لا يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدّث في إطلالاته الإعلاميّة عن “التدمير الكامل” لحركة “حماس” من دون أيّ إشارة إلى مرحلة ما بعد الحرب ناهيكم عن قيام دولة فلسطينيّة. يعتقد نتنياهو أنّ الانتصار العسكريّ – إذا تحقّق – هو بديل من المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيّين وحقّهم ببناء دولة ذات سيادة تحقّق طموحات شعبها وأراضيها. ببساطة، لا يزال نتنياهو يريد اتّباع السياسات نفسها التي نفّذها منذ وصوله إلى السلطة أواسط تسعينات العقد الماضي. لكنّ بعض الإسرائيليّين يحملون له أنباءً سيّئة: هذه السياسة ستدمّر إسرائيل نفسها.

هذا ما كتب عنه رئيس تحرير صحيفة “هآرتس” ألوف بن في تحليل نشرته مجلّة “فورين افيزر” الأميركيّة. وممّا جاء في المقالة:

في أحد أيام شهر نيسان (أبريل) سنة 1956، توجّه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان جنوباً إلى ناحال عوز، وهو كيبوتز أُنشئ حديثاً وقتذاك بالقرب من حدود قطاع غزة. جاء ديان لحضور جنازة روي روتبرغ (21 عاماً)، بعدما قُتل في صباح اليوم السابق على يد فلسطينيين بينما كان يقوم بدورية في الحقول. قام القتلة بسحب جثة روتبرغ إلى الجانب الآخر من الحدود وقد عُثر عليها مشوّهة وقد فُقئت عيناه. كانت النتيجة صدمة ومعاناة.

 

لو كان ديان يتحدث في إسرائيل المعاصرة، لكان قد استخدم تأبينه إلى حد كبير لنسف القسوة الرهيبة لقَتَلة روتبرغ. لكنّ خطابه كان متعاطفاً تعاطفاً ملحوظاً مع الجناة. قال ديان: “دعونا لا نلقي اللوم على القتلة”. وأضاف: “طوال ثماني سنوات، كانوا يقيمون في مخيّمات اللاجئين في غزة، وأمام أعينهم كنّا نحوّل الأراضي والقرى التي سكنوا فيها هم وآباؤهم إلى ممتلكات لنا”. كان ديان يلمح إلى النكبة.

بداية عصر مظلم

لم يكن ديان مؤيداً للقضية الفلسطينية. سنة 1950، نظّم تهجيراً للمجتمع الفلسطيني المتبقي في بلدة المجدل (عسقلان) الحدودية. مع ذلك، أدرك ديان ما يرفض العديد من الإسرائيليين اليهود قبوله: لن ينسى الفلسطينيون النكبة أبداً أو يتوقفوا عن الحلم بالعودة إلى ديارهم. وقال ديان في تأبينه: “دعونا لا نرتدع عن رؤية الكراهية التي تلهب وتملأ حياة مئات الآلاف من العرب الذين يعيشون حولنا”.

في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، عاد أحفاد لاجئي مخيّم ديان الذين تغذّيهم الكراهية نفسها التي وصفها، من أجل الانتقام. لكنّهم الآن أفضل تسليحاً وتدريباً وتنظيماً.

كان 7 تشرين الأول أسوأ كارثة في تاريخ إسرائيل. فشلُ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في وضع استراتيجية للمستقبل ليس من قبيل الصدفة. سيتعيّن على إسرائيل أن تتصالح أخيراً مع الفلسطينيين، وهو أمر عارضه نتنياهو طوال مسيرته السياسية. كرّس فترة ولايته كرئيس للوزراء لتقويض وتهميش الحركة الوطنية الفلسطينية.

 

لقد أقنع إسرائيل بفكرة أنّها تستطيع الاستمرار في احتلال الأراضي الفلسطينية إلى الأبد بكلفة محلية أو دولية قليلة. لقد أثبتت هجمات 7 تشرين الأول أنّ وعد نتنياهو كان أجوف. وعلى الرغم من عملية السلام الميتة وتراجع اهتمام الدول الأخرى، حافظ الفلسطينيون على قضيتهم حيّة. في لقطات الكاميرا التي التقطتها “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، يمكن سماع المقتحمين وهم يصرخون: “هذه أرضنا!” أثناء عبورهم الحدود لمهاجمة الكيبوتز.

