مقدمة المترجمة
تفيض الوسائط هذه الأيام بصور أجسادٍ فلسطينية تتعرّض للتنكيل وتُنتشل من الرماد وتواجه الموت دون هوادة. هذه الصور ستعلق في أذهان من يعيشها على جسده وتلاحقه في حوافّ الأيام العادية، وسيخزّنها الإنترنت وستنتفع من الألم الحارق فيها مستودعات البيانات والأنظمة القامعة، وستُتيح للخوارزميات التوغل في الاضطهاد. تظهر بين هذه الصور أحداثٌ لا تُفهَم الجلبة حولها، فتُسمَع كأنها «طوشة» أخرى في بلد غريب وبعيد مغلّف بلغة لا يعرفها سوى المُدبِّرين أمرهم في شوارعها. في أحد الفيديوهات التي مرَّرتْها الشاشات في الأيام الأخيرة يصدح صوت هتاف «ماڤيت لعراڤيم» (מוות לערבים أي الموت للعرب)، نداء يُحرّض على الاعتداء على من يسميهم اليهود «العرب» ومن يسمون أنفسهم تسميات غير متوافقة بالضرورة، وغالبًا ما يُشار لعروبتهم كضدّ للجماعة المهيمنة على الحيّز، أي المستعمِر الذي تضخمت ضدّيّته مع مرور الوقت. يَهيجُ في هذا الفيديو حشدٌ من الرجال بعد خروج سبت 28 تشرين أول، اليوم الثاني والعشرين للحرب، في مدخل مبنى سكني للطلبة في مدينة نتانيا الواقعة غرب طولكرم وشمال تل أبيب، تترنح عناصر شرطة في المكان ولا يبدو أنها تسيطر على هذه الزيطة. لا يعرف أحدٌ ما يجري، كل ما نسمعه هو هذا الهتاف المألوف في مدرجات كرة القدم وعلى الجدران في الشوارع ومقاعد الباصات في القدس، والحاضر بقوة في أيام الصدامات أو الانتخابات. ما الذي جاء بمئات المحتجين من سكان المدينة إلى مدخل مبنى سكني للطلاب في كلية متوسطة؟ وفق موقع Walla الإخباري يتضح أن ما أَجَّجَ الغضب هو أن بعض الطلاب «شغّلوا موسيقى عربية بصوت عالٍ وأنهم رموا بيضًا على أطفال يلعبون في ساحة ألعاب، وأن مجموعات الوتسآب في المدينة لم تهدأ، وأن أحد المبادرين لهذا التجمهر المُطالِب بقتل العرب هو موظف بلدية يدير صفوفًا احتياطية مسلحة». وفق تقرير هآرتس عن الحدث، تجمهر مئات المتظاهرين، وبعضهم مسلحون، أمام المبنى بينما التمَّ الطلبة سوية ووجدوا ملاذهم في السقف إلى أن تمكنت الشرطة من إخلائهم واضطروا أن يغادروا المدينة مرغمين عائدين إلى قراهم ومدنهم. هذه صورة أخرى لتلاشي الجسد الفلسطيني المهدد وهي ليست حدثاً جديداً، لكنها مسألة تتفاقم خطورتها.
