منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية في مايو/أيار الماضي، لم يتوقف الرئيس رجب طيب أردوغان عن الدعوة إلى وضع دستور جديد للبلاد، كما لم يتوقف عن انتقاد المحكمة الدستورية العليا، التي هي أعلى هيئة قانونية لمراجعة الدستور، والالتزام بتطبيق دستورية القوانين والمراسيم التي لها قوة القانون، كما أنها المحكمة الوحيدة المنوط بها بحث القضايا المتعلقة بالرئيس ونائبه ووزراء الحكومة وقضاة المحاكم العليا، ومع أن أردوغان، منذ أن أصبح رئيساً للبلاد عام 2014، هو من عيّن معظم أعضاء المحكمة الدستورية العليا إلا أن علاقته مع المحكمة باتت تثير أزمة دستورية وسياسية في البلاد، وجاءت قضية قرار المحكمة الدستورية العليا القاضي بالإفراج عن النائب المسجون من حزب العمال التركي، جان أتالاي، لتثير أزمة سياسية في كل الاتجاهات، بعد أن رفضت محكمة النقض قرار المحكمة الدستورية، حيث لم تكتفِ برفض الإفراج عن أتالاي، بل رفعت دعوى ضد أعضاء المحكمة الدستورية الذين وقفوا وراء القرار، مطالبة بمحاكمتهم، وهو ما أيّده أردوغان بقوة، وعارضته أحزاب المعارضة، إذ وصف زعيم حزب الشعب الجمهوري الجديد، أوزغوز أوزيل، قرار محكمة النقض بالانقلاب على البرلمان والقضاء والدستور، لتتطور الأمور لاحقاً إلى دعوات من حلفاء أردوغان، لاسيما زعيم الحركة القومية المتطرفة، دولت باهجلي، الذي دعا إلى إلغاء المحكمة الدستورية العليا، وهو ما خلق مزيداً من الانقسام السياسي في البلاد، امتدت تداعياته إلى كافة النقابات والاتحادات والمؤسسات والأجهزة، قبل أشهر من الانتخابات المحلية.
هذه الأزمة الدستورية – السياسية، أبقت أتالاي النائب عن ولاية اسكندورن ( هاتاي ) والمحامي المعروف بالدفاع عن العمال في سجن سيلفري دون أن يتمكن من أداء اليمين الدستورية في البرلمان، بعد أن حكم 18 عاماً بالسجن، بتهمة العمل على تغيير الحكومة إلى جانب الناشط ورجل الأعمال، عثمان كافالا، على خلفية دعمهما للتظاهرات المعروفة بأحداث “غيزي بارك “(حديقة غيزي) في إسطنبول عام 2013، وما ضاعف من صعوبة وضع آتالاي، هو تحالف حزبه (العمال التركي) مع حزب الشعوب الديمقراطي في إطار التحالف مع حزب اليسار الأخضر الذي تشكل في إطار تحالف العمل والحرية لمقارعة أردوغان في الانتخابات، ولعل تزامن توقيت هذه الأزمة مع دعوة أردوغان إلى وضع دستور جديد للبلاد، وكذلك مع الذكرى المئوية لولادة الجمهورية التركية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك الذي يسعى أردوغان إلى التخلص من إرثه السياسي والأيديولوجي، أضفى أهمية كبيرة لهذه الأزمة ومآلاتها، إذ إن القضية لم تعد تتعلق بالنائب المسجون أتالاي، بل بكيفية انتهاء هذه الأزمة، وتداعياتها على الساحة السياسية التركية، وسياسة تركيا في المرحلة المقبلة.
في خلفيات هجوم أردوغان على المحكمة الدستورية العليا، ثمة من يرى أنه رغم استحواذه على صلاحيات مطلقة بعد تحويل النظام البرلماني إلى نظام رئاسي عام 2017، إلا أنه يخشى في العمق من موقف المحكمة الدستورية، بوصفها الهيئة القانونية العليا القادرة على الحفاظ على الطابع العلماني للدولة، فيما أيديولوجية أردوغان تأخذ الطابع الإسلاموي القوموي الذي يريد جمهورية جديدة ذات هوية إسلامية في الدستور الذي يعد له، وهو ما دفع بكثيرين إلى الاعتقاد بأن هذه الأزمة الدستورية هي من صنع أردوغان نفسه، كخطوة لابد منها للتخلص من إرث جمهورية أتاتورك عبر صياغة دستور جديد في الأشهر المقبلة، كما أنه يتطلع إلى سلطات مطلقة على كل مؤسسات البلاد، بما في ذلك المحكمة الدستورية العليا التي لها وحدها صلاحية محاكمة الرئيس بتهمة الخيانة أو سحب صلاحياته بتوصية من اللجان الطبية المختصة.
