دخلت الحركة الاحتجاجية في السويداء شهرها السادس، ورغم أن المظاهرات التي انطلقت أواخر الصيف الماضي في مدن المحافظة الجنوبية وقُراها أعادت الأمل بإحياء مشروع التغيير، يبدو أن الحراك الاحتجاجي على أهميته غاب عن واجهة الاهتمام السياسي والإعلامي، في مقابل الحرب على غزة والخوف من اندلاع حرب إقليمية بعد هجوم السابع من أكتوبر، وكذلك طول مدة الاحتجاج الذي لم يُفضِ إلى نتائج ملموسة.
استطاعت الحركة الاحتجاجية أن تحشد في الشارع أعداداً غير مسبوقة من المُحتجّين والمُحتجّات، كما استطاعت الحفاظ على استمراريتها، مستفيدة من الغضب العام نتيجة الانهيار الاقتصادي، وتردي الأوضاع المعيشية والخدمية، والفلتان الأمني الذي سبّبته عصابات الخطف وتجارة المخدرات، بالإضافة إلى تراجع القبضة الأمنية للنظام السوري في المحافظة عموماً، عدا عن الغطاء الديني والاجتماعي الذي اكتسبته الاحتجاجات مع تأييد عدد من الوجهاء الاجتماعيين لها بشكل علني،1 بالإضافة إلى اثنين من مشايخ العقل الثلاثة، وهما الشيخ حكمت الهجري والشيخ حمود الحناوي، وثبات موقف الشيخ يوسف جربوع منها دون معاداتها أو مخاصمتها صراحة.2
بالمقابل، بات من الضروري استقراء مسار احتجاجات السويداء المستمرة ومتعددة المظاهر، فبعد الموجة التفاؤلية الأولى، ومحاولة استطلاع سيناريوهات الحراك المستقبلية، يغدو من المهم اليوم النظر في بنى الاحتجاج الاجتماعية والسياسية وماهية القوى الفاعلة فيه، بعيداً عن الجملة التي تختصر كل ما يحصل في السويداء بأنها محافظة «ذات غالبية درزية»، ثم تنطلق من هذه المقدمة إلى خلاصات تُضفي على التحليل طابعاً سحرياً، يسلّم بكسلٍ لافتراضات ثقافوية تَحكمُ المجتمع وتُفسّر سلوكَ أفراده وخياراتهم.
ضمن هذا السياق، بات التساؤل عن المرحلة المقبلة من انتفاضة السويداء أمراً ملحّاً؛ فما الذي يريده المحتجون المستمرون في الشارع؟ وما السبيل أو البرنامج السياسي الذي اتفقوا عليه لتنفيذ مطالبهم؟ وفي واقع إقليمي معقد؛ هل تكفي التعبئة لإحداث التغيير؟
الحركة الاحتجاجية وأحوالها في الإطار السوري
من المهم التعرّفُ أكثر على ما يميز الحركة الاحتجاجية المستمرة في السويداء اليوم. إذ استطاعت الاحتجاجات كسبَ فئات اجتماعية أوسع لصالحها، بما يتجاوز محاولات احتجاجية سابقة شهدتها المحافظة خلال السنوات الماضية وبقيت محدودة. وقد استفاد الحراك من حالة الاستياء العامة نتيجة انهيار الوضع الاقتصادي في سوريا، خاصة بعد انتهاء العمليات العسكرية الكبرى منذ عام 2018، إذ يمكن تمييز كثير من الأسماء والوجوه والأصوات العالية في حراك اليوم، والتي كانت في مواقع قريبة من السلطة طوال السنوات الفائتة، سواء من وجهاء محليين أو من رجال دين. وقد يكون الشيخ حكمت الهجري الوجه الأبرز لهذه التحولات، التي قادته إلى ابتعادٍ تدريجي عن مواقف وتصريحات سابقة وصولاً إلى الانحياز للحراك. وهو في هذا ليس وحيداً، فمثله عددٌ واسعٌ من الوجهاء المحليين والزعامات الدينية أو العائلية التقليدية، أو حتى بعض أبناء هذه العائلات من مسؤولين بعثيين محليين، ممّن قرروا الانحياز للتظاهرات الجارية في المدينة، رغم أنهم كانوا طوال سنوات أقرب إلى النظام وروايته عن الحرب التي تشهدها البلاد.3
