دشنت عملية “حماس” يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول في غلاف غزة بنجاحها التكتيكي وفظاعاتها الإنسانية، كما الرد الإسرائيلي الواسع والقاسي عليها، تحولات مفاجئة وجدية في الفهم السياسي الغربي للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي المزمن وسبل حله.
هنا يبدو لافتا الاستعداد المتزامن، البريطاني- الأميركي، للاعتراف بدولة فلسطينية قابلة للحياة، من دون الإشارة إلى ربط هذا الاعتراف بموافقة إسرائيل على إقامة هذه الدولة. يُعتبر هذا تطورا مهما، إذ قام التعاطي الغربي عموما مع الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على ثنائية المسار الذي يتضمن التزامات متبادلة بين الطرفين عليهما تأديتها وصولا إلى الاتفاق النهائي بينهما على تشكيل دولة فلسطينية، بكل التفاصيل الأمنية والقانونية والسياسية والجغرافية التي يقتضيها هذا التشكيل.
فلسطينيون يحاولون الحصول على طعام في إحدى نقاط الإغاثة في رفح في 2 فبراير
كانت ثنائية المسار هذه هي المبدأ التعريفي الذي دُشن على أساسه مؤتمرُ مدريد للسلام في 1991 ليتواصل ويتسع هذا المسار فيما بعد عبر ترتيبات الفترة الانتقالية والالتزامات المتبادلة التي تضمنتها بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني في اتفاقات أوسلو الأولى (الموقعة في واشنطن 1993) وأوسلو الثانية (الموقعة في طابا المصرية 1995).
على أساس مبدأ ثنائية المسار، حصلت إسرائيل عمليا على امتياز دعمه الغرب، وعلى الأخص الولايات المتحدة، أنه لا دولة فلسطينية مستقبلية من دون موافقة إسرائيل عليها. وفي آخر المطاف، فشل هذا المسار لأسباب كثيرة، الأبرز بينها هو التقويض المستمر والناجح الذي قامت به الجماعات الدينية- السياسية اليمينية المتطرفة على الجانبين، الإسرائيلي والفلسطيني، التي عارضت حل الدولتين في إطار دوافعها المختلفة والمتشابكة، لكن المتخادمة أيضا. ساهم فشل هذا المسار في الصعود السياسي لقوى اليمين هذه على الجانبين، خصوصا في إسرائيل، فضلا عن “حماس” على الجانب الفلسطيني. استفادت الثانية من فشل تجربة الإدارة والحكم بقيادة السلطة الفلسطينية الرسمية التي تشكلت على أساس “اتفاقات أوسلو” كشريك لإسرائيل في المسار الثنائي، لتقدم “حماس” نفسها على أنها البديل المناسب والقوي الذي يستطيع أن يرد على تطرف اليمين الإسرائيلي في سياق صراع مسلح مفتوح ألغى عمليا مسار السلام الذي بدأ في مؤتمر مدريد.
على امتداد نحو عقدين من الزمن، تكلس تدريجيا هذا المسار الثنائي للسلام واندثر، فيما تصالح الغرب مع فهم كسول للصراع مؤداه الانتظار إلى أن “تنضج” شروط السلام بين الطرفين وتظهر قيادات بين الطرفين مستعدة للسلام فعلا.
كان الاستسلام لهذا الكسل السياسي انعكاسا لإحساس غربي لما يمكن تسميته “التعب التاريخي” الناشئ من فشل الجهود الهائلة، سياسيا واقتصاديا ومؤسساتيا، التي بذلها الغرب، أميركا والاتحاد الأوروبي تحديدا، لتفكيك العقد الكثيرة التي اعترضت التوصل إلى حل نهائي للصراع. بلغت هذه الجهود ذروتها في عقد التسعينات، عندما كانت الآمال والزخم عاليين على درب حل الدولتين قبل أن تبدأ احتمالات هذا الحل بالتراجع. المضطرد في بدايات العقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
كانت فكرة انتظار “نضج الشروط” بدلا من صناعتها، خطيرة ومكلفة فعلا، إذ كانت إحدى نتائجها هي اندلاع حرب غزة، بالفعل “الحمساوي” في السابع من أكتوبر ورد الفعل الإسرائيلي عليه تاليا. تجاهلت فكرة الانتظار، على نحو مأساوي ربما، الاختلاف الأساسي والهائل في معنى الزمن الفلسطيني مقارنة بنظيره الإسرائيلي. “ينتظر” الفلسطينيون في ظروف صعبة، سيئة اقتصاديا، ومرهقة أمنيا، يهيمن عليها التعسف الحكومي الإسرائيلي الذي يشجع التوسع الاستيطاني الشرس في أراضي دولتهم الموعودة، فضلا عن اختصارهم ككائنات إنسانية وجماعة بشرية بطموحات سياسية ووطنية مشروعة، إلى الحاجات الأمنية الإسرائيلية التي يقررها، بمبالغة شديدة يمينٌ متطرف، مهيمن سياسيا، ومُحَرَك غالبا بدوافع عنصرية ورؤى دينية تقوض جذريا إمكانية التعايش عبر حل الدولتين.
