احتفلت الأمم المتحدة مؤخرًا باليوم العالمي للغة الأم الذي يصادف في 21 شباط/ فبراير من كل عام، وسط مخاوف متزايدة من اندثار آلاف اللغات حول العالم في القرن الحالي. وكشفت المنظمة عن أن نحو 8324 لغة موجودة على كوكب الأرض مهددة بخطر الاختفاء بفعل تأثيرات العولمة والتحولات المجتمعية الكبيرة.
وتشير البيانات إلى فقدان العالم للغة واحدة كل أسبوعين تقريبًا، ما يعني ضياع كنوز ثقافية وفكرية هائلة لا يمكن تعويضها. وحذرت اليونسكو في بيان رسمي من أن اضمحلال اللغات سيؤدي حتمًا إلى خسارة التنوع الثقافي الذي يمثل ثروة بشرية لا تقدر بثمن، وستختفي معه الفرص والتقاليد والذاكرة الجمعية وأنماط التفكير الفريدة.
ويؤكد خبراء اللغويات أن من بين آلاف اللغات الموجودة، لا تُستخدم فعليًا سوى حوالي 7000 لغة منطوقة أو مكتوبة، ويتم توظيف عدد محدود منها لا يتجاوز بضع مئات في أنظمة التعليم والمجال العام. أما في العالم الرقمي، فيقل عدد اللغات المستخدمة عن 100 لغة فقط، ما يعكس عمق الأزمة التي تواجه التنوع اللغوي.
وبمناسبة مرور 25 عامًا على إطلاق هذه المبادرة، أكدت الأمم المتحدة على أهمية التعليم متعدد اللغات كحجر أساس للحفاظ على اللغات غير المهيمنة ولغات الأقليات والشعوب الأصلية. وأوضحت أن الطلاب الذين يتلقون تعليمهم باللغة التي يفهمونها بشكل كامل يُظهرون قدرات أكبر في الفهم والمشاركة والتفكير النقدي.
ولم تكتفِ اليونسكو بالتوعية فحسب، بل أطلقت أيضًا برامج عملية لإنقاذ اللغات المهددة بالانقراض، من بينها مشروع “أطلس اللغات المهددة” الذي يوثق أكثر من 2500 لغة مهددة حول العالم. كما دعمت المنظمة مشاريع لتدوين ورقمنة عشرات اللغات المنسية في قارات العالم الخمس، بالتعاون مع مؤسسات أكاديمية ومنظمات مجتمع مدني.
وتلعب اللغات دورًا محوريًا ليس فقط في الحفاظ على التراث الثقافي، بل أيضًا في تحقيق أهداف التنمية المستدامة. إذ تعتبر من المقومات الجوهرية للهوية وركيزة أساسية في الاتصال والاندماج الاجتماعي والتعليم والتنمية، ويؤدي اختفاؤها إلى خسائر بشرية ومعرفية هائلة.
وفي سياق متصل، كشفت دراسات لغوية حديثة عن أن موجة اختفاء اللغات الحالية تعد الأسرع في تاريخ البشرية. ففي أستراليا مثلًا، اختفت أكثر من 250 لغة أصلية من أصل 300 منذ وصول المستعمرين الأوروبيين. وفي أميركا الشمالية، تواجه معظم اللغات الأصلية خطر الانقراض مع تناقص عدد المتحدثين بها.
وتؤكد اليونسكو أن إحياء اللغات المهددة يتطلب جهودًا متضافرة من الحكومات والمؤسسات التعليمية والمجتمعات المحلية. ويتضمن ذلك إدماج اللغات المهددة في المناهج الدراسية، وتوثيقها رقميًا، وتشجيع استخدامها في الحياة اليومية بين الأجيال الجديدة.
وعلى الرغم من التحديات الهائلة، فإن هناك قصص نجاح ملهمة في إحياء لغات كادت أن تندثر. فلغة الهاواي، على سبيل المثال، عادت إلى الحياة بعد أن كان عدد المتحدثين بها لا يتجاوز 2000 شخص في السبعينيات، وذلك بفضل جهود حثيثة شملت إنشاء مدارس غمر لغوي للأطفال.
وتعتبر مسألة الحفاظ على التنوع اللغوي العالمي اليوم معركة حضارية بامتياز، إذ تمثل كل لغة تختفي خسارة لا تعوض من الإرث الإنساني، وموردًا ثمينًا لضمان مستقبل أكثر شمولًا ومساواة للبشرية جمعاء.