وإن كانت الحركة الاحتجاجية نجحت في الاستمرار إلى الآن، واستقطبت إليها فئات أوسع تحت مظلة المطالب المعيشية، إلا أن النظام استطاع أيضاً حصار الاحتجاجات في المحافظة، مُستفيداً من الإنهاك الاجتماعي العام الذي يعانيه المجتمع السوري بعد سنوات الحرب، ومن خوف المدن والبلدات المنكوبة بالقصف والدمار وحملات الاعتقال. وقد كان النظام حريصاً على عدم امتداد الاحتجاجات إلى مناطق أخرى، حيث شهدت محافظات الساحل وحلب حملات اعتقال وقمع طالت ناشطين ومعارضين. وهكذا لم تنجح الحركة الاحتجاجية في أن تتجاوز حدودها المحلية وتمتد إلى باقي المناطق السورية، لتبقى طرفية ومعزولة وغير قادرة على التأثير في النظام المركزي في دمشق، خاصة مع غياب الثقل الاقتصادي عن المحافظة شحيحة الموارد. بينما اختار النظام الصمت شبه المطبق في الرد على احتجاجات السويداء، وبعدما تركَ لمجموعة من ناشطي وسائل التواصل الاجتماعي والصحفيين القريبين منه مهمةَ مهاجمة المتظاهرين، يبدو أنه عاد ولجأ إلى إهمالها الإعلامي المطلق مستفيداً من تصاعد الأحداث الإقليمية.
هكذا بقيت مظاهرات السويداء تُشبه المراوحة في المكان، وهذه الحال الراهنة لا تُلغي طبعاً احتمال لجوء النظام أو مُواليه إلى التصعيد أو القمع أو الأعمال العسكرية والأمنية، إذا أُتيحت الفرصة لذلك مستقبلاً.
في السياق نفسه يبدو من الواضح أن الحراك القائم في السويداء لا يشغل بال فئات متعددة من المعارضين السوريين ومؤسساتهم ومنابرهم وحتى وسائل إعلامهم، إذ يرى بعضهم فيه حركة متأخرة، فيما تفصلُ آخرين عنه حواجزَ زمنية ونفسية ودينية وحتى سياسية في جغرافيا سوريا المُقسَّمة. كما أن هناك من لا يرغب في التواصل مع الحراك ولا البناء عليه لأسباب تتعلق بالتسويات السياسية وانخراطه فيها، إذ يمكن لتجدُّد الاحتجاجات أن يقطع الطريق على التسويات التي انخرطت فيها هياكل المعارضة الرسمية الهزيلة.
كرامة وعلمانية: عن الساحة وشخوصها وتفاعلاتها
باتت ساحة الكرامة في مدينة السويداء عنوان التظاهرات المركزية الكبيرة، وتعدّت التسمية لتشمل ساحات الكرامة العديدة، وهو الاسم الذي أطلقه منظمو الاحتجاجات على أماكن تجمّعهم في قراهم وبلداتهم. ومفردة الكرامة هذه على تردُّدها المتواتر خلال السنوات الماضية، وفي إطار استعادتها خلال انتفاضة السويداء خاصة، تحتاج إلى تدقيق وتساؤل في معانيها لدى فئات المحتجين المختلفة، إذ أنهم ليسوا بالضرورة متفقين على تعريفها ومرجعيتها، فبينما تعني لكثيرين العيش الكريم والكفاف الاقتصادي وعدم تدخّل الأجهزة الأمنية وقمعها في حياتهم، قد لا تعني لآخرين أكثر من بعدها الأهلي والعشائري، وهذا التباين شهدته مناطق سوريّة أخرى طوال العقد الفائت على كل حال، ولا تبدو السويداء استثناء منه.
