سمير التقي
كان يمكن أن يكون خطاب حسن نصرالله عادياً، من حيث جموحه الشعبوي الغيفاري، الذي أعماه عن إدراك المخاطر والتحديات التي تحيق بلبنان والإقليم.
في محطتين أساسيتين، استمرأ نصر الله، لعبة الإنكار، العتيقة، في عدة مواقع. ففي حين لم يدّع ِ أحد، ولا حتى الإسرائيليين، ان حماس أبلغت الحزب بساعة الصفر في هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تقول المعطيات الملموسة، وبعضها من أصدقاء “حماس”، ان حجم وكميات المعدات الإيرانية التي كانت تتدفق من اليمن نحو بورتسودان ومن ثم نحو سيناء، والتدريب المعلن للآلاف من عناصر حماس والتنسيق والتخطيط الاستخباري الكثيف، لا يدع مجالاً للشك، ان إيران كانت على علم بجوهر وأهداف وأبعاد ما تحضر “حماس”.
لذلك تُقرأ رسالة نصرالله عن استقلالية قرار “حماس”، من منطق أن قرار دخول “حزب الله” للمعركة، ليس حمساوياً، هو إيراني بامتياز. ذلك ان “حماس” تردد، خارج كل قواعد البروتوكول “الثورية”، “بالعتب” الغاضب المتكرر للإخوة في “حزب الله”، بأن لا يقطعوا الحبل بهم، بعد أن نزلوا لمنتصف البئر.
لكن نصرالله، ما لبث أن دحض حجته بالحديث عن ترابط الساحات، وليبارك الصواريخ والمسيرات ضد الأهداف الأميركية. فليس هذا تضامناً عفوياً.
الإنكار الثاني هدف لرسم صورة ملائكية لمقاتلي “حماس”، وتطهير يدهم مما ارتكب من عمليات قتل للمدنيين الأبرياء في المستوطنات الإسرائيلية. فبادعائه أن الجيش الإسرائيلي هو الذي ارتكب هذه الجرائم كان تلفيق نصر الله من ذات عيار التلفيق الإسرائيلي بادعائه أن الجهاد الإسلامي هو من قصف المشفى المعمداني.
لكن أخطر ما عكسه الخطاب كان انتفاخه بالغرور. فلقد أعلن تحالفاً استراتيجياً إقليمياً لمحور “المقاومة”، مقابل الحلف الغربي وليهدد الولايات المتحدة وإسرائيل، ولينتقد بعدئذ الدول العربية التي لا تنسجم مع اجندته.
بذلك رسم نصر الله خندقاً مقابلاً للتحالف الغربي بأسره. ثم انساق في لحظة من غرور القوة لتهديد الولايات المتحدة والدول الغربية بتدمير أساطيلها، والويل والثبور وعظائم الأمور.
ذكرني خطاب نصر الله بخطاب ستالين في عيد العمال 1946 حيث أعلن “الحرب على الإمبريالية العالمية”. واليوم لو تحدث الزعيم الصيني شي جينبينغ بهذه اللهجة، لقلنا لا بد ان الصين حققت نقلة نوعية جديدة في ردعها الاستراتيجي، بل ولابد انها أنجزت نقلة كبيرة في قدراتها الهجومية كي تهدد بهذه الطريقة.
لكن ان يوصل غرور اللحظة نصرالله ليتصرف كدولة، بل كدولة كبرى، بل كزعيم لتحالف ومعسكر إقليمي، فذاك غرور يجر دول المنطقة نحو انتحار جماعي. لكن من ينصت لعبداللهيان وزير خارجية إيران، يدرك ان إيران ستكتفي بالنفخ في الحريق، لا أكثر ولا أقل.
ثمة من يقول أن نصرالله يعتقد أن الأميركيين سرعان ما يملون كالعادة، وكما ملوا من أفغانستان، ليخرج نصر الله عندها برايات النصر، فهكذا فعلت “طالبان” وهكذا فعل “القاعدة”. فهل هذا ما يقصده؟
لكن أخطر ما ورد في خطاب نصرالله، هو ربطه بين تصفية “حماس” في غزة وبين تورط “حزب الله” وتوابعه مباشرة في الحرب ضد إسرائيل والولايات المتحدة.