أُعلن عن تأجيل بدء السنة الأكاديمية أكثر من مرة منذ اندلاع الحرب، وطلب رئيس جامعة من أُستاذة تبحث وتكتب حول نزع الطفولة من الطفل الفلسطيني وآثار الصدمة والجريمة في جامعة معروفة أن تستقيل لأنها وصفت ما يجري في غزة بالإبادة الجماعية، تلقّى طلبة جامعات رسائلَ إقصاء من الحرم الجامعي إثر منشورات على حسابات التواصل الاجتماعي، ومن بينها ستوري يُظهر شكشوكة قيد التحضير مع الكلمات «شكشوكة الانتصار وإيموجي علم فلسطين»، والحبل على الجرار. الحرب ليست استثناءً، لكنها تكثّف من طغيان العنف وترفع مستوى التحسّب والحذر بين أولئك المتواجدين في أطراف الحدث الأفجع. المخاطر يُحسَب حسابها كل يوم بين أسوار الأكاديميا الإسرائيلية. عَزَم الكيان الجديد الآخذ بالتشكل في خمسينيات القرن الماضي على إدارة حياة هؤلاء الذين «بقيوا» في ما تبقى من أرضهم، فنرى كيف قُلِّصَ الفلسطينيون والفلسطينيات داخل الخط الأخضر من المساحات كافة، كأنهم غير موجودين، فكيف يستدركون هذه الممارسات الممنهجة وسط فقدان متراكم؟ ما علاقة كل هذا بصَون المعرفة؟ وكيف تبدو تجارب الفلسطينيين والفلسطينيات في أسوار الجامعات والكليات ومؤسسات التعليم العالي في هذه الأيام؟
يُجيب كتاب في جوف الحوت الصادر عن الدفيئة النقدية البحثية في معهد ڤان لير (القدس) ودار ليلى للنشر والترجمة (عكا) عن هذه الأسئلة وأكثر، ويوثّق أصواتًا وأجيالًا اختبرت السير بعزم في أروقة متربصة. يشمل الكتاب حوارات مع باحثين وباحثات فلسطينيين وفلسطينيات في جامعات إسرائيلية وشهادات لطلاب ومقارنات مُترجَمة للعربية. من بينها مقطع من كتاب بين العالم وبيني1 للكاتب الأميركي تا نيهيسي كوتس، الذي يخاطب فيه ولده المراهق حول مشاعر وحياة السود في الولايات المتحدة. تناول المقطع الذي اختاره مُحرِّرا الكتاب، يارا سعدي وخالد فوراني، تجربة كوتس الجامعية وفرصة لقائه بأمثاله من ذوي وذوات البشرة السوداء في مساحة يطوف فيها وتتيح له استكشاف العالم خارج قوقعة نشأته، حيث يتعرف على سود آخرين ويحاول فهم معنى أن تكون أسودًا في القرن العشرين.
تُنشر هذه الترجمة بإذن الناشر.
*****
مقطع من كتاب بين العالم وبيني، لـ تا نيهيسي كوتس
عندما التحقتُ بجامعة هوارد2، كان تدمير الحضارات السوداء لتشانسلور ويليامز كتابيَ المقدّس. درَّسَ ويليامز بذاته في هوارد. قرأته عندما كنت في السادسة عشرة من عمري، حيث قَدّمتْ كتبه نظريّة هائلة عن آلاف السنين من النهب الأوروبيّ. حرّرتني النظريّة من أسئلة مؤرِّقة (هذه هي غاية القوميّة) ومنحتني تولستوييَ الخاصّ. قرأتُ عن الملكة نزينـﭼـا3 التي حكمت أفريقيا الوسطى في القرن السادس عشر، وعن مقاومتها للبرتغاليّين. قرأتُ عن كيفيّة إدارتها المفاوضات مع الهولنديّين. عندما حاول السفير الهولنديّ إذلالها عبْر منعها من الجلوس، أظهرت نزينـﭼـا نفوذها بأمْر إحدى مستشاراتها الدَّبَّ على أربعٍ محوِّلةً جسدها إلى كرسيّ بشريّ. ذاك هو صنف القوّة الذي أبحث عنه، وهكذا أصبحت القصص عن ملكاتنا وملوكنا سلاحًا أَعتدُّ به. رأتْ فرضيّتي الناشئةُ إذّاك الناسَ السود كافّة ملوكًا في المنفى، أمّة من البشر الأصليّين انشقّت واجتُثّت من أسمائنا الأصليّة وثقافتنا النوبيّة الجليلة. بالتأكيد هذه هي الرسالة التي استخلصتها من إمعان النظر في الساحة. فهل هناك شعب، في أيّ مكان، مترامي الأطراف وفاتنُ الجمال مثلنا؟