 
 

قضى يحيى السنوار، قائد “حماس” في غزة، 22 عاماً في السجون الإسرائيلية، ويقال إنّه كان يخبر زملاءه في الزنزانة باستمرار أنّه يجب هزيمة إسرائيل حتى تتمكن عائلته من العودة إلى قريتها.

لقد أجبرت صدمة السابع من تشرين الأول الإسرائيليين، مرة أخرى، على إدراك أنّ استمرار الاحتلال وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية وفرض الحصار على غزة لن يجلب الأمن لإسرائيل.

لقد اندلعت الحرب وإسرائيل في أكثر لحظاتها انقساماً عبر التاريخ، بسبب جهود نتنياهو لتقويض مؤسساتها الديموقراطية وتحويلها إلى دولة استبدادية قومية ثيوقراطية. في الواقع، سيصبح الصراع حول نجاة نتنياهو السياسيّة أكثر حدة مما كان عليه قبل السابع من تشرين الأوّل، ما يجعل من الصعب على إسرائيل أن تسعى إلى تحقيق السلام. لكن مهما حدث لرئيس الوزراء، فمن غير المرجح أن تجري إسرائيل محادثة جدية حول التسوية مع الفلسطينيين. لقد تحوّل الرأي العام الإسرائيلي ككل نحو اليمين. وأصبحت الولايات المتحدة منشغلة على نحو متزايد بانتخابات رئاسية حاسمة. ولن يكون هناك سوى القليل من الطاقة أو الحافز لإعادة إطلاق عملية سلام ذات معنى في المستقبل القريب.

 

وهذا يمكن أن يجعل يوم 7 تشرين الأول بداية عصر مظلم في تاريخ إسرائيل، عصر يتسم بمزيد من العنف المتزايد. لن يكون الهجوم حدثاً استثنائياً يحصل لمرة واحدة، بل نذيراً لما سيأتي.

سياسة فرّق تسد

منذ عودته إلى منصبه سنة 2009، عرض نتنياهو على الإسرائيليين بديلاً مناسباً لصيغة “الأرض مقابل السلام” التي كانت قد فقدت صدقيتها. قال إنّ بالإمكان أن تزدهر إسرائيل كدولة على النمط الغربي، ويمكنها أن تصل إلى العالم العربي ككل، بينما تدفع الفلسطينيين جانباً. كان المفتاح إلى ذلك سياسة فرّق تسد.

في الضفة الغربية، حافظ نتنياهو على التعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية التي أصبحت بحكم الأمر الواقع مقاولاً فرعيّاً للخدمات الأمنيّة والاجتماعية لإسرائيل، وشجّع قطر على تمويل حكومة “حماس” في غزة. وقال نتنياهو للتجمع البرلماني لحزبه في 2019: “على كلّ من يعارض قيام دولة فلسطينية أن يدعم إيصال الأموال إلى غزة لأنّ الحفاظ على الفصل بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وحماس في غزة سيمنع إقامة دولة فلسطينية”. عاد هذا التصريح ليطارده لاحقاً.

 

أصبح هذا التكتيك الذي أطلق عليه اسم “جزّ العشب”، جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الأمنية الإسرائيلية إلى جانب “إدارة الصراع” والحفاظ على الوضع الراهن. كان الحفاظ على صراع منخفض الحدّة بالنسبة إليه أقل خطورة سياسياً من اتفاق سلام وأقل كلفة من حرب كبرى. ولأكثر من عقد من الزمن، بدا أن استراتيجية نتنياهو ناجحة. بالنسبة إلى معظم الناس، في معظم الأوقات، كان الصراع بعيداً من الأنظار والعقل. تجاهلت إسرائيل الفلسطينيين من دون التضحية بأي شيء – الأراضي والموارد والأموال – من أجل التوصل إلى اتفاق سلام.

