عزة طويل كاتبة لبنانية مقيمة في كندا، كتبت نصًا بالإنكليزية تشرح فيه معاناتها مع الحمل والولادة، وشعورها بعد الإنجاب. النص هو ما يلي:

“لكل من يسألني عن شعوري:

– لا أصدق أنني أستطيع النوم على بطني أو ظهري مرة أخرى!

– لا أصدق أنني لم أعد أزن 80 كغم.

– لا أصدق أنني أستطيع رفع الأشياء دون أن أشعر أنني قد أتناثر قطعًا.

– لا أصدق أنني أستطيع المشي، نعم، المشي وحسب، دون أن أشعر بأن حوضي قد يهوي إلى الأرض.

– لا أصدق أنني أستطيع تناول الفواكه والخضروات دون استحضار كل

وسائل التعقيم والقلق من نقل داء المقوسات إلى الجنين.

– لا أصدق أنني أستطيع النوم دون أن أقلق بشأن مدى ارتفاع صوت شخيري. 

– لا أصدق أنني لم أعد مضطرة للاستيقاظ عشرين مرة كل ليلة، لأتبول فقط. 

– لا أصدق أنني لم أعد مضطرة لشرب القهوة منزوعة الكافيين! أيتها الديكاف اللعينة، هل تسمعينني؟

– لا أصدق أنني أستطيع ارتداء الكعب العالي مرة أخرى، إذا أردت ذلك… ولم تعد قدماي أشبه بقدمي فيل.

– لا أصدق أنني أستطيع أن أضع خاتم زواجي مرة أخرى. أصابعي البشرية عادت إلي وها أنا أقول وداعًا لأصابع فرس النهر التي كانت لي.

– لا أصدق أنني أستطيع أن ألاعب كلبي وقطتي دون القلق من وجود احتمال، بنسبة 0.0001%، من أن أصاب بعدوى طفيلية وأنقلها إلى الجنين. احتمال بنسبة 0.0001% هو مخاطرة كبيرة أثناء الحمل.

هذا كله مجرد جزء صغير مما أشعر به بعد إنجابي لطفلي. أما في ما يخص الجانب العاطفي فثمة أمور كثيرة سأترك بثها لوقت آخر”.

ما الذي يقوله هذا النص ولم نكن نحدس بوجوده؟ الأرجح لا شيء. لكن إعلانه وإشهاره على النحو الذي فعلته عزة يؤدي معنى متجددًا ومعاصرًا.

الحمل والإنجاب، ينتجان أبوة وأمومة. ما تقوله عزة إن الأمومة تحتاج لجهد أكبر من الجهد المبذول لتحقق الأبوة. نقول جهدًا؟ تحقق الأمومة لا يتم إلا بالاعتداء على جسم المرأة اعتداء مستدامًا. اعتداء ينفذه الجنين نفسه والمجتمع من ورائه. طوال فترة الحمل، لا يعود جسم المرأة جسمها. يتحول إلى حلبة صراع، ويقع على عاتقها وحدها مهمة أن تحافظ على المتصارعين، جسم الأم وجسم الطفل، وتمنعهما من أن يؤذيا بعضهما بعضًا أذية لا إصلاح بعدها.

يحدث في المجتمعات الحديثة أن يساعد الزوج زوجته في العناية بأطفالهما. هذا بات شائعًا وعاديًا. ويحدث أيضا أن يساعد الزوجان بعضهما بعضًا في تحقيق استقرار مالي ومادي. هو يعمل وهي أيضًا، ويتشاركان في كل شيء. هذا أيضا بات شائعًا ومكرورًا. لكن ما نتجاهله على الدوام يتعلق بدور المرأة في الحمل والإنجاب. هذه مسؤولية لا يستطيع أن يشاركها بها أحد.

ما تقوله عزة طويل إن الأمومة تحتاج لجهد أكبر من الجهد المبذول لتحقق الأبوة (الصورة: من فيسبوك الكاتبة)

في المجتمعات السالفة، كان العيش يكاد يكون متعذرًا. النساء والرجال والأطفال سواسية في مثل تلك المجتمعات. في التقسيم الغابر للأدوار، كان الرجل يواجه أخطار الخارج والمرأة تواجه أخطار الداخل. الحمل والإنجاب في مثل هذه الأوضاع لا يفوق التعرض للمخاطر الخارجية قسوة. والحال، كان الزوجان يتعرضان للمخاطر معًا لبناء عائلة. ثم إن إنجاب الأطفال في حد ذاته، رغم المصاعب التي ينطوي عليها، والمخاطر التي قد تؤدي إلى وفاة الأم والطفل على حد سواء، كان يشكل جائزة للأبوين في مستويين على الأقل: فالأولاد يساعدون في الإنتاج من جهة أولى ويساعدون في أعمال المنزل من جهة ثانية، وهذا في ما يتعلق بالمستوى الأول ثم إنهم يشكلون مع الأبوين عصبة تحميهم من الناس والغرباء والكائنات البرية. وهذا يختص بالمستوى الثاني. والحال كان بوسع المجتمعات السالفة أن تجعل من هذه التضحية المتمثلة بالحمل والإنجاب والتعرض لمخاطرهما، نشاطا مقدرًا ومعتبرًا، بل وذهبت معظم الثقافات إلى تقديسه ومديحه بلا انقطاع، مثلما قدّست قيمة الشجاعة عند الرجال والاستعداد لبذل النفس في مواجهة الأعداء وغوائل الطبيعة.