إلى ذلك، أظهرت احتجاجات السويداء تنوعاً في ساحاتها في ظل غياب القمع المباشر من السلطات، فسجّلت حضوراً واضحاً وهامّاً للنساء. كذلك، وفي مجتمع فلاحي، من المهم ملاحظة الأثر الذي تركته سنوات التوسّع في التعليم والارتباط بالمهن الحديثة أو «مهن الطبقة الوسطى» التي أتاحتها وظائف الدولة، من ظهور التجمّعات المهنية بشكل واضح خلال مراحل الحراك. فإن كانت السويداء تعيش اتصالها بسوريا بطريقة تجمع بين الرغبة في الاندماج الوطني والمحافظة على الخصوصيات الاجتماعية، مثلها مثل أيّ من المناطق الريفية الأخرى وعلاقتها بالسلطة، إلا أن مشاريع الدولة الوطنية في النصف الثاني من القرن العشرين استطاعت أن تترك أثرها بشكل واضح في سوسيولوجيا المجتمع المحلي. هكذا ظهرت في الساحة علامات مميزة، غير العائلات والعشائر ورجال الدين ممّا اصطُلِحَ على تسميته بالقوى التقليدية، لتبرز تجمّعات مهنية تُعرِّفُ نفسها بروابط المهنة والعمل وليس بروابط القرابة والدم، وهذه خطوة للأمام يمكن البناء عليها، إذ لا يجوز الاسترخاء للمقولات الأهلية كمُعبّر وحيد عن المجتمع، وترك الحراك تحت عباءة وجيهٍ طامحٍ أو آخر. ذاك أن الروابط والتوازنات والتحالفات تُبنى بما تقتضيه مصالح الفئات الموجودة في الحراك، وما تُمثّله من عمق متصل بمجتمعاتها، وهي على ما اتّضح فئات متنوعة لا يمكن اختزالها وتبسيطها بالعناوين الهوياتية السهلة والسحرية التي سبق وأشرنا إليها.
يُضاف إلى ما سبق أن التعليم والعمل في وظائف الدولة كان مدخل السويداء الأساسي للاندماج الوطني خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع الألفية، بعدما أدّى بناء الدول الحديثة وجيوشها في المنطقة إلى انتهاء الحاجة لخدمات الأرستقراطية المحاربة التي شكَّلها الدروز تاريخياً، وهي التي كانت قد ساهمت في تحديد شكل علاقتهم مع السلطة منذ الدولة الأيوبية مروراً بالعهدين المملوكي ثم العثماني، وصولاً إلى الفترة التي قاوموا فيها الاحتلال الفرنسي كواحدة من آخر المشاهد الفروسية التي تستحضرها الذاكرة الجماعية. هكذا، بات التعليم والوظيفة والثقافة والفنون وسائل للتمايز وللاندماج الوطني في الوقت نفسه.