بعد فوز مفاجئ بانتخابات 2015، شكّل نتنياهو ائتلافاً يمينياً لإحياء حلمه القديم بإشعال ثورة محافظة. مرّة أخرى، كما فعل في التسعينات، بدأ رئيس الوزراء بمهاجمة “النخب” وأطلق حرباً ثقافية ضد المؤسسة السابقة التي اعتبرها معادية لنفسه وليبرالية للغاية بالنسبة إلى مؤيديه. في 2018، فاز بسنّ قانون رئيسي مثير للجدل يعرّف إسرائيل بأنها “الدولة القومية للشعب اليهودي” وأعلن أنّ لليهود الحق “الفريد” في “ممارسة تقرير المصير” على أراضيها. لقد أعطى الأغلبية اليهودية في إسرائيل الأسبقية وأخضع شعبها غير اليهودي.

 

في السنة نفسها، انهار ائتلاف نتنياهو. ثمّ غرقت إسرائيل في أزمة سياسية طويلة، حيث شهدت خمسة انتخابات بين 2019 و2022، وكانت كلّ منها عبارة عن استفتاء على حكم نتنياهو. وتفاقمت حدة المعركة السياسية بسبب قضية الفساد المرفوعة ضد رئيس الوزراء، ما أدى إلى توجيه اتهام جنائي له سنة 2020 ومحاكمة مستمرة. لقد انقسمت إسرائيل بين مؤيّدي نتنياهو ومَن هم من غير مؤيّديه وحسب. أعقب ذلك قيام حكومة ائتلافية بقيادة اليميني نفتالي بينيت والوسطي يائير لابيد. لأّول مرة، ضمّ الائتلاف طرفاً عربياً.

 

مع ذلك، لم تتحدَّ معارضة نتنياهو قط الفرضية الأساسية لحكمه: وهي أنّ إسرائيل يمكن أن تزدهر من دون معالجة القضية الفلسطينية. وأصبح الجدل حول السلام والحرب الذي كان تقليدياً موضوعاً سياسياً حاسماً بالنسبة إلى إسرائيل، من الأخبار في الصفحات الخلفية.

 

بطبيعة الحال، ثبت أنّ هذه الصفقة مستحيلة. انهارت “حكومة التغيير” سنة 2022 بعدما فشلت في إطالة أمد الأحكام القانونية الغامضة التي سمحت لمستوطني الضفة الغربية بالتمتع بحقوقهم المدنية التي حُرم منها جيرانهم غير الإسرائيليين.

الاستعانة بالمتطرّفين

فيما نظّمت إسرائيل انتخابات أخرى، قام نتنياهو بتحصين قاعدته من اليمينيين واليهود المتشددين والمحافظين اجتماعياً. ومن أجل استعادة السلطة، تواصل خاصة مع مستوطني الضفة الغربية وهم الفئة الديموغرافية التي ما زالت تعتبر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني سبب وجودها. وظل هؤلاء الصهاينة المتدينون ملتزمين بحلمهم بتهويد الأراضي المحتلة وجعلها جزءاً رسمياً من إسرائيل.

 

لقد فشلوا في منع إجلاء المستوطنين اليهود من غزة سنة 2005 عندما كان آرييل شارون رئيساً للوزراء، لكن في السنوات التي تلت، استولوا تدريجياً على مناصب رئيسية في الجيش الإسرائيلي والخدمة المدنية ووسائل الإعلام مع تحول أعضاء المؤسسة العلمانية تركيزها على كسب المال في القطاع الخاص.

 

كان لدى المتطرفين مطلبان رئيسيان من نتنياهو. الأول، وهو الأكثر وضوحاً، توسيع المستوطنات اليهودية. والثاني هو إقامة وجود يهودي أقوى في جبل الهيكل، موقع كل من الهيكل اليهودي والمسجد الأقصى في البلدة القديمة بالقدس. منذ أن سيطرت إسرائيل على المنطقة المحيطة في حرب الأيام الستة سنة 1967، منحت الفلسطينيين حكماً شبه ذاتي في الموقع، خوفاً من أن يؤدي إخراجه من الحكم العربي إلى صراع ديني كارثي. لكن اليمين المتطرف الإسرائيلي سعى منذ فترة طويلة إلى تغيير ذلك. عندما تم انتخاب نتنياهو لأول مرة سنة 1996، قام بفتح جدار بموقع أثري في نفق تحت الأرض مجاور للمسجد الأقصى من أجل كشف آثار من زمن الهيكل الثاني ما أدى إلى انفجار عنيف للاحتجاجات العربية في القدس. وعلى نحو مماثل، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000 بعد زيارة قام بها شارون للحرم القدسي وكان آنذاك زعيم الليكود المعارض.

