نُقل عن دبلوماسي فرنسي رافق وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه في زيارته لكل من تل أبيب وبيروت قوله إنّ مسألة الجبهة اللبنانيّة – الإسرائيليّة “لن تنتهي على خير”.
ووفق مَنْ نقل هذا الكلام عن الدبلوماسي الفرنسي، فإنّ ما يقال في بيروت، في واد، وما يقال في تل أبيب في واد آخر. في بيروت، هناك شرح لما يريده “حزب الله”، أي تسجيل انتصار “بالنقاط” على إسرائيل، أمّا في تل أبيب، فهناك شرح لما يريده مواطنوها في الشمال حتى يعودوا إلى بلداتهم ومنازلهم وأعمالهم، أي طمأنينة كاملة بأنّ ما فعلته “حركة حماس” في غلاف غزة، يستحيل أن يقوم بمثله “حزب الله” في الجليل، الأمر الذي يتطلّب انسحاب مقاتلي الحزب إلى “حدود الأمان”!
وبين ما يهدف إليه “حزب الله” وما يريده سكان شمال إسرائيل، بون شاسع تجد الدبلوماسيّة صعوبة هائلة في أن تجسر الهوّة الفاصلة بين الإرادتين المتناقضتين الواثقتين بأنّهما تملكان القوة الكافية لتحقيق انتصار عسكري، إذا تحوّلت “حرب الاستنزاف” إلى “حرب شاملة”.
ويتقاطع جميع المتحركين على خط بيروت – تل أبيب على أنّ لا إسرائيل ترغب بحرب واسعة، مع أنّها تتحضر لها، ولا “حزب الله” يتطلّع إلى ذلك، مع أنّه لا يوقف “الترحيب” بها، ولكنّ انعدام الرغبة هنا والإرادة هناك، لا يعنيان، مطلقًا، إلغاء احتمال نشوب حرب واسعة.
ووفق هؤلاء الدبلوماسيّين، فإنّ مخاطر تحويل “حرب الاستنزاف” إلى حرب طاحنة، تكمن في الضغط الكبير الذي تتعرّض له الحكومة الإسرائيليّة من سكان الشمال الذين لا يثقون بالحلول الدبلوماسيّة المطروحة لأنّ أسسها “مهزوزة”، فقد أبلغ رؤساء المناطق والبلديات المعنيّين الحكوميّين والعسكريّين بأنّ لا ثقة بأيّ حل يقوم على ضمانات توفرها اليونيفيل والجيش اللبناني في الجنوب، وطالبوا بحل عسكري من شأنه أن يخلق منطقة عازلة داخل لبنان وليس داخل إسرائيل، كما هي عليه الحال راهنًا.
ووفق ما يتناقله الدبلوماسيّون وما تعكسه الصحافة الإسرائيليّة، فإنّ سكان شمال إسرائيل الذين تمّ إجلاؤهم أو الذين نزحوا من تلقاء أنفسهم، يرفضون أن يعودوا إلى بلداتهم ومنازلهم وأعمالهم، في حال لم يبعد الجيش الإسرائيلي، بما لديه من إمكانات، مخاطر “حزب الله” عنهم.
وبالفعل، فقد سمع قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي اللواء أوري غوردين، في اجتماع عقده، على إثر انتهاء التدريبات التي تحاكي حربًا ضد “حزب الله”، مع ممثلي سكان شمال إسرائيل، مواقف عالية السقف، بحيث قال له رئيس بلدية كريات شمونة، أفيحاي شتيرن: “سكان منطقتي لا يؤمنون بأيّ اتفاق، وهم ليسوا أغبياء ويدركون أنه لا سبب لنجاحه، فكل اتفاق لم ينجح حتى يومنا هذا. وأي اتفاق آخر يعتمد على الأمم المتحدة والجيش اللبناني محكوم عليه بالفشل. إنّ التنازلات لن تؤدي إلا إلى زيادة شهية حزب الله وفهمه أنه من خلال الإرهاب والقتل سيحقق المزيد”.
