نشطت عمليات التهريب بين لبنان وسوريا طوال حقبة حكم عائلة الأسد لسوريا، وقد استفاد “حزب الله” وبعض العصابات اللبنانية والسورية من الفوضى بين البلدين وتقاعس الدولتين في ترسيم الحدود، لتهريب السلاح والمخدرات وبعض الحاجات الأساسية كالبنزين والمازوت والطحين وغيرها.
لا شك في أن هناك قرى متداخلة بين البلدين، ويبدو أن “الحزب” الذي يقتات من اقتصاد التهريب، شعر بالضيقة عندما سقط نظام بشار الأسد، وتسلمت “هيئة تحرير الشام” الحكم في سوريا وقطعت طريق الامدادات بين “الحزب” وإيران، وبدأت الادارة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع بتنظيم نفسها وتكوين جيش سوري جديد من الفصائل التي حررت سوريا من الأسد. وليس سراً أن هذه الفصائل خاضت معارك سابقة ضد الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد والميليشيات الايرانية وخصوصاً “الحزب”، وبالتالي لا أحد يستطيع إنكار البُعد المذهبي للصراع بين الجيش السوري الحديث الذي يتشكّل من غالبية سنيّة من جهة و”حزب الله” الشيعيّ التابع لإيران من جهة أخرى.
النقطة الساخنة اليوم بين الطرفين هي القصير انطلاقاً من غرب مدينة حمص وصولاً إلى حوش السيد علي، وتعتبر هذه المناطق الحدودية معقلاً لعشائر لبنانية مثل آل زعيتر وآل جعفر الذين يمتلكون أراضٍ زراعية في الداخل السوري ويعرف عن بعض أفرادهم تورطه في أنشطة التهريب ولا يُخفى على أحد أن بعض أبناء هذه العشائر ينتمي إلى الهيكلية العسكرية لـ”الحزب”.
هنا وجد “الحزب” ضالته إذ يستخدم هذه المناطق كطرق لوجيستية لنقل الأسلحة عبر بعض العشائر المحلية الذي يسهّل هذه العمليات مستفيداً من التضاريس الوعرة وصعوبة مراقبة الحدود. وتندلع الاشتباكات كلّما حاول عناصر الادارة السورية الجديدة منع عمليات التهريب وملاحقة عصابات الاتجار بالمخدرات والأسلحة عبر الحدود.
لا يزال “الحزب” حاضراً على الحدود اللبنانية السورية، محافظاً على هيمنته العملياتية من خلال علاقاته الوثيقة مع العشائر المحلية، ولا يكفي إصدار بيانات نفي ليغسل يديه من التوتر القائم بين لبنان وسوريا.
واللافت أنه بعد الاشتباك الأول الذي حصل بين المقاتلين السوريين والعشائر المدعومة من “الحزب”، عزّز الجيش اللبناني حضوره هناك، لكن الأمر بدا غريباً عندما تكررت الاشتباكات منذ يومين، وكان من المفترض أن يتدخل الجيش بسرعة، إلا أنه لم يتدخل إلا بناءً على توجيهات رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، فأصدرت قيادة الجيش أوامرها إلى الوحدات العسكرية المنتشرة على طول الحدود الشمالية والشرقية بالرد على مصادر النيران الصادرة من الأراضي السورية والمستهدفة الأراضي اللبنانية. وفهم المراقبون أن الجيش بادر إلى الرد ليثبت حضور الدولة وعدم إتاحة الفرصة لـ”الحزب” والجانب السوري للتمادي أكثر، فالأمور تحلّ بين الجيشين والدولتين.
قد يكون من الصعب على الجيش اللبناني المنهمك في الانتشار بالجنوب ومهماته في الداخل اللبناني أن يضبط كل المساحة الحدودية نظراً إلى صعوبة ذلك بسبب الشبكات العشائرية المتشابكة، وكثرة المعابر غير الشرعية، ووعورة التضاريس التي تعوق جهود المراقبة، لذلك من المتوقع أن يبقى الكرّ والفرّ بين العشائر التي تغطي “الحزب” وجيش الادارة السورية، وربما يكون الحل سياسياً بين الدولتين، وهذا الدور أوكله الرئيس عون الى وزير الخارجية جوزاف رجّي.
ولا بد من الاعتراف بأن ايران التي تحاول المحافظة على الورقة اللبنانية في يدها، تجد في الصراع الحدودي منفذاً لها، لذلك لا يزال هناك تحديان أمنيان رئيسيان: أولاً، لا تزال الدولة السورية في مرحلة إعادة بناء هشة، وفي المقابل، يعاني “الحزب” من استنزافٍ كبير نتيجة الضربات الاسرائيلية. ثانياً، قد تزيد الحيثيات السياسية اللبنانية من تعقيد الوضع، كأن تقوم الحكومة اللبنانية بحماية “الحزب”، والسؤال هل ستواصل التسامح مع وجوده على الحدود، ما قد يُوتر العلاقات مع الادارة السورية الجديدة؟
ويكشف خبير عسكري أن الحكومة اللبنانية لم تبادر، بعد سقوط الأسد، إلى أي عملية تقدير موقف على الحدود، بل تعاني من حالة إرباك سياسي في كيفية التعاطي مع الادارة السياسية الجديدة في سوريا، وتواجه الأمور بتردد، لافتاً إلى أن السلطة اللبنانية تأخذ في الاعتبار الحساسية بين الحكومة السورية الجديدة من جهة و”حزب الله” وإيران من جهة أخرى، لكن هذا الأمر يدفعها إلى التخلي عن مسؤوليتها، علماً أن مسألة الحدود لا يُمكن التغاضي عنها نظراً إلى ارتباطها الأمني والاقتصادي بالمصالح اللبنانية والسورية، وتبادل النيران مع الطرف السوري هو نتيجة التقصير في مقاربة هذه المسألة.
ويتوقّع الخبير العسكري المزيد من العنف على الحدود مع سوريا وخصوصاً إذا استمر تجاهل الدولة اللبنانية للواقع السياسي والأمني الجديد بين لبنان وسوريا.
في الختام، ما يحصل على الحدود اللبنانية السورية مريب جداً، وما يطرح علامات استفهام هو لماذا تحصل الاشكالات الحدودية دائماً على الجانب الذي يسيطر عليه “الحزب”؟ وهناك إحساس لدى الكثير من اللبنانيين بأن ظاهرة العشائر في الجبهة الشرقية تبدو مماثلة لظاهرة “الأهالي” في الجبهة الجنوبية، والمُخرج واحد ألا وهو “حزب الله”. أما الحل الجذري لهذه المسألة فهو في تطبيق الدولة اللبنانية القرار 1680 الذي يقضي بترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، فما الذي يمنع ذلك؟