 

وفي أيار (مايو) 2021، اندلع العنف مرة أخرى. هذه المرة، كان المحرض الرئيسي إيتمار بن غفير، سياسي يميني متطرف احتفل علناً بالإرهابيين اليهود. وكان بن غفير قد افتتح “مكتباً برلمانياً” في حي فلسطيني بالقدس الشرقية حيث قام مستوطنون يهود مستخدمين سندات ملكية قديمة بطرد بعض السكان ونظم الفلسطينيون احتجاجات حاشدة رداً على ذلك. وبعد تجمع مئات المتظاهرين في المسجد الأقصى، داهمت الشرطة الإسرائيلية مجمع المسجد.

بنتيجة ذلك، اندلع قتال بين العرب واليهود وسرعان ما انتشر إلى المدن المختلطة عرقياً في جميع أنحاء إسرائيل. استخدمت حماس الاقتحام كذريعة لاستهداف القدس بالصواريخ، الأمر الذي أدى إلى المزيد من العنف وجولة أخرى من الأعمال الانتقامية الإسرائيلية في غزة. مع ذلك، تلاشى القتال عندما توصلت إسرائيل وحماس إلى وقف جديد لإطلاق النار في ترتيب سريع ومثير للصدمة. سمح الهدوء النسبيّ على طول الحدود للجيش الإسرائيلي بإعادة نشر قواته ونقل معظم الكتائب القتالية إلى الضفة الغربية. في 7 تشرين الأول، أصبح واضحاً أن عمليات إعادة الانتشار هذه كانت بالضبط ما أراده السنوار.

المعارضة تقع في الخطأ نفسه

بعد الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، استعاد نتنياهو السلطة. حصل ائتلافه على 64 مقعداً من أصل 120، وهو فوز ساحق وفقاً للمعايير الحديثة. كانت الشخصيات الرئيسية في الحكومة الجديدة بتسلئيل سموتريش، زعيم حزب ديني قومي يمثل مستوطني الضفة الغربية، وبن غفير. من خلال العمل مع الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة، وضع نتنياهو وسموتريش وبن غفير مخططاً لإسرائيل استبدادية وثيوقراطية. على سبيل المثال، أعلنت المبادئ التوجيهية لمجلس الوزراء الجديد أن “للشعب اليهودي حقاً حصرياً وغير قابل للتصرف بكامل أرض إسرائيل”، ما ينكر تماماً أي مطالبة فلسطينية بالأرض، حتى في غزة. أصبح سموتريش وزيراً للمالية وتم تعيينه مسؤولاً عن الضفة الغربية حيث بدأ برنامجاً ضخماً لتوسيع المستوطنات اليهودية. وتم تعيين بن غفير وزيراً للأمن القومي ومسؤولاً عن الشرطة والسجون. بين كانون الثاني (يناير) وتشرين الأول (أكتوبر) 2023، قام نحو 50 ألف يهودي بجولة (اقتحامية) في المسجد الأقصى أكثر من أي فترة مماثلة مسجلة. (سنة 2022، بلغ الرقم 35 ألفاً).

وأثارت حكومة نتنياهو المتطرفة الجديدة الغضب بين الليبراليين والوسطيين الإسرائيليين. لكن على الرغم من أنّ (انتقاد) إذلال الفلسطينيين كان محورياً في أجندتهم، استمرّ هؤلاء المنتقدون في تجاهل مصير الأراضي المحتلة والمسجد الأقصى عندما أدانوا الحكومة. بدلاً من ذلك، ركّزوا إلى حد كبير على إصلاحات نتنياهو القضائية. من شأن هذه القوانين المقترحة والتي أُعلن عنها في كانون الثاني 2023، أن تحدّ من استقلال المحكمة العليا في إسرائيل وتفكّك النظام الاستشاري القانوني الذي يوفّر الضوابط والتوازنات في السلطة التنفيذية. لو تمّ إقرارها، لكانت مشاريع القوانين قد سهّلت كثيراً على نتنياهو وشركائه بناء حكم استبدادي، وربما أمكن أن تعفيه من محاكمة الفساد.