وقال غابي نعمان، رئيس بلدية شلومي، إنّ “أي اتفاق يتم توقيعه مع حزب الله يعني الحفاظ على المنظمة الإرهابية وحمايتها وخيانة سكان الشمال. حزب الله يسعى إلى تدميرنا، وعلينا كدولة ألا نصدق ذلك بأي حال من الأحوال ونعقد الاتفاقيات معه”.
ويعكس هذان المثلان ما أجمع عليه ممثلو سكان إسرائيل، في سياق ضغطهم الذي يتصاعد على الحكومة والجيش، يومًا بعد يوم، في إشارة إلى أنّ إطالة “حرب الاستنزاف” بدل أن تفسح في المجال أمام الجهود الدبلوماسيّة فهي تعزّز الرغبة بالجهود العسكريّة، الأمر الذي يعني، مرة جديدة، أنّ طلب لبنان إرجاء البت بأيّ ملف على صلة بتهدئة الجبهة اللبنانية – الإسرائيلية الى حين وقف الحرب في غزة وحتى إلى ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، يعني أنّه يستدعي الحرب التدميريّة.
ويعيد هذا الضغط الأهلي الذاكرة الإسرائيليّة الى أحد أسباب احتلال الجولان السوري في عام 1967، إذ تُثبت وثائق نشرت في وقت سابق، عن خفايا حرب الأيّام الستة، أنّ الحكومة الإسرائيليّة لم تكن بوارد شن عملية عسكرية هجومية على هذه المنطقة، نزولًا عند ضغوط قوية كان يمارسها عليها، في حينه، الاتحاد السوفياتي.
وزير الدفاع في حينه موشيه دايان كان ضد هذه العملية، على الرغم من أن الاستعدادات العسكرية لها كانت ناجزة، لكن رئيس مستوطنات الشمال وسهل الحولة، الذي رأى في الحرب فرصة لن تتكرر لإنهاء معاناتهم، لم يتنازل. وقام مع قائد المنطقة الشمالية، وبمساعدة وزير العمل، آنذاك، يغآل ألون، وبموافقة رئيس الحكومة ليفي أشكول، بحضور جلسة الحكومة في 8 حزيران (يونيو) 1967، وطالب بحدّة من دايان ووزراء المجلس الوزاري الأمني المصغر بعدم إنهاء هذه الحرب من دون احتلال المواقع السورية في هضبة الجولان، وبهذه الطريقة، تنتهي معاناتهم المستمرة منذ وقت طويل.
حينها، ترأس وفد رؤساء المستوطنات يعقوب أشكولي، من كيبوتس كفار جلعادي، والذي صرخ في وجه دايان والوزراء بغضب، قائلاً: “أخبروني، هل نحن جزء من هذه الدولة، ومن حقنا أن يدافع الجيش الإسرائيلي عنا كما يدافع عن سائر الدولة كي نفهم”. في اليوم التالي، وافق على بدء الهجوم على هضبة الجولان.
ما حصل في عام 1967 يتكرر الآن. العامل الحاسم لعدم توسيع الحرب هو وقوف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ضدّها، على اعتبار أنّ الجهود الدبلوماسيّة قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة. لكنّ الميدان يقدّم الأدلة على أنّ واشنطن عاجزة عن إنجاز ما تعد به، في حين أنّ الضغوط الشعبية تكبر الى مستويات غير مسبوقة، وتكاد تلصق تهمة الخيانة بالحكومة والجيش في آن.
قد يحاول رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو شراء الوقت من خلال التركيز على ملف شائك جديد في غزة، وهو الهجوم الذي تقرر على مدينة رفح، لكنّ علاقاته المأزومة مع البيت الأبيض قد تجعله يضعف أمام الضغوط الشماليّة وتأثيراتها اللاحقة على وضعيته الداخليّة، فيعطي الإذن بتوسيع حرب يبدو واضحًا أنّ وزير الدفاع يوآف غالانت الذي غيّب في بيانه عن فحوى اتصاله، أمس بنظيره الأميركي لويد أوستن أيّ ذكر للجبهة مع لبنان، يريدها!