لا بدّ من الالتفات إلى ما ذكر سابقاً ووضعه في الاعتبار عند قراءة حراك السويداء، وعلى ضوء هذه التغيُّرات يمكن مراجعة خطاب الشيخ حكمت الهجري أو الشيخ حمّود الحناوي اللّذين ذكرا كلمة العلمانية حرفياً،4 فكانا من موقعهما كرجُلَي دين أكثر تقدمية من سياسيين ومثقفين سوريين صدّروا لنا مقولة غائمة وغير واضحة التعريف تتحدث عن «الدولة المدنية». إلا أن علمانية الشيخين، على أهميتها، لا يجب أن تمرّ دون تساؤل عن ماهية العلمانية المقصودة في خطابهما، فهل هي عدم تدخُّل الدولة والإسلام الرسمي المُسيطر على الفضاء العام في شؤون الطائفة؟ أم أنها بالفعل الفصل بين الدين والدولة وتساوي جميع المواطنات والمواطنين أمام القانون دون تمييز؟ أم هي تطبيق ما تقوله عبارة بطرس البستاني النهضوية التي يستحضرها الشارع المحتجّ بكثافة «الدين لله والوطن للجميع»؛ وأيضاً، هل يمكن لهذه العبارة بما تحمله من حمولة ليبرالية كلاسيكية وتبسيطية أن تكون مدخلاً إلى حلٍّ في سوريا الممزقة اليوم؟
ما هو البرنامج السياسي الذي يحقق المطالب؟
بلغت انتفاضة السويداء وقياداتها خلال فترة قصيرة عتبة لا رجعة عنها، من ناحية الإشارة الصريحة إلى موضع الخلل المتمثّل بالسلطة القائمة في سوريا، إلا أن هذه العتبة تحتاج لما هو بعدها. وهنا يبدو الاستعصاء واضحاً، ليس من ناحية الاتفاق على الشعارات، إذ لا يمكن مطالبة الجميع بالاتفاق على شعارات واحدة بالتأكيد، بل من ناحية من ينفذها؟ وكيف السبيل إلى تنفيذها؟ وهذه هي معضلة الربيع العربي، وإن ظهرت في سوريا بشكلها الكارثي من حيث انحدار شعبوي قاده تيارٌ واسعٌ في المعارضة السورية، عندما رفعَ شعارات لا يستطيع تنفيذها مُعتقِداً أن هذا ما يُقرّبه من الشارع.
من ناحية أخرى ما زالت هناك فئة واسعة متشبثة بالرواية الرسمية للدولة الوطنية، وإن كانت تُركّزُ فيها على رموز ما قبل المرحلة البعثية، وعلى صور محاربين وسياسيين من مناهضي الاحتلال الفرنسي. لكن الفئة المذكورة تتجاهل أيضاً أن هذه الرواية غير قابلة للتكرار على هذا المنوال الفلكلوري، فالكثير من فصولها وشخصياتها تم تركيبها على عجل في سبيل إنجاز الاستقلال وبناء دولته وكتابة روايتها التاريخية، ما يجعلها رواية واجبة النقد والتدقيق. كما أن سنوات الاحتراب الأهلي ساهمت في ضرب كثير من عناصرها وشخصياتها، وإن كان هذا لم يحصل في السويداء مباشرة نظراً لمحدودية العمليات العسكرية التي شهدتها خلال العقد الفائت مقارنة بغيرها، إلا أن أبناء السويداء أنفسهم يدركون جيداً أن ارتباطهم برمزهم في هذه الرواية الوطنية، أي سلطان الأطرش، لا يشبه ارتباطهم ببقية الرموز، وهذا ينطبق كذلك على بقية الشركاء وممثليهم في هذه الرواية.
في السياق نفسه، كان من الملفت رفعُ صور لمن اعتبرهم المتظاهرون ضحايا السلطة، فبالإضافة إلى صور المعتقلين والمغيبين قسرياً في سجون النظام السوري أو غيره من الجماعات المسلحة التي ظهرت إبان سنوات الحرب، ظهرت صور كمال جنبلاط (ولا تخلو من الدلالة عبارة شهيد العروبة والديمقراطية التي رافقت معظم صوره في المظاهرات) وشبلي العيسمي وفهد الشاعر، ممّن لم يكونوا على علاقة ودٍّ مع النظام السوري بل كانوا من ضحاياه المباشرين، كما في حالة جنبلاط المغتال، والعيسمي المختطف، والشاعر الذي توفي يعاني آثار التعذيب والسجن. استعادةُ الرموز والشخصيات المحلية، بالإضافة إلى نشر شبكات إعلامية محلية لمقابلات مع معتقلين سياسيين سابقين، والتذكير بما تعرّضوا له خلال تجربة الاعتقال، أمورٌ جاءت ردَّ اعتبارٍ لهؤلاء الذين لطالما غيبتهم سيطرة النظام على الفضاء العام. إلّا أن هذه الاستعادات بقيت في إطارها التكريمي لو جاز التعبير، ولم تتعداه لإمكانية البناء عليها في تشكيلات سياسية جديدة، يمكن لها أن تنقل مطالب الشارع إلى موضع التطبيق مستفيدة من الرأسمال الرمزي لبعض الأشخاص الذين ما زالوا منخرطين في الحراك.