على الجانب الآخر، يمضي “الانتظار” الإسرائيلي بإيقاع مختلف تماما ضمن دولة تزدهر اقتصاديا، تتوسع فيها الفرص، وتعيش حياة طبيعية خالية من الضغوط والاضطرارات التي يتعاطى معها الفلسطينيون على نحو شبه يومي، باستثناء العمليات المسلحة المتباعدة والمحدودة التي كانت تقوم بها “حماس” التي تكسر إيقاع الحياة الطبيعية هذا وتمزجه بحس الخطر المؤقت.
دفعت حرب غزة هذه التناقضات إلى السطح في سياق فهم معنى هذه الحرب وتوصيف الأفعال التي اتخذها الطرفان المتحاربان فيها وردود الفعل المحلية والإقليمية والعالمية عليها. في البداية فهم الغرب عملية “حماس” في السابع من أكتوبر في إطار قانوني مجرد، وتصرف إزاءها على هذا الأساس: عملية إرهابية قامت بها منظمة مصنفة على أنها إرهابية استُهدف فيها مدنيون وأطفال بالقتل والخطف، وكلها تُعد جرائم حرب، وهي من طراز العمليات التي عانت منها دول غربية (أميركا، فرنسا، بريطانيا، أسبانيا) على يد منظمات إرهابية مثل “القاعدة”، و”داعش”.
من هنا كان التضامن الغربي المبكر مع إسرائيل، حد التماهي معها، عبر استدعاء حقها في الدفاع عن النفس ودعمها سياسيا وعسكريا لممارسة هذا الحق. ثم جاء التراجع التدريجي عن هذا التماهي على أثر بروز بضعة عوامل، ساهمت بتشابكها السريع في وقت مأزوم، في صناعة موقف غربي جديد يقوم على أحادية المسار نحو تشكيل الدولة الفلسطينية دون امتياز الفيتو الإسرائيلي لمنع تشكيلها.
أولى هذه العوامل هو شدة الرد العسكري الإسرائيلي واتساعه من دون بذل ما يكفي من جهد للتفريق بين المدنيين والمسلحين على الجانب الفلسطيني. وإزاء كثرة الموت بين المدنيين الفلسطينيين جراء القصف الجوي، لم تعد الحجة التقليدية بأن “حماس” تختبئ بين المدنيين كافية ومقنعة لتبرير هذا الموت الكثيف، حتى وان كانت “حماس” فعلا تختبئ بين المدنيين (وهذا سلوك مُوثق ومُعترف به من “حماس” نفسها). ثم كان هناك، التعاطف الواسع، غير المسبوق، مع غزة ضد القصف الإسرائيلي.
ما كان لافتا في هذا التعاطف دوليا وعربيا وفلسطينيا، هو مقدار الغضب ضد إسرائيل الذي لم يكن محفزا لا بالدفاع عن “حماس” ولا الدعم لها، وإنما برفض عام، سياسي وشعبي، لحصر فهم حرب غزة فقط في إطار الأفعال وردود الأفعال المباشرة التي حدثت في أكتوبر. استدعى هذا الغضب ضد إسرائيل والتعاطف مع الفلسطينيين الإطار الأوسع، لتشابك الأسباب والنتائج غير المباشرة، المتعلق بحقائق استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ فلسطينية والمظالم المرتبطة به من قضم استيطاني للأرض وانعدام الأفق السياسي والاقتصادي الفلسطيني بما يعنيه هذا من الاستمرار المفتوح والطويل لـ”الانتظار” الفلسطيني.