احتجتُ إلى المزيد من الكتب. تُحفظ إحدى أكبر المجموعات في جامعة هوارد في مركز الأبحاث مورلاند – سبينـﭼـارن، حيث عمل جدّك. حفظت مكتبة مورلاند الأرشيفات والوثائق والمجموعات، وتقريبًا كلّ ما كُتب بقلم أشخاص سود أو ما كُتِب عنهم. في القسط الأكبر من الفترة التي أمضيتها في مكّة4، حرصتُ على اتّباع طقس بسيط: كنت أسير إلى قاعة القراءة في مورلاند، وأملأ ثلاث قسائم طلبات لثلاثة كتب مختلفة. اعتدتُ أن أختار مقعدًا في إحدى الطاولات الطويلة. كنت أُخرِجُ قلمي ودفترًا من دفاتري المزركشة بالأبيض والأسود. كنت أفتح الكتب وأقرأها بينما أنا أملأ دفاتري بملاحظات حول ما أقرأ، عبارات جديدة تعلّمتها للتوّ، وجُمَلًا من تأليفي. كنت أصل في الصباح، فأطلب ثلاث قسائم طلبات في كلّ زيارة، أعمال أيّ كاتب سمعتُ عنه في المحاضرات أو في الساحة: لاري نيل؛ إريك ويليامز؛ جورج بادمور؛ سونيا سانشيز؛ ستانلي كراوتش؛ هارولد كروز؛ مانينـﭺ مارابل؛ أديسون ﭼـايل؛ كارولين رودجرز؛ إيثريدج نايت؛ ستيرلينـﭺ براون. أذكر ما آمنت به إذّاك: مفتاح الحياة يكمن في توضيح الفرق الدقيق بين «الجماليّات السوداء» و«الزنوجة» [Négritude]. فكيف، على وجه التحديد، ضعضعت أوروبا أفريقيا؟ عليّ أن أعرف. ولو كانت أسرة الفراعنة الثامنة عشرة على قيد الحياة في أيّامنا، هل كان أفرادها سيعيشون في هارلم؟ كان عليّ أن أستنشق كلّ الصفحات.
شرعتُ في هذا التقصّي متخيّلاً التاريخ سرديّة موحّدة، خالياً من الجدال، وأنّه بمجرّد ما أكشف عنه لا بدّ أن يضع اليقين في كلّ شكوكي بسلاسة. سوف تتسامى ستارة الدخان، وسوف تُزال الأقنعة عن وجوه الأشرار الذين عبثوا بالمدارس والشوارع. ولكن هناك الكثير ممّا تنبغي معرفته؛ مساحات جغرافيّة شاسعة لتغطيتها: أفريقيا؛ جزر الكاريبي؛ القارّتين الأميركيّتين؛ الولايات المتّحدة. كلّها مناطق لها تواريخ وشرائع أدبيّة واسعة النطاق وبحوث ميدانيّة وإثنوﭼـرافيّات. من أين أبدأ؟
لاحت المشاكل على الفور تقريبًا. فبدلًا من التقاليد المتماسكة ثابتة الخطى، وجدتُ فصائل، وفصائل داخل فصائل أخرى. هيرستون نازع هيوز، وَدو بوا حارب ﭼـارفي، بينما خاصم هارولد كروز الجميع. أحسست أنّي واقفٌ على جسر سفينة كبيرة لم يكن بمقدوري السيطرة عليها، لأنّ سي.إل.آر. جيمس كان موجة عاتية وباسل داﭭـيدسون دوّامة هدّارة سحبتني هنا وهناك. بدت الأفكار التي آمنت بها قبل أسبوع واحد فقط، والأفكار التي استلهمتها من كتاب واحد، هشّةً ومعرَّضة للتهشُّم بواسطة كتاب آخر. هل احتفظنا بأيّ تفصيل من ميراثنا الأفريقيّ؟ يقول فرايزر إنّه قد دُمّر بالكامل، وهذا الدمار هو الدليل على فظاعة آسرينا. يقول هيرسكوﭭيتز إنّ الميراث لا زال حيًّا، وإنّ هذا ليس إلّا دليلًا على صمود روحنا الإفريقيّة. وبحلول سَنَتي الدراسية الثانية، بدا طبيعيًّا أن أقضي يومًا اعتياديًّا أحاول فيه أن أسوّي الخلافات بين اندماجِ فريدريك دوﭼـلاس في أميركا وهروبِ مارتن ديلاني إلى القوميّة. ربّما كانا كلاهما على حقّ بصورة ما. جئتُ باحثًا عن مسيرة، عن استعراض عسكريّ لأبطال يسيرون في صفوف. وبدلًا من ذلك، وجدت نفسي مع شجارات الأجداد؛ قطيع من المنشقّين يسيرون أحيانًا في تلم واحد، وفي أحيان كثيرة يسيرون متفرّقين متباعدين.