بالمقابل برزت أصوات تنادي باللامركزية، وتخلطها أحياناً بالفيدرالية وبتجربة الإدارة الذاتية التي لا يبدو أنها تحظى بالشعبية في السويداء، لأسباب تعود إلى اختلاف شكل ومسار الارتباط والعلاقة مع السلطة المركزية في دمشق على اختلاف من تَسلَّمها،5 وإلى وجود فئات على تَناقُض مع هذه التجربة الغامضة بالنسبة لها، كما أن المنادين بالفيدرالية يفتقرون لوضوح المشروع والخطاب، وبعضهم سبق له أن تورَّطَ في انتهاكات وصراعات داخلية في السويداء، مثل قوة مكافحة الإرهاب التابعة لحزب اللواء أحد أبرز المنادين بتجربة الإدارة الذاتية. بيد أن نقد الطروحات الفيدرالية أو اللامركزية، على اختلاف مضمون الاثنتين، يجب أن ينطلق من وقائع أكثر متانة من الإنشاء العاطفي المتداول، إذ تُشير الوقائع إلى أن السويداء انحدرت إلى مراتب المحافظات الأشد فقراً في سوريا منذ عام 2005 إثر موجات الجفاف وتراكم سياسات الفساد وضعف التنمية، وكان من الواضح أنها تعتمد على أبنائها المغتربين في الأميركيتين ودول الخليج بشكل خاص، وكان جزء كبير من الخدمات قائماً على تبرعاتهم منذ ما قبل 2011، ثم تصاعدَ الاعتمادُ على أموال المهاجرين خلال سنوات الحرب.
أما من الناحية الأمنية فالدولة انسحبت من مهامها، لتُسلِّمَ المحافظة لعصابات الخطف والمخدرات، ولم يتصدَّ لهذه الظواهر إلّا المجموعات المسلحة المحلية. ضمن هذا السياق، يبدو أن السويداء تسير نحو تسيير أمورها ذاتياً سواء اعترف الجميع بالوضع القائم أم لم يعترفوا، فالاعتماد على النفس والتسيير الذاتي لو جاز التعبير قائمٌ ومنذ سنوات بحكم الأمر الواقع. ومع تراجُع الدولة عن دورها وبشكل تدريجي منذ مطلع الألفية، ووصول الأسد الابن إلى السلطة متبنياً سياسات اقتصادية نيوليبرالية، بدأت تتصاعد الحاجة إلى شبكات الأمان الاقتصادي الأهلية التي حجزت مكانها في قرى وبلدات السويداء، وهو ما ستتضاعف الحاجة إليه خلال سنوات الحرب، وما رافقها من دمار البنى التحتية وضعف القطاعات الخدمية والصحية والتعليمية، فلا تخلو قرية في السويداء اليوم من صناديق تبرعات لدعم التعليم والقطاع الصحي، وغير ذلك من مظاهر التكافل الاجتماعي مع الفئات الأشد فقراً. وتُضافُ إلى ذلك مهمة الحفاظ على الأمن وإنفاذ القانون التي باتت تقوم بها مجموعات مسلحة محلية، تحظى بالدعم الأهلي أحياناً، أو بالغضب وتبادل الاتهامات والأعمال الانتقامية أحياناً أخرى. وهكذا سواء كانت الطروحات السياسية تُنادي بتطبيق القرارات الأممية وعلى رأسها القرار 2254، أو كانت تنادي بربط الحل في السويداء مع غيرها من المناطق السورية، أو أنها تنادي باللامركزية أو حتى الفيدرالية، من الواضح أن كل ما يُطرَح إلى الآن يُعاني من مشكلة أساسية تتمثل في عدم بلورته ضمن برنامج يستقطب عموم الناس، ويحدد كيفية سعيه إلى غايته دون إيقاع أضرار كبيرة أو صدام عنيف داخل المجتمع أو مع السلطة؛ فما هو السبيل لتطبيق القرارات الأممية؟ أو من الذي سيُطبِّقها؟ وهل يمكن أن تمر مشاريع الإدارة الذاتية دون صدامات قد تكون دامية؟ وهل ما زال التمسّك بالرواية الوطنية الرسمية ممكناً دون نقد وتعديل بعد كل هذا الدم؟
في هذا السياق تأتي المسؤولية في عدم ترك الحراك يتلاشى، والتأكيد على مطالبه وامتداده الوطني، لكن مع الانتباه والتدقيق في الكلام الرائج منذ سنوات عن تقديس عفوية الشارع، وعن أن الوقت لم يحن بعد لتشكيل أُطُر سياسية تستطيع أن تعكس مطالب الشارع في مسار سياسي وبرامج عمل واضحة، ذلك أنه إذا لم يكن الوقت الآن هو المناسب لتشكيل هذه الأطر، فإن غداً سيكون متأخراً. أما الكلام عن العفوية وعدم القبول بالأطر الحزبية ورفض الإيديولوجيا على ما تقول عبارات يُكررها بعضهم، ودون التفكير العميق في ماهيتها ربما، فإن الكارثة السورية في بعض جوانبها هي واحدة من نتائج هذا النهج في العمل والخطاب السياسيين، لا بل إن جزءاً هاماً من المآلات المظلمة التي حلّت بالربيع العربي ومسار الانتقال الديمقراطي هو تصديق الكلام عن العفوية التي تقود الجموع، وعدم القدرة على بناء تجمعات سياسية متينة، والاكتفاء بالأشكال الائتلافية والتجميعية كيفما اتفق، وكأنَّ ملكوتَ التغيير يمكن أن يحلّ علينا من الفضاء دون الارتباط بقوى سياسية وبنى اقتصادية واجتماعية تسعى إلى إنجازه. ومن المثير للقلق كثرة التصريحات التي تصبّ في هذا الإطار من قبل كثيرين من وجوه الحراك وفاعليه في السويداء، كأن يؤكد بعضهم أن انتماء الناس هو فقط للحراك، أو ينأوا بأنفسهم وتجمُّعاتهم عن العمل السياسي، في تصريحات و«سياسات» تُظهر حجم القطيعة مع السياسة والخوف منها.6
أي سياسة في واقع إقليمي مُعقّد؟
جاءت الاحتجاجات في السويداء خلال فترة تصاعدت فيها إشارات عودة العلاقات مع سلطات دمشق، ومحاولات إدارة الملفات الخلافية معها من قبل دول الجوار العربي. وإن لم تسر هذه العملية بالسرعة التي توقَّعها من بدأوا بها، لكنها لم تتوقف أيضاً. وضمن هذا الإطار يمكن أن يُفهَم الإحجام العربي عن التعليق على الاحتجاجات القائمة في السويداء أو دعمها، رغم أن قيادات محلية وسياسية ودينية وازنة لم تتردد في توجيه رسائل التطمين والإعراب عن الرغبة في التقارب مع الدول العربية، وعلى رأسها الأردن بما يمثله البلد الجار من عمق تاريخي واجتماعي لأبناء السويداء، إلا أن الرد السلبي رغم ما تتعرض له الحدود الأردنية الشمالية من ضغط عصابات التهريب كان مُلفتاً.
