن المتمردين الحوثيين، ومجتمع الحرب الدائمة الذي أنشأوه، بغية حكمهم اليمن واحتلاله احتلالا داخليا، هما العقبة الكبرى في وجه ذلك المسار الصعب والطويل.