اعتدتُ أن آخذ استراحات أثناء القراءة وأذهب إلى البسطات المصطفّة في الشارع وأتناولُ الغداء في الساحة. كنت أتخيّل مالكولم5 مكبّل الجسد في زنزانة وهو يطالع الكتب ويقايضُ عيونه الإنسانيّة بالقدرة على التحليق. وأنا كذلك شعرتُ بنفسي مكبَّلًا بقيود جهلي، وبالأسئلة التي ظننتها ذرائع فقط، وبافتقاري للإدراك، وبهوارد ذاتها. فهي في نهاية المطاف مدرسة. أردتُ أن أُحصِّلَ أشياءَ، أن أعرف أشياءَ، لكنّني لم أتمكّن من ملاءَمة وسائل المعرفة التي وصلتْ إليّ بتناغم من تلقاء نفسها مع توقّعات الأساتذة. كان السعي نحو المعرفة هو الحرّيّة لي، وهو الحقّ في الإفصاح عمّا يثير فضولك ومتابعة هذا الفضول من خلال كلّ أنواع الكتب. خُلِقتُ لأكون في المكتبة لا في الصفّ الدراسيّ. كان الصفّ الدراسيّ سجنًا لمصالح الآخرين. وكانت المكتبة مفتوحة، لا تنتهي، متاحة ومجّانيّة. ورويدًا رويدًا، بدأتُ أكتشف نفسي. عيّنت لي أفضل فصول مالكولم ثنايا الدرب. مالكولم دائم التغيُّر، لم يكفّ عن التطوّر والسعي نحو حقيقةٍ ما، إلى أن اجتاز حدود حياته وحدود جسده. شعرتُ بنفسي أتحرّك، لا زلت متّجهًا نحو امتلاكٍ كامل لجسدي، ولكنّني أسير في درب لم يخطر في خيالي من قبل.
لم أكن لوحدي في مسعاي. قابلتُ عمك بِن في مكّة. ومثلي تمامًا، جاء هو كذلك من تلك المدن حيث يفصل الحياةَ اليوميّة عن الحلم شرخٌ مَهُول إلى درجة تتطلّب تفسيرًا. وهو أيضًا، مثلي تمامًا، جاء إلى مكّة باحثًا عن طبيعة هذا الشرخ وأصله. تقاسمنا سِمَة الشكّ الصحّيّ وإيمانًا عميقًا بأنّنا حتمًا سنجد طريق الملاذ من خلال القراءة. أحبّته النساء؛ وأيّ مكان رائع هذا لتحظى بالحبّ! لقد قيل، ونحن آمنّا بهذا دون تردُّد، إنّه لا مكان على وجه البسيطة يستقطب تجمُّعًا نسائيًّا بديع الجمال أكثر من ساحة جامعة هوارد. وبصورة ما، اندرج هذا بين أغراض البحث: جمال الجسد الأسْوَد كان تجسُّد جمالنا جميعًا، تاريخيًّا وثقافيًّا. أصبح عمّك بِن رحّالًا مدى الحياة، واكتشفتُ أنّ ثمّة خصائص فريدة للسفر مع أشخاص سود ممّن عرفوا مسافة الطريق لأنّهم هم أيضًا اجتازوها.
كنت أهيم في المدينة وأُصادف آخرين يقاسمونني البحث في المحاضرات وفي مناسبات توقيع الكتب والقراءات الشعريّة. كنت لا زلت أكتب أشعارًا رديئة. قرأتُ أشعاري الرديئة هذه في أمسيات المايك المفتوح في المقاهي المحلّيّة التي يرتاد إليها شعراء آخرون شعروا أيضًا بعدم الأمان حيال أجسادهم. كان هؤلاء الشعراء أكبر منّي سنًّا وأكثر حكمة، وكثيرون من بينهم كانوا متضلّعين من المعرفة وقد وضعوا وزْرَ حكمتهم عليّ وعلى أعمالي. ما الذي أقصده تحديدًا بفقدان جسدي؟ وإذا كان كلّ جسد أسود باهظ الثمن، لا مثيل له فردًا فردًا، وإذا صدق مالكولم ووجب عليك أن تحافظ على حياتك، فكيف يمكنني أن أرى الحياة الثمينة بوصفها كتلة واحدة ليس إلّا، كأنّها بقايا النهب منزوعة الملامح؟ كيف يمكنني تفضيل طيف الطاقة المظلمة على كلّ خيط شعاع فيه؟ كانت هذه ملاحظات دلّتني على كيفيّة الكتابة، وبالتالي شرحت لي كيف أفكّر. يقتات الحلم على التعميم، وعلى تحديد كمّ الأسئلة المشروعة وتفضيل الإجابات الفوريّة. الحلم عدوّ جميع أشكال الفنون والفكر الشجاع والكتابة الصريحة. وتبيّنَ لي أنّ هذا لا ينطبق على الأحلام التي لفّقها الأميركيّون لتبرير أنفسهم فحسب، بل على الأحلام التي استحضرتها بنفسي لتحلّ محلّها. ظننتُ أنّ من واجبي أن أعكس العالم الخارجيّ، وأن أصنع نسخة كربونيّة للادّعاءات البيضاء بشأن امتلاك الحضارة. وقد بدأتُ أسائل منطق هذا الادّعاء من أساسه. نسيتُ استجواباتي الذاتيّة التي حثّتني والدتي على طرحها، أو بالأحرى التي لم أَسْبُر عِبَرها ومَعانِيها طويلة الأمد. بدأتُ للتوّ تعلُّمَ الحذر من إنسانيّتي، ومن ألمي وغضبي، لم أكن قد أدركتُ بعد أنّ الحذاء على الرقبة قد يغرقك في الوهم تمامًا مثلما هو قادر على تكريمك.
