في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي رُفعت أسعار الاتصالات في سوريا بنسبة 30 في المئة، وكانت شركتا الاتصالات الوحيدتان (سيرياتيل وأم تي أن) قد أعلنتا عن الزيادة قبل أيام من إقرارها، لكن المواطنين فوجئوا خلال الأيام الماضية بارتفاع جنوني لأسعار الاتصالات، بخاصة الإنترنت، من دون سابق إنذار، والتي صارت باقتها القليلة من فئة 20 جيغا شهرياً تعادل بالتمام راتب الموظف شهرياً، وبلغ سعرها 196 ألف ليرة سورية، فيما متوسط راتب الموظف 200 ألف ليرة (13 دولاراً).
فاتورة مرتفعة
مع رفع الأسعار بات يُطرح سؤال لدى السوريين، هل يحجمون عن استخدام الاتصالات ويكتفون بالباقات المخصّصة، والتي تقتصر على السماح باستخدام “واتساب” لإجراء مكالمات توفّر عليهم مبالغ باهظة؟ هذا السؤال تجيب عنه الطالبة الجامعية نور أحمد لـ”النهار العربي”، مؤكّدةً حاجة طلاب الجامعة كشريحة كبرى تمثل مئات آلاف الأشخاص للإنترنت بشكل دوري ولأغراض تتعلق بالدراسة.
وتقول: “أنا طالبة جامعية، ووالداي الموظفان كلاهما لا يتخطّى راتبهما 500 ألف ليرة (حوالى 30 دولاراً)، فكيف سيمكنهم الاستغناء عن ثلث راتبهما لتزويدي بمصروف فقط يتعلق بالإنترنت، هذا عدا عن إجراء المكالمات التي صارت أسعارها مرتفعة جداً، لكننا نستعيض عنها بتطبيق “واتساب”. الأمر صار منهكاً للغاية”.
ميزان الربح والخسارة
عمار شلفون مهندس ديكور ومتخصص بالتصميم الرقمي، يتطلّب عمله تواصلاً حيّاً مع زبائن خارج بلاده عبر تقنية (on line) ما يفرض عليه استهلاكاً واسعاً للإنترنت وباقات شهرية تصل أجورها لمئات الآلاف، وترتب خسارةً كبرى من رصيده الأساسي في تصريف أعماله، التي هي أصلاً بأسعار زهيدة لظروف تتعلق بعمالة السوري وما حلّ بها خلال الحرب، وهي العمالة التي صارت تفرض عليه أن يبيع بأقل سعر متاح في السوق.
وعن ذلك يشرح عمار قائلاً: “فوجئت أنّ باقة 500 جيغا سعرها أكثر من 700 ألف ليرة، وهذا رقم مهول في سوريا، لا يتقاضاه حتى أفضل موظفي القطاع الخاص العادي، وأنا أحتاج لهذا الاستهلاك وأكثر، نظراً لحاجتي المستمرة في التصفح والتحميل (نماذج – سلايدز – ايفيكتس – دروس إضافية – محاضرات متقدمة …الخ)”.
ويتابع: “أحياناً تمرّ شهور لا نعمل فيها، ولكن علينا أنّ نظلّ مواظبين على التواجد في السوق ومتابعة كل جديد بصرياً وتقنياً وفنياً، وتحميله بعد شرائه لإضافته إلى برامجنا التقنية، هذا عدا عن إمكان إعطائنا دروساً خاصة عن بُعد بين وقت وآخر، وهي تحقق مكسباً لا بأس به نسبياً. وكل ذلك حين يجمع مع بعضه البعض تصير فيه الخسارة موازية للربح إذا ثبتت الأسعار أو ارتفعت. وهذا ما يحصل على الدوام”.
“سنعمل مجاناً”
هنا زهران مترجمة وكاتبة محتوى. بعدما ضاقت بها السبل سارت في الطريق الذي لجأ وما زال يلجأ إليه جميع السوريين، وهو مواقع على شاكلة (خمسات ومستقل وغيرهما)، وهي مواقع تؤمّن الربط بين العميل ومنفّذ الخدمة، ويكون الأجر لقاء الخدمة هو 5 دولارات فقط مهما كانت كبيرة أو متواضعة.
تقول هنا: “في ظلّ انهيار عملتنا، الدولار الواحد قد يفرق مع السوري، لكننا اليوم أمام مرحلةٍ سندفع ما نتقاضاه من أرباح لقاء باقات الانترنت. سنعمل مجاناً إذاً. يحصل شيء في بلدنا يمنعنا من العمل داخله وخارجه، وكأنّه حرام علينا أن نجني قرشاً يعيننا على شظف العيش، قرش نصرفه على عوائلنا ومرضانا، وما يكون أقل من كلفة معيشتنا بمراحل أحياناً”.