وعليه، فإن خطوة حل المحكمة الدستورية من قبل أردوغان ستكون بمثابة “ضربة معلم” مزدوجة، من جهة ستؤدي إلى تجريد المعارضة من أسلحتها المتمثلة في الاحتماء بالمحكمة الدستورية كواجهة قانونية يمكن اللجوء إليها في حال أراد أردوغان تغيير هوية الدولة من علمانية إلى إسلاموية، ومن جهة ثانية ستساعد في التخلص من المحكمة نفسها التي يمكن أن تقف أمام تطلعه إلى دستور جديد يحقق ما بات يعرف بالجمهورية الثانية، مطلع المئوية الثانية للجمهورية.
السيناريو السابق، يضع أردوغان أمام خطة على مستويين: الأول، يقوم على تعديل هيكل القضاء ومؤسساته على أن يؤدي هذا التعديل إلى إضعاف دور المحكمة الدستورية العليا، عبر تجريدها من عناصر القوة التي تحقق لها الحق القانوني في الحفاظ على ما يسمى بـ”ثوابت الجمهورية التركية”. والثاني، هو حل المحكمة بمرسوم رئاسي على أن يحل محلها هيئة قضائية تتبع له مباشرة، لتكون هذه الهيئة سلاحه الأقوى في مواجهة المعارضة وحتى باقي الأجهزة القضائية التي أقال أردوغان، منذ المحاولة الانقلابية المزعومة عام 2016، الآلاف من قضاة ومحامين وكلاء النيابة بتهمة الانتماء إلى جماعة فتح الله غولن، ولا يستبعد أن يكون هدف أردوغان من كل ما سبق صياغة دستور جديد يتيح له البقاء في السلطة لدورة رئاسية رابعة.
من دون شك، خطوة حل المحكمة الدستورية العليا إن أقدم عليها أردوغان، ستكون أهدافها سياسية بالدرجة الأولى، كما أنه ستكون لها تداعيات داخلية وخارجية، خاصة أن هذه المحكمة كانت تقوم بوظائف سياسية إلى جانب مهامها الدستورية، وكانت لها مواقف سياسية مهمة من قضايا الحريات والحقوق في تركيا، وفي الأساس تشكلت وفق النموذج الأوروبي بعد الانقلاب العسكري عام 1961 عقب الانقلاب العسكري ضد حكومة عدنان مندريس، لتحقق نوع من التوازن بين المؤسسات القضائية من جهة، وبين هذه المؤسسات والسلطة السياسية من جهة ثانية، وخلال العقود الماضية كان لها دور في بارز في الإفراج عن العديد من المعارضين السياسيين، كما حصل مع النائب عن حزب الشعوب الديمقراطية، فاروق غرغرلي أوغلو، والنائب عن حزب الشعب الجمهوري أنيس بربر أوغلو، فضلاً عن تبرئة أكاديمي السلام من المحاكمة بتهمة دعم الإرهاب، عقب إصدارهم البيان الشهير تحت عنوان (لن نكون طرفاً في هذه الجريمة) في إشارة إلى الحرب التي تشنها الدولة التركية ضد الكرد، والتأكيد على السلام لحل القضية الكردية سلمياً في تركيا. ولعلّ ما سبق سيكون له تأثيره على المواقف الأوروبية من السياسة التركية، لاسيما قضية سعيها للانضمام إلى العضوية الأوروبية، إذ إن خطوة حل المحكمة الدستورية العليا ستكون بمثابة تراجع تركي رسمي عن الخطوات التي اتخذت للتوافق مع القوانين الأوروبية، وعلى رأسها المحكمة الأوروبية العليا.
في الواقع، القضية ليست قضية قرار المحكمة الدستورية العليا بشأن النائب آتالاي، بل القضية سياسية انطلقت من دستورية قرار المحكمة، وهو ما يشير إلى أن تركيا ستكون أمام أزمة سياسية قد تكون الأخطر على صعيد تحديد هوية الجمهورية التركية في مئويتها الثانية، والسلطة المطلقة لرئيسها الذي يريد أن يحكم على هيئة سلطان.