 

وتجنب المتظاهرون ذكر الاحتلال أو عملية السلام البائدة خوفاً من تشويه سمعتهم على أنهم غير وطنيّين. في الواقع، عمل المنظّمون على تهميش المتظاهرين الإسرائيليين المناهضين للاحتلال لتجنب ظهور صور الأعلام الفلسطينية في التظاهرات. بنتيجة ذلك، امتنع العرب الإسرائيليون الذين يشكلون نحو 20 في المئة من السكان عن المشاركة في التظاهرات إلى حد كبير. صعّب هذا نجاح الحراك. بالنظر إلى التركيبة السكانية في إسرائيل، يحتاج يهود يسار الوسط إلى الشراكة مع العرب الإسرائيليين إذا كانوا يريدون تشكيل حكومة. من خلال نزع الشرعية عن مخاوف العرب الإسرائيليين، لعب المتظاهرون دوراً مباشراً في استراتيجية نتنياهو.

مشكلة نتنياهو مع الجيش

لم يكن من المستغرب أن ينفصل الجيش الإسرائيلي عن رئيس الوزراء. طوال حياته المهنية، اشتبك نتنياهو تكراراً مع الجيش وكان أقوى منافسيه الجنرالات المتقاعدين الذين أصبحوا سياسيين، مثل شارون ورابين وباراك، إضافة إلى بيني غانتس الذي جعله نتنياهو جزءاً من حكومة الطوارئ الحربية لكنه قد يتحداه في نهاية المطاف ويخلفه كرئيس للوزراء. لقد رفض نتنياهو منذ فترة طويلة رؤية الجنرالات لإسرائيل قوية عسكرياً ومرنة دبلوماسياً. لقد سخر أيضاً من شخصياتهم التي اعتبرها خجولة ومفتقرة للخيال وحتى تخريبية. لذلك لم تكن أمراً صادماً إقالة وزير دفاعه الجنرال المتقاعد يوآف غالانت، بعد ظهور غالانت على الهواء مباشرة على شاشة التلفزيون في آذار (مارس) 2023 للتحذير من أنّ الانقسامات في إسرائيل جعلتها عرضة للخطر وأنّ الحرب كانت وشيكة. وأدت إقالة غالانت إلى المزيد من الاحتجاجات العفوية في الشوارع فأعاده نتنياهو إلى منصبه. لكن نتنياهو تجاهل تحذير غالانت. كما تجاهل تحذيراً أكثر تفصيلاً قدمه في تموز (يوليو) كبير محللي الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بأنّ الأعداء قد يضربون إسرائيل.

كان هجوم 7 أكتوبر، جزئياً، فشلاً للبيروقراطية الإسرائيلية. مع ذلك، لا يمكن الدفاع عن حقيقة أنّ نتنياهو لم يعقد أي مناقشات جادة حول المعلومات الاستخبارية التي تلقاها وكذلك رفضه التوصل إلى تسوية جدية مع المعارضة السياسية ورأب الصدع. بدلاً من ذلك، قرر المضي قدماً في انقلابه القضائي.

 

بعد الانفجار… المسار نفسه؟

حاول نتنياهو وفريقه التنصّل من المسؤوليّة ورميها على الأمنيّين. وكتب مكتب نتنياهو على “تويتر” بعد أسابيع عدّة من الهجوم: “لم يتم تحذير رئيس الوزراء نتنياهو تحت أي ظرف من الظروف وفي أي مرحلة من نيات حماس الحربية”. وتابع: “على العكس من ذلك، إنّ تقييم المستوى الأمني بأكمله، بمن في ذلك رئيس المخابرات العسكرية ورئيس الشاباك، هو أنّه تمّ ردع حماس وهي تسعى إلى تسوية”. واعتذر لاحقاً عن هذا المنشور.

 

لم يعفِ الجمهور الإسرائيلي نتنياهو من المسؤولية عن أحداث السابع من أكتوبر. فقد تراجعت جداً شعبية حزب رئيس الوزراء في استطلاعات الرأي، كما انخفضت شعبية نتنياهو كثيراً أيضاً، على الرغم من احتفاظ الحكومة بأغلبية برلمانية.