في المجتمعات المعاصرة اختلفت الأمور على نحو جذري وحاسم. الخارج لم يعد معاديًا ولا تتطلب مواجهته جهدًا فائقًا، لا تقوى عليه المرأة في أثناء شهور حملها الأخيرة. والأعمال التي تدر مالًا حلت محل الأعمال التي تنتج سلعًا وحاجات. فبات الرجل والمرأة يعملان في المصنع نفسه ويتقاضيان أجرًا نقديًا، حتى اليوم ما زال متفاوتًا في معظم أنحاء العالم. لكن تحوّل الأجر إلى نقد، يمكّن الزوجين من شراء ما يحتاجانه للعيش، كان له الأثر الكبير في إحداث تغييرات كبرى على العلاقة التقليدية بين الزوجين. وساهمت الصناعات الجديدة في تقليل الوقت المبذول للأعمال المنزلية، ما مكّن الزوجين من إنفاق وقت أطول في إنتاج النقود اللازمة لتأمين حياة كريمة. الصناعة التي ساهمت في تقليل الجهد المبذول في كل مناحي الحياة، لم يكن لها الأثر نفسه داخل البيت وخارجه. ذلك أن وقت العمل في الخارج، لم يتأثر كثيرًا بتطور الصناعة. فلم تفعل الآلات المتقدمة سوى تسريع وتيرة الإنتاج بدلًا من تقليل وقت العمل، لكنها في دواخل البيوت نجحت في تقليل الجهد المبذول للعناية بها، ما ترك للزوجين متسعًا من الوقت لزيادة وقت النشاط الخارجي. والحق أن سن القوانين التي سمحت للنساء بكشف أجسامهن على الشواطئ في بريطانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، ترافق مع قوانين أخرى ألزمت أرباب العمل بدفع أيام الإجازات للعمال، وحدثت هذه التطورات كلها متزامنة مع انتشار مكنسة هوفر الكهربائية في معظم البيوت. فضلًا عن أن هذا كله ترافق مع انتشار المنتجعات على الشاطئ التي سمحت للعائلات بقضاء أيام الأحاد والإجازات في جو من البهجة العمومية، لم يطل زمنها، إذ أدى اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى تدميره تمامًا.

لكن الثابت منذ ذلك الوقت على الأقل، وحتى اليوم، أن المجتمعات الحديثة باتت تضيق بالأطفال. فإنجاب الأطفال، على ما يقول الاقتصادي الأميركي لستر ثارو، هو امتياز لا يستطيع كل الناس أن يحصلوا عليه. ذلك أن الطفل يحتاج إلى مساحة إضافية للعيش في منزل الأبوين، وتتطلب العناية به إنفاقًا مستدامًا، من الوقت والمال، بالرغم من كل المعونات التي تقدمها دول الرعاية في الغرب للأبوين. ثم وهذا الأهم، لم يعد الأبناء بحاجة ماسة للأبوين ليعينوهما على مواجهة مخاطر الحياة على نحو أفضل وأجدى. بل على العكس لقد باتوا على نحو ما يشكلون ثقلًا عليهما، على المستويات النفسية والصحية والاقتصادية على حد سواء.

في هذا العالم الموصوف أعلاه تكتب عزة طويل نصها. وهو نص يفصح من دون لبس، أن تحقق الأمومة يشبه اعتداء مستدامًا على جسم الأم، ولا يكلف الأب إلا التعاطف مع معاناتها. وهذا يعني أول ما يعني، أن الحديث عن اكتساب المرأة لحقوقها وحرياتها ما زال حديثًا غير ذي صلة على الإطلاق. فإذا كان صحيحًا أنها باتت أقرب لمساواة الرجل في الأجر والوظائف والظهور العام، والتحكم بحياتها وتقرير أمورها كما تحب، إلا أن مسألة الإنجاب ما زالت تضعها في مرتبة أقل من مرتبة الرجل على نحو صارخ ولا يبدو أن ثمة تعديلًا لهذا الوضع في الأفق.

سينبري كثيرون وكثيرات للقول إن الأمومة حاجة نفسية وبيولوجية للمرأة، وأنها هي من ترغب في تحقيق أمومتها. لكن ذلك لا ينفي أن الأطفال ليسوا أقل من عبء على الأبوين، رغم أن وجودهم ضروري لبقاء الاقتصاد مزدهرًا والأمم ناهضة. لكن عبء التكفل بضرورتهم هذه يلقى على عاتق الأبوين وحدهما والمرأة أكثر بكثير من الرجل. والحال فإن كل حديث عن مساواة باتت قيد التحقق بين الرجال والنساء في المجتمعات الحديثة، ما زال حديثًا غير دقيق. وتاليًا فإن أي مسعى للإنصاف في هذا المجال يقتضي بأن تعوض النساء على الجهد والمعاناة على نحو يختلف عن تعويض الرجال.