فإخراج “حماس” من الصورة الفلسطينية، صار ضرورة لكل المتحالفين في الإقليم لإتاحة الفرصة لإغلاق المعركة.
أين الخطورة في ذلك! الخطورة هي أن التبجح ليس مجانياً دوماً! والمعطيات التي ولدت خروج المدمرة نيوجيرسي من سواحل بيروت، تختلف جذرياً عنها اليوم. بل يوحي هذا الخطاب أن نصرالله، في عزلته الشديدة لم يعد في حاشيته من يقدم له من المعطيات الا بما يطربه.
لن أتحدث عن التحولات الهائلة في موازين القوى والتوجهات العالمية مند عام 1985 الذي يتشوق اليه نصرالله. لن أتحدث عن عواقب سقوط الاتحاد السوفياتي، ولا عن انهيار جبهة الصمود والتصدي بدولها، ولا عن تحولات العالم وموازين القوى، ولا عن آثار الحرب الأوكرانية على روسيا، ولا عن الوضع الاقتصادي الإيراني، ولا عن الانهيار النهائي للردع السوري، إلخ…
لكني سأشير للتحولات الإقليمية العميقة الجارية الآن. كانت الولايات المتحدة تحاول أن تحتوي إيران إيجابياً. وحاولت اقناع إسرائيل بإمكان تطويعها لتصبح دولة طبيعية بغض النظر عن الحمى العقائدية. وكانت المفاوضات تسير لاستعادة بعض مفاصل الملف النووي، وقامت بتبادل السجناء والافراج عن المليارات، بل وشجعت الاتفاق الإيراني السعودي برعاية صينية، وهناك حديث عن إغلاق قاعدة قطر.
كل ذلك على أمل تشجيع إيران ألا تذهب بعيداً في تحالفها مع روسيا. كان التفاوض الإيراني الأميركي يجري بالمناوشات الميليشيوية والتصريحات النارية، لكن الأمور كانت تبقى تحت الضبط. وكبادرة حسن نية أميركية، سحبت الولايات المتحدة أساطيلها وصار وجودها رمزياً في قطر والبحرين.
بالنسبة للعقل الغربي، كانت أحداث غزة صفعة لكل أوهام التطبيع مع إيران. إذ لا أحد يشتري إنكار نصرالله بعدم وجود علاقة لإيران بتطور الأحداث. وما صفع الدول الغربية يشبه الصفعة التي تلقوها من بوتين بعد غزوه لأوكرانيا. انها صحوة أخرى من أوهام ساذجة حول إيران.
نعم، وكما تحدث نصرالله، بعد السابع من  تشرين الأول، لا شيء سيبقى على حاله. فلقد كسرت إيران مزراب العين، وسمحت بنشوء وضع كاد ان يشكل تهديداً وجودياً لإسرائيل، وكاد أن يشعل المنطقة ويجبر الولايات المتحدة على التورط المباشر.
نعم وكما هزت الحادي عشر من أيلول 2001(سبتمبر) أميركا، اهتزت إسرائيل في السابع منتشرين الأول 2023. لكن هذا الاهتزاز شيء والضربة القاضية التي قد تهزم أميركا أو إسرائيل شيء آخر.
وثبت بالتالي ان إيران لا تزال مغرمة بقلب التوازنات ليس فقط ضد خصومها الإقليميين، بل وضد الغرب والولايات المتحدة. وبعدما سعت لتصفية الوجود الأميركي من الإقليم صار هذا الوجود مستداماً طالما بقيت إيران دولة لتصدير الثورات.
الأخطر انه بعد انكسار مزراب العين لم تعد إسرائيل ومعها الولايات المتحدة تقبل بسكين “حزب الله” قرب رقبتها. فكيف ومتى ستتصرف. لذلك لم تكن كلمات حسن نصر الله البارحة لا واضحة ولا غامضة كما وصفها هو. بل كانت مغامرة، خطرة، وغارقة في نوستالجيا زمن مختلف.