لكن قد يكون العامل الأهم في شبكة العوامل هذه هو “اكتشاف” الغرب لليمين الإسرائيلي المتطرف الحاكم، بسياساته الخطرة على أي احتمالات مستقبلية للسلام. رغم الدعم الأميركي العسكري والسياسي القوي لإسرائيل في مواجهتها الحالية ضد “حماس”، فإن هناك الكثير من الغضب المتنامي في أوساط إدارة بايدن ضد حكومة اليمين الإسرائيلية، وبالأخص ضد زعيمها بنيامين نتنياهو (مثلا أنهى بايدن مكالمة هاتفية له مع نتنياهو غضبا من تشدد الأخير في مواقفه وهي شكوى يرددها مسؤولون كبار في الادارة). ظهر تشدده في رفضه العميق، الذي يقترب من العناد النفسي، للحديث العلني عن أي أفق سياسي لاستئناف حل الدولتين بعد نهاية حرب غزة.
بعد الكثير من الضغط الأميركي عليه، وافق الرجل على مضض على مثل هذا الحديث لكنه وضع شروطا تعجيزية تقريبا على هذا الحل، في استرجاع منه لامتياز الفيتو الإسرائيلي الذي دشنه مسار مدريد قبل ثلاثة عقود. رفضت الحكومة الإسرائيلية أيضا، بالضد من الطلبات الأميركية المتكررة، اتخاذ إجراءات رادعة ضد الزحف الاستيطاني لليمينيين الإسرائيليين على الأراضي الفلسطينية، ولجم عنفهم المتصاعد ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. زادت الخيبة الأميركية غير المعلنة من حكومة نتنياهو أيضا بسبب الإثارات العنصرية والتحريضية لبعض أعضائها ضد الفلسطينيين في سياق حرب غزة.
تحولت الخيبة الأميركية المتأتية من الرفض الإسرائيلي لاستيعاب المطالب الأميركية بخصوص كيفية إدارة الحرب في غزة وردع المستوطنين المتشددين الذين ينظمون اعتداءات مسلحة في الضفة الغربية، إلى أفعال وإعلان سياسات بالضد من المواقف الإسرائيلية. مثلا لجأت أميركا إلى إجراءات عقابية أحادية الجانب ضد بعض زعماء هؤلاء المتشددين بتجميد أموالهم ومنعهم من السفر إلى الولايات المتحدة. لكن التغير الأميركي الأهم بهذا الصدد هو الاستعداد المعلن للبيت الأبيض للاعتراف بدولة فلسطينية منزوعة السلاح من دون الموافقة الإسرائيلية على إنشاء هذه الدولة. تَعزز هذا الموقف بإعلان بريطاني بإمكانية الاعتراف بمثل هذه الدولة.
فضلا عن القناعة الأميركية بأهمية فرض حل الدولة الفلسطينية لتجاوز التعنت الإسرائيلي وفرض أمر واقع يقود إلى تشكيل سريع نسبيا لمثل هذه الدولة لتكريس معادلة سلام جديدة في الشرق الأوسط تدعمها الدول العربية وتريدها بقوة، لإدارة بايدن اعتبارات داخلية أميركية لتبني أحادية المسار هذه. ترتبط هذه الاعتبارات بالتأييد المتصاعد بين الأوساط الشابة في الحزب الديمقراطي للحقوق الفلسطينية، وهي أوساط تقع عموما على يسار الحزب الديمقراطي وتأييدها لبايدن ضعيف. تسعى إدارة بايدن لكسب تأييد هذه الأوساط، فضلا عن أصوات المسلمين والعرب، وهم مجموعة ديموغرافية في تزايد مستمر، خصوصا في بعض الولايات التي يُتوقع أن تكون متأرجحة في الانتخابات الرئاسية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني كولاية ميتشيغان في الشمال.
تضافرُ هذه العوامل الخارجية والداخلية دعما للمسار الأحادي لإقامة دولة فلسطينية ليس كافيا وحده كي تتحول هذه الدولة إلى حقيقة في المستقبل القريب. يحتاج هذا التضافر إلى فوز بايدن بالانتخابات المقبلة كي يواصل مشروعه هذا، لأن فوزا جمهوريا بالبيت الأبيض يقود إلى وضع دونالد ترمب المعروف بتأييده الشديد لإسرائيل، في سدة البيت الأبيض سيعني موتا سريعا لمشروع هذه الدولة الفلسطينية والعودة إلى المسار الثنائي المثير للإحباط.