يضاف إلى ما سبق تصاعُد الحرب على عصابات تهريب المخدرات من قبل الأردن، وتنفيذه لعمليات قصف جوي متكررة على قرى في الريف الجنوبي للمحافظة، أوقعت عدداً من الضحايا المدنيين بينهم نساء وأطفال، ودمرت منازل ومرافق لعائلات آمنة. هذه العمليات بحد ذاتها يسودها الغموض من حيث مصادر المعلومات وبنك الأهداف، ورغم أن الأهالي يرفعون الصوت ضد عصابات تهريب وتجارة المخدرات، بالاستعانة بالفصائل المحلية تارة، أو بالأعراف الدينية والاجتماعية تارة أخرى، إلا أن العمليات العسكرية الأردنية شكلت صدمة بما أوقعته من ضحايا في صفوف المدنيين. رغم ذلك، كان من الملحوظ ضبط النفس الذي مارسه الشارع أو حتى القيادات الدينية والسياسية في الرد على الغارة الأردنية الأخيرة، والتي سقط فيها مدنيون بينهم نساء وأطفال في بلدة عُرمان بتاريخ 18 كانون الثاني (يناير) 2024.
كذلك جاءت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة لتدفع احتجاجات السويداء إلى مقام النسيان الإعلامي، حتى في وسائل الإعلام السورية المحسوبة على المعارضة، ذاك أن الخوف من اندلاع حرب إقليمية شاملة ما زال قائماً في ظلّ تواتر العمليات العسكرية التي تنفذها الأطراف المتصارعة والرسائل المتبادلة بينها من خلال الساحة السورية. فبينما قصفت إسرائيل في قلب العاصمة دمشق وأطرافها قيادات إيرانية أو من الميليشيات المتعاونة معها، لم تتردد هذه الأخيرة في تنفيذ عمليات استهدفت القواعد الأميركية في سوريا والعراق.
هذا المشهد الإقليمي المعقّد وارتباطه بجغرافيا سوريا وأحوال السياسة وتنازُع مناطق النفوذ فيها، يدفع احتجاجات السويداء إلى موقع ثانوي من الاهتمام العام والإعلامي، كما أنه لا يساعد الناس في تخيُّل أشكال العمل أو الأطر السياسية الممكنة، في منطقة لا تخرج من حرب إلا لتدخل في أخرى، بينما تنهار دُوَلها وتنخرط كطرف في حروبها الأهلية، وتسود ساحاتها الميليشيات العقائدية.
ماذا بعد التعبئة في الشارع؟
تبدو استعادة شعارات وأهداف وطنية جامعة، والتجمُّعات المهنية التي ظهرت خلال احتجاجات محافظة السويداء، بعضاً من النقاط المهمة، إضافة إلى وضوح بعض المطالب السياسية بالتغيير والانتقال الديمقراطي في إطار مرجعية القرارات الدولية، وهو ما يمكن اعتباره إطاراً جامعاً لقوى الحراك، فضلاً عن الشعارات المطلبية ذات الامتداد الوطني مع من هم خارج حدود السويداء الإدارية.
إلا أن المزاج الناشطي الذي يستطيع الحشد في الشارع أو على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يخشى الذهاب خطوة للأمام نحو التنظيم ووضع البرامج القابلة للتنفيذ والدخول في تحالفات ومفاوضات وفرز الأعداء والخصوم والحلفاء، وصولاً إلى طلب السلطة صراحةً بوصف الوصول إليها هدفاً ووسيلة للتغيير؛ هذا المزاج يبقى عقدة أساسية في الربيع العربي، وربما في موجة الاحتجاجات العالمية التي شهدتها ساحات العالم خلال العقد الفائت، من «احتلوا» في الولايات المتحدة إلى «الليل وقوفاً» في فرنسا، مروراً بساحات العواصم العربية، وليست احتجاجات السويداء استثناء في هذا.
يُضاف إلى ذلك، في سياق الوضع الإقليمي وأزماته السياسية وتركيبته الاجتماعية، خطرُ الاستسلام للبنى الأهلية وما تُمثّله بوصفها المُعبِّرَ عن المجتمع، وهذا ما كانت توافقت عليه قوى متعددة في المعارضة منذ 2011 تطبيقاً للرؤية الشعبوية الكارثية القائلة بضرورة «القرب من الشارع والسير خلفه». تجريبُ المُجرَّب في السويداء اليوم لا يقل خطورة، وهو إن كان لا يُهدّد بالجهاديين، فإنه يعوّق تحسين الحال ويَحولُ دون نقله خطوة إلى الأمام.