عاش الفنّ الذي أحببت في هذا الفراغ، في كُنْهِ ما لم أعرفه بعد، في الألم، في السؤال. عرّفني الشعراء الأكبر منّي سنًّا على فنّانين استلهموا طاقتهم من الفراغ، من بينهم: بوبر مايلي؛ أوتيس ريدينـﭺ؛ سام وَديـﭪ؛ سي.كي. ويليامز؛ كارولين فورشي. الشعراء الأكبر منّي سنًّا هم: إثيلبرت ميلر؛ كينيث كارول؛ بريان ﭼـيلمور. يهمّني أن أشاركك أسماءَهم لكي تَعلَم أنّني لم أحقّق أيّ شيء بمفردي. أذكر أنّني جلستُ مع جويل دياس ﭘـورتر، وهو لم يلتحق بهوارد إلّا أنّني تعرّفت عليه في مكّة، حيث كنّا نراجع كلّ سطر من كتاب روبرت هايدن «الممرّ الأوسط». وقد أذهلتني قدرة هايدن التعبيريّة في قول الكثير على ما يبدو باستخدام القليل؛ فلقد تمكّن من وصف المرح والعذاب دون أن يذكر الكلمات حرفيًّا كما هي، موضّحًا إيّاها في الوصف التصويريّ لا عبْر شعارات. تخيّل هايدن المُسْتَعْبَدِين [enslaved] في الممرّ الأوسط من منظور المُسْتَعْبِدِين [enslavers]. تلك رحلة ذهنيّة عاصفة بحدّ ذاتها. لماذا يُمنح المستعبِد فرصة للتكلّم؟ لكن قصائد هايدن لم تتكلّم. بل استحضرت الذكريات:
لن تغلب هذا الحقد بنظرة
ولن تكبّل خوفًا يوارب مناوبات الحراسة
لم أصعد متن أيّ سفينة عبيد. أو ربّما كنت هناك، لأنّني وجدتُ مشاعر كثيرة ممّا اختلج في صدري في بالتيمور (الحقد الحادّ والأمنية الخالدة والإرادة الأبديّة) في أعمال هايدن. وهذا ما سمعتُ عند مالكولم، لكن ليس بهذا الشكل، هادئًا، صافيًا، خاليًا من الزخرفات. كان ذلك درسًا في حرفة الشعر، ونسخة مكثَّفة لدروس أمّي في سنين بعيدة؛ فحرفة الكتابة بدَوْرها هي فنّ التفكير. يطمح الشعر إلى صياغة حقيقة مجازيّة مقتضبة. وَجَبَ التخلُّص من الكلمات الفضفاضة والفائضة، إذ أدركتُ أنّ هذه الكلمات الفضفاضة والفائضة لا تختلف عن الأفكار الفضفاضة والفائضة. الشعر ليس مجرّد تفريغ خطّيّ للمفاهيم؛ إذ نادرًا ما تكون الكتابة الجميلة كذلك. أردتُ أن أتعلّم الكتابة، وقد كانت في النهاية، على نحوِ ما علّمتني والدتي، مواجهة لبراءتي والتبريرات التي ألّفتها لنفسي. كان الشعر وسيلة لمعالجة أفكاري إلى أن سقط رماد التبرير فتُركتُ مع حقائق الحياة الفولاذيّة الباردة.