تختم زهران حديثها بتساؤل: “لماذا على شركات الاتصالات أن تجني المال فيما نحن نهبط نحو القاع أكثر؟ هي تبيعنا أساساً خدمة هوائية لا قيمة تُذكر لها، لماذا؟، لأنّ الخدمة تكلفهم أقل بعشرات المرّات مما تأخذه منا، ولأنّها خدمة أقرب للوهمية من حيث السرعة والجودة والتواجد وانتشار الأبراج والتغطية، فإنك أحياناً ترسل صورةً تستغرق نصف ساعة لوصولها، وفيما عدا كل ذلك فالجميع يعرف أنّ باقةً من 100 غيغا يُسرق منها ما يُسرق من دون استهلاك حقيقي”.
خطوط حمراء
يقول سوريون كثر إنّه كلما ضاقت سبل جمع الأموال من الأسواق تعود الحكومة من جديد لقطاع الاتصالات بوصفه “بقرة حلوب”، مستغلة ضرورة الانترنت والاتصالات في يوميات الناس الذين يبدون عاجزين عن التخلّي عنها لولا أنّ الإحجام النسبي هذه المرة قد يكون قسرياً تحت وطأة ارتفاع مهول في أسعارها.
ارتفاع الأسعار دفع كثيرين للتساؤل عن مصدر القرارات الاقتصادية الذي طلب من الشركتين اعتماد أرقام التسعير الجديدة، والتي تفوق القدرات المالية للناس على اختلاف احتياجاتهم للإنترنت، ما بين تسلية وعمل مروراً بما هو ضروري.
الاتصالات هي حق مشروع، ولكن قد تقع مخاصمة الرأي إذا كان بلداً كسوريا بكلّ ما يحصل فيه من تتابع في ارتفاع أسعار سلعٍ أساسيةٍ أكثر خصوصية وحرجاً وحساسيةً من الاتصالات نفسها، كما حصل أيضاً خلال اليومين الماضيين من رفع سعر البنزين والمازوت والخبز، والخبز وحده قصة تمثل ذاكرة جمعيةً سوريّةً ترتبط بما يُعرف بسياسة الخطوط الحمراء في منع رفع الأسعار، ولكنّ كلّ شيء صار اليوم قابلاً للارتفاع وينهك المواطنين.
البحث بين الخيارات
لم يستوعب الناس حتى الآن الصدمة، البعض لا يزال يتوقع أنّ ثمّة باقات بأسعار رخيصة. ففي جولة على عدد من المحال يتبين أنّ زبائن كثراً يأتون ليسألوا أصحابها ما إذا كانت تتوافر (كودات) جديدة لطلب باقات من الإنترنت قد أقرّتها الشركة من دون الإعلان عنها، فيكون جواب أصحاب المحال أنّ (الكودات) هي نفسها ولم تتغيّر، وأبرزها على سبيل المثال (*999#) وهو الرمز الأبرز الذي يمكن من خلاله شراء باقة، قبل أن تبدأ الشركة بمطاردة زبونها لتسديد فاتورته.
تسديد الاشتراكات
يستذكر السوريون بطرافة أنّ شركتي الاتصالات كانتا تتصرفان بطريقة غريبة، وهو أنّه حين يتأخّر زبون عن السداد يجري الاتصال بأصدقائه للطلب منهم إبلاغه بضرورة سداد فاتورته. ذلك كان يحصل قبل سنوات، وربما لا يزال يحصل.
وإذا حاول أحد المشتركين الاتصال بالشركة فقد يبقى على الانتظار لساعات عدّة، وقد تقفل الشركة في وجهه بعد ذلك، أو يجيب موظفوها، فإن قال العميل للموظف ليست هناك تغطية اتصالات في منطقتنا، يردّ الموظف بالقول: “سنسجّل شكوى باسمك”، وطبعاً لا شكوى تُسجّل، ولا مشكلة تُعالج، وفق مراد منصورة المهندس المقيم في ريف دمشق، بعد أن سئم من دفع فواتيره وتسجيل الشكاوى من دون نتيجة.
أرضي وخليوي: سياسة متقاربة
يكاد لا يقتصر الأمر على باقات الاتصالات عبر الخطوط الخليوية، فقد كان الاشتراك المنزلي حتى فترة قريبة رخيصاً ومفتوحاً الاستهلاك، لكنّه فجأة صارت أسعاره مرتفعة ومحدود الاستهلاك بعدد محدّد من فئة الـ “جيغا بايت”، فمثلاً الخط الذي سرعته 2 ميغا بايت شهرياً يُمنح باقة 85 جيغا بايت شهرياً مع إمكان شحنها مجدداً، وهنا بالضبط، لا يختلف سوريان أنّ تلك الباقات تُستنزف سريعاً حتى من دون استخدام.
شركتا الاتصالات في سوريا عاجزتان عن تقديم خدمة الجيل الخامس (5G)، وخدمة الجيل الرابع لديهما سيئة في عشرات المناطق، وكلاهما بأفضل أحوالهما لا يمثلان أكثر من مرآة لبعضهما، فالعرض ذاته هنا وهناك، والمنافسة ضعيفة، وتغطية الشبكات تغيب مع انقطاع الكهرباء غير المتوفرة في شكل كافٍ أيضاً.