 

ولا تزال إسرائيل تتبع المسار نفسه الذي قادها إليه نتنياهو لسنوات. أصبحت هويتها الآن أقل ليبرالية ومساواة، وأكثر عرقية وتعسكراً. ويهدف شعار “متحدون من أجل النصر” الذي يُرى في كل زاوية من الشوارع والحافلات العامة وقنوات التلفزيون في إسرائيل إلى توحيد المجتمع اليهودي. وبحسب الأنباء، منعت الشرطة الأقلّيّة العربية في إسرائيل والتي أيدت بأغلبية ساحقة وقفاً سريعاً لإطلاق النار وتبادلاً للأسرى، تكراراً، من تنظيم احتجاجات عامة.

 

وكما كانت الحال في أوقات ما قبل الحرب، لا يفكّر أي يهودي إسرائيلي تقريباً في كيفية حل الصراع سلمياً. أمّا اليسار الإسرائيلي الذي كان مهتماً تقليدياً بالسعي إلى تحقيق السلام، فقد أصبح الآن على وشك الانقراض. ويبدو أنّ حزبي غانتس ولابيد الوسطيين اللذين يحنّان إلى إسرائيل ما قبل نتنياهو باتا يشعران بأنهما محتضنان في المجتمع المتعسكر الجديد ولا يريدان المخاطرة بشعبيّتهما السائدة من خلال تأييد مفاوضات الأرض مقابل السلام. واليمين أصبح أكثر عداءً للفلسطينيين من أي وقت مضى.

 

وساوى نتنياهو بين السلطة الفلسطينية و”حماس”، ورفض المقترحات الأميركية لجعل الأولى حاكمة غزة بعد الحرب، مع العلم أنّ مثل هذا القرار سيحيي حلّ الدولتين. ويريد رفاق رئيس الوزراء من اليمين المتطرف إخلاء غزة من سكانها ونفي الفلسطينيين إلى بلدان أخرى، ما يخلق نكبة ثانية من شأنها أن تترك الأرض مفتوحة أمام مستوطنات يهودية جديدة.

 

يشير التاريخ إلى أن هناك فرصة لعودة التقدمية وقد يفقد المحافظون نفوذهم. بعد الهجمات الكبرى السابقة، تحول الرأي العام الإسرائيلي في البداية نحو اليمين، ولكنه غيّر مساره بعد ذلك وقبل بالتنازلات الإقليمية في مقابل السلام. أدت حرب يوم الغفران سنة 1973 إلى السلام مع مصر؛ وأدت الانتفاضة الأولى التي بدأت سنة 1987 إلى اتفاقيات أوسلو والسلام مع الأردن؛ وانتهت الانتفاضة الثانية التي اندلعت سنة 2000 بالانسحاب الأحادي الجانب من غزة.

 

لكن فرص تكرار هذه الدينامية ضئيلة. ما من جماعة أو زعيم فلسطيني تقبله إسرائيل كما كان الأمر مع مصر ورئيسها بعد 1973. فحماس ملتزمة بتدمير إسرائيل والسلطة الفلسطينية ضعيفة. وإسرائيل أيضاً ضعيفة: فقد بدأت وحدتها في زمن الحرب تتصدع بالفعل، والاحتمالات مرتفعة في أن تمزق إسرائيل نفسها أكثر إذا تراجع القتال. لعلّ الفكرة الوحيدة التي تتوحّد حولها هي معارضة اتفاق الأرض مقابل السلام. بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، يتفق معظم اليهود الإسرائيليين على أن أي تنازل آخر عن الأراضي سيمنح المسلحين نقطة انطلاق للمذبحة التالية.

 

في نهاية المطاف، إذاً، قد يبدو مستقبل إسرائيل مشابهاً إلى حد كبير لتاريخها الحديث. مع نتنياهو أو بدونه، ستظل “إدارة الصراع” و”جز العشب” سياسة إسرائيل، وهو ما يعني المزيد من الاحتلال والمستوطنات والتهجير.

لكن ذلك لن يؤدي إلا إلى المزيد من الكوارث. ولا يمكن للإسرائيليين أن يتوقعوا الاستقرار إذا استمرّوا في تجاهل الفلسطينيين ورفض تطلّعاتهم وقصّتهم بل حتى وجودهم.