سمعتُ هذه الحقائق في أعمال شعراء آخرين في المدينة، صاغتها عناصرُ صغيرةٌ وصعبة: عمّات وأعمام وخالات وأخوال؛ استراحات السجائر بعد المضاجعة؛ الفتيات الجالسات على عتبات البنايات يشربنَ من المرطبانات. حملتْ هذه الحقائق الجسد الأسود إلى ما يتجاوز الشعارات ومنحته اللون والملمس، وعكستْ بالتالي الطيف الذي شاهدتُهُ في الساحة، وتفوّقتْ على ثرثراتي المسجوعة عن البنادق والثورة وتراتيل الاحتفاء بسلالات أفريقيا المفقودة عبْر العصور الغابرة. بعد القراءات، تتبّعتُ الشعراء ورأيتهم واقفين في شارع U أو يجوبون بين المقاهي ويتجادلون في ما بينهم حول كلّ شيء: الكتب والسياسة والملاكمة. لقد عزّز جدالاتهم التقليد المتنافر الذي عرفته في مورلاند، وبدأتُ أجد قوّةً ما كامنة في الفِتَن والجدالات والفوضى وربّما الخوف. حاولتُ أن أتعلّم العيش في كنف اللاطمأنينة التي شعرتُ بها في مورلاند-سـﭘـينـﭼارن، وفي الفوضى التي اجتاحت ذهني. لم يكن الانزعاج الناخر والفوضى والدُّوَار الفكريّ إنذارًا، بل كان منارة.
بدأتُ أدرك أنّ المسعى لطلب العلم هو شكلٌ من أشكال عدم الراحة، وأنّ هذه السيرورة لن تجازيني عبر منحي حلمًا فريدًا صِيْغَ لي، بل ستكسر كلّ الأحلام، وكلّ الأساطير المطَمْئِنَة عن أفريقيا وعن أميركا وعن كلّ الأمكنة، وستتركني وحيدًا مع إنسانيّتي بكامل فظاعتها. وقد تربّصت الفظاعة بغزارة، حتّى وسط أسرابنا. عليك أن تفهم هذا.
عرفتُ آنذاك، على سبيل المثال، أنّه بالقرب من مدينة واشنطن كانت هناك أرضٌ حبيسة [enclave] وواسعة عاش فيها جماعة من الناس السود بدَوْا مسيطرين على أجسادهم، شأنهم في هذا شأن أيّ إنسان آخر. هذه الأرض الحبيسة هي مقاطعة ﭘـرنس جورج، وقد عُرفت بـِ«مقاطعة PJ» وسط المحلّيّين، وكانت في نظري غنيّة جدًّا. عاش سكّانها في بيوت مماثلة لتلك التي رأيتها في البثّ التلفازيّ الذي تمكّنتُ من التقاطه؛ لها ساحات مماثلة وحمّامات مماثلة. كانوا سودًا ينتخبون سياسيّيهم، ولكن أشرفَ هؤلاء السياسيّون، كما عرفتُ لاحقًا، على قوى شرطة شرسة كسائر قوّات الشرطة في أميركا. سمعتُ قصصًا عن مقاطعة PJ من الشعراء ذاتهم الذين فتحوا عالَمي. أكّد لي الشعراء أنّ شرطة مقاطعة PJ ليسوا عناصر شرطة على الإطلاق، بل هم أفراد عصابات وقطّاع طرق ومسلّحون ونهّابون يعملون باسْم القانون. قالوا لي هذا لأنّهم أرادوا حماية جسدي. إلّا أنّ هناك درسًا آخَر مُستفادًا هنا: أن تكون أسْوَدَ وجميلًا ليس حجّة للاستلذاذ بالشماتة. لم يُحصّنّا لوننا الأسود من منطق التاريخ أو إغراء الحلم. يجدر بالكاتب، وهذا ما صرته فيما بعد، أن يتوقّى شرّ كلّ حلم وكلّ أمّة، وإن كانت أمّته، أو ربّما أن يحذر أمّته أكثر من أي أمّة أخرى، وبخاصّة لأنّها أمّته.
بدأتُ أتيقّنُ أنّني سأحتاج إلى أكثر من مجرّد رفّ كؤوس وطنيّة لنَيْل الحرّيّة، وهذا استنتاج وصلتُ إليه بفضل قسم التاريخ في جامعة هوارد الذي أقدّم له امتناني. لم يتردّد أساتذة التاريخ بتبشيري أنّ بحثي عن الأساطير محكومٌ عليه بالفشل، وأنّ القصص التي أردتُ سردها لنفسي لا تطابق الحقائق. في الواقع، رأَوْا أنّ من واجبهم تحريري من تاريخي المُسلَّح. قابلوا الكثيرين من المولَعين بمالكولم من قبل وكانوا جاهزين. كان أسلوبهم في المواجهة قاسيًا ومباشرًا. هل يوحي لون البشرة السوداء بالنبل فعلًا؟ دائمًا؟ نعم. ماذا عن السود الذين مارسوا العبوديّة لآلاف السنين، وباعوا العبيد عبْر الصحراء الكبرى والبحار؟ هم ضحايا الخدعة. هل هم الملوكُ الذين أنجبوا الحضارة برمّتها أنفسُهم؟ هل كانوا أسيادَ المجرّة المخلوعين عن مناصبهم ودمى ساذجةً في آن؟ وما الذي أقصده بِـ«أسود»؟ أنتَ تعرف، أيّها الأسود. هل اعتقدتُ أنّ هذا تصنيف خالد يمتدّ إلى ماضٍ عميق؟ نعم؟ هل يجوز الافتراض أنّ لون البشرة كان مُهمًّا منذ الأزل فقط لمجرّد أنّه يهمّني في اللحظة الراهنة؟
أذكر أنّني التحقتُ بمساق مدخليّ عن أفريقيا الوسطى. كانت لكْنَة أستاذة المساق ليندا هيوود (الممشوقة القَوام والتي تؤطّر وجهها نظارة) ترينداديّة تمتاز برنّة عالية جعلتها كمطرقة توبّخ بها الطلبة الشباب أمثالي الذين خلطوا بين الدراسة الدعائيّة الترويجيّة والبحث الجادّ. لم يكن هناك ما هو رومانسيّ في أفريقيا التي صوّرتْها، أو على الأقلّ بمعنى الرومانسيّة الذي ألِفْتُهُ. أعادتنا إلى إرث الملكة نزينـﭼـا، تولستوييَ الخاصّ، نزينـﭼـا ذاتها التي تمنّيتُ ضمّها إلى رفّ الجوائز التي رغبتُ أن تكون بحوزتي. ولكنّها عندما قصّت لنا حكاية نزينـﭼـا أثناء إجراء المفاوضات على ظهر امرأة أخرى، سردتها دون أن تُذيّلها ببريق افتتان، فصفعني هذا كلَكمة في الوجه: من بين كلّ الناس في تلك القاعة، قبل مئات السنين، جسدي المعرّض للتهشيم بإرادة الآخرين، جسدي المهدّد في الشوارع، جسدي الذي تخيفه المدارس، لم يكن الأقربَ من جسد الملكة، بل كان الأقرب من جسد مستشارتها، الذي انحنى ليتحوّل إلى عرش تجلس فوقه الملكة، وريثة كلّ ما رأته عيناها.
التحقتُ بمساقٍ مدخليّ عن أوروبا بعد عام 1800. بين العيون «البيضاء» رأيتُ سودًا لم يشبهوا أيّ إنسان أسود رأيته من قبل؛ بدا السود ذوي مقام ملكوتيّ وإنسانيّين. أذكر وجه أليساندرو دي مديتشي الرقيق، ومظهره الفخم في لوحة تمجيد المجوس لبوش6. وُضِعت هذه التصويرات التي رُسمت في القرنين السادس عشر والسابع عشر بجانب تصويرات رُسِمت بعد الاستعباد، كاريكاتيرات السامبو التي عرفتها. أين كان الفرق؟ في المساق المدخليّ عن أميركا، رأيتُ بورتريهات لإيرلنديين رُسِموا ككائنات سعدانيّة جشعة وتتضوّر جوعًا. ربّما هنالك أجساد أخرى تعرّضت للسخرية، والترهيب، وتهديد أمنها. ربّما الإيرلنديّون أيضًا فقدوا أجسادهم ذات مرّة. ربّما لا علاقة للقب «الأسود» بكلّ هذا؛ ربّما لقب «الأسود» كان اسمًا يُصنَّف به كلُّ مَن في القاع، لإنسان حُوّل إلى غرض، وغرض حُوّل إلى طريد.
كانت كومة الإدراكات هذه حِمْلًا ثقيلًا. كانت مؤلمة ومضنية للجسد. وعلى الرغم من أنّني بدأتُ أستمتع بهذه الدوخة، بالدُّوَار المُرافق لكلّ أوديسة، ساقتني التناقضات اللامتناهية في تلك الحقبة المبكرة إلى غمام الكآبة. لم يكن ما هو مقدّس أو فريد في بشرتي؛ كنت أسودَ بفضل التاريخ والإرث. ليس ثمّة ما هو نبيل في السقوط، في الأَسْر، في حياة يسيّرها الاضطهاد، وليس ثمّة معنى فطريّ للدم الأسود. لم يكن الدم الأسود أسودَ؛ حتّى البشرة السوداء لم تكن سوداء. والآن أعدتُ النظر في حاجتي إلى رفّ جوائز، ورغبتي بالعيش وَفق معايير سول بيلو، وشعرتُ أنّ رغبتي لم تكن هروبًا، بل كانت خوفًا ̶ مرّة أخرى ̶ ؛ خوفًا من أن يكونوا «هم»، أي الكتّاب وورثة الكون، على حقّ. وسرى هذا الخوف في جوف أعماقي لدرجة أنّنا قبِلنا معاييرهم للحضارة والإنسانيّة.
لا ينطبق هذا علينا جميعًا. وكانت تلك الفترة التي اكتشفت فيها مقالة لرالف وايلي يردّ فيها على مزحة بيلو اللاذعة. «تولستوي هو تولستوي الزولو»، كتب وايلي، «إلّا لو كنتَ تجني ربحًا من توزيع مزايا الجنس البشريّ الكونيّة على ملكيّات قبائليّة حصريّة». وهذا لبّ الموضوع. قبلتُ فرضيّة بيلو. في الحقيقة، لم يكن بيلو أشدّ قربًا لتولستوي من قربي لنزينـﭼـا. وإن كنت أشدّ قربًا فهذا لأنّني اخترتُ ذلك، وليس لأنّه قضاءً وقدرًا كتبه لي الدي أن إيه. لم تكن خطيئتي الكبرى في قبولي حلم شخص آخر بل في قبولي فكرة الأحلام، والحاجة إلى الهروب، واختراع حرفة العِرق.
ومع هذا، كلّ ما عرفته هو أنّنا كنّا شيئًا ما، أنّنا قبيلة؛ قبيلة مختلقة من جهة، ومن جهة أخرى حقيقيّة. كانت الحقيقة هناك في الخارج، في الساحة، في أوّل أيّام الربيع الدافئة عندما أرسلتْ جميع الأوساط والأحياء ومجموعات الانتماء والأقاليم وزوايا الشتات الواسع نائبًا يمثّلهم في الحزب العالميّ الكبير. أذكر تلك الأيّام مثل أغنية لآوت كاست، مطليّة بالشهوة والمرح. رجل أصلع يضع نظّارات شمسيّة ويرتدي قميصًا بلا أكمام، يقف أمام مركز الطلبة بلاكبيرن تنسدل من أكتافه العضليّة أفعى بُواء طويلة. سيّدة يَقِظة ترتدي بنطال جينز باهت اللون، وراستات شعرها ملمومة للخلف ترمقه بطرف عينها ضاحكةً، وأنا أقف بجوار المكتبة أناقش استيلاء الجمهوريّين على الكونـﭼرس أو مكانة وو تانـﭺ كلان في كلاسيكيّات الهيـﭖ هوﭖ. يتقدّم رجل يرتدي قميص ترايب ڤايب، يضرب كفّه بكفّي ونتحدّث عن حفلات العربدة في الموسم (فريكنيك؛ دايتونا؛ ڤيرجينيا بيتش) ونتساءل عمّا إذا كنّا سنسافر هذا العام بعد طول انتظار. الإجابة هي لا؛ لأنّ كلّ ما نحتاج إليه هو أمامنا في الساحة. يُدوّخنا هذا المكان لأنّنا لا زلنا نذكر مدن نشأتنا الحارّة، التي اتّسمت أولى أيّام ربيعها بالخوف. والآن، هنا في مكّة، لا خوف فينا، نحن الطيفُ الغامق في مسيرة.