لم يسبق لي أن زرت غزة. ولم أرَها إلا في مخيلتي ومن خلال الصور والتمثيلات الفنية. لكن منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، ظل اسم غزة يستحضر مفاهيم متعددة، تتراوح بين الكرامة والمعاناة، ولكن كأي مكان آخر في العالم، لا يمكن اختصارغزةفي فكرة واحدة. وكأي مكان آخر في العالم، يتمتع قطاع غزة بهويات وأوجه متعددة. وبينما يركز تمثيل غزة عموما في وسائل الإعلام الدولية على الجوانب المرتبطة بالصراع، فمن المهم عدم إغفال دور الفن في تقديم صورة أدقّ للمكان، وفهم أدق لغزة وارتباط إنساني بها.

تضخيم الصورة

أدت الحرب التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى تضخيم صورة غزة باعتبارها مكانا للفقر المدقع، إذ أشبِعَت وسائل الإعلام العالمية بصور الدمار الواسع النطاق. فالأمر الذي بات العالم يراه هو كتل الركام والمعاناة الإنسانية العصية على الوصف. أما الأمر الذي نادرا ما رآه العالم فهو الحالة التي كانت عليها غزة قبل الدمار. وكما هو الحال مع الكثير من الأماكن الأخرى في الشرق الأوسط، فإن وسائل الإعلام الدولية نادرا ما تغطيالقصص التي تُظهر غزة خارج سياق النزاع المتصاعد.

وفي ظل تدمير القصف الإسرائيلي لأجزاء واسعة من غزة على نحو لم يعد من الممكن معه التعرف عليها، فمن المهم أن نتوقف ونتأمل غزة باعتبارها أيضا مكانا يماثل أي مكان آخر. فعلى الرغم من كل المعاناة المركزة التي تعرضت لها غزة منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وعلى الرغم من الاحتلال الإسرائيلي الطويل، وجولات القتال الكثيرة على مر السنين، والقيود على الحركة التي فرضتها إسرائيل على سكان غزة، فإن غزة أيضا مكان كأي مكان آخر.

إن المكان الذي يشبه باقي الأماكن هو المكان الذي يعيش فيه الناس حياة عادية. أي المكان الذي يعملون فيه ويستريحون ويحلمون. والذي يعبرون فيه عن الحزن وعن الفرح، ويشعرون فيه بالوحدة، حتى وإن كانوا يعيشون في أحد أكثر الأماكن ازدحاما في العالم. لكن صورة غزة التي تهيمن في كثير من الأحيان على وسائل الإعلام هي الصورة التي تُفتقد فيها الحياة العادية. وعلى الرغم من أن الاعتراف بالطبيعة العادية لغزة لا ينتقص من تاريخها المؤلم، فهو بمثابة تذكير بأنها، مثلها كمثل أي مكان آخر، موقع للتجربة الإنسانية المشتركة. وهي التجربة ذاتها التي يمر بها الناس في جميع أنحاء العالم.

تتجلى لعنة الشرق الأوسط في حقيقة أنه منطقة من مناطق العالم التي أضحت مرتبطة على نحو دائم بالصراع في نظر وسائل الإعلام الدولية. ونتيجة لذلك، يرى كثيرون ممن يعيشون خارج المنطقة أن مجرد ذكر عبارة “الشرق الأوسط” يثير مفاهيم سلبية كالحرب والإرهاب والتطرف. وتمثل غزة جزءا من هذه الصورة الدائمة. فهي تتقاسم عبء الصورة النمطية نفسها والتي ترتبط بأماكن الصراع الأخرى في الشرق الأوسط، من بيروت إلى بغداد. وما يزيد الطين بلة هو أن وسائل الإعلام لا تقوم بتغطية مكان ما إلا عند حدوث كوارث ضخمة فيه. يُقال إن نشرات الأخبار غالبا ما تعني أخبارا سيئة. ولكن في واقع الأمر غالبا ما تأتي نشرات الأخبار بأخبار بالغة السوء.

ثمة كثير من المخاطر نتيجة لهذه الصورة المختصرة، منها أن تتحول غزة بالنسبة للمتابع العادي إلى مساحة من المعاناة المستمرة والتي باتت أمرا اعتياديا. مثلا، لا يستطيع الصيادون الغزاويون الخروج إلى البحر لأن خفر السواحل الإسرائيلي يمنعهم، وبالتالي، فهم يكافحون من أجل كسب لقمة العيش. إلا أن أمرا كهذا نادرا ما يصل إلى الأخبار لأنه يحدث على نحو دائم. أيضا، لا يستطيع الناس السفر بسبب الاحتلال الإسرائيلي،  وهو أمر آخر لا يمكن اعتباره خبرا مهما. كما أصبحت حوادث القتال بين إسرائيل والجماعات المسلحة في غزة روتينية على مر السنين. ولكن الأخبار المتعلقة بهذه الحوادث سرعان ما تسقط من العناوين الرئيسة، إذ لا تُعتبر ذات أهمية إخبارية بارزة. وحتى العنف الفظيع يصبح أمرا عاديا بالنسبة إلى وسائل الإعلام الإخبارية التي تبحث دائما عن الشيء الجديد التالي.

صورة ذهنية

وهناك خطر آخر يتمثل في أن هذا الاختصار يخلق صورة ذهنية عن غزة لا علاقة لها بالواقع. فعوضا عن تخيل مساحة يوجد فيها شاطئ رملي جميل ومقاهٍ ومناطق سكنية، حيث تختلط المجتمعات ويلعب الأطفال، ومكان تشرق الشمس فيه في أغلب الأحيان، فإن غزة تُصور على أنها غابة حضرية بائسة وخانقة وباهتة وصامتة ومظلمة. إن هذا التمثيل المسطح لغزة ينفي حيويتها وحب سكانها للحياة. يبدو الأمر كما لو أن غزة تُتخيل على نحو دائم بالأبيض والأسود في الوقت الذي تضج فيه بالألوان.

ولكن في مواجهة هذه الصورة المهيمنة لغزة في الأخبار، هناك مجموعة واسعة من مقاطع الفيديو المجتمعية والميمات ومحتوى وسائل التواصل الاجتماعي، فضلا عن التدخلات الفنية التي تقدم تمثيلات أكثر دقة عن غزة. وفي سبتمبر/أيلول الماضي، التقيت بمهندسة معمارية وفنانة فلسطينية مقيمة في القدس تدعى غدير نجار، والتي أخبرتني عن معرض أقامته في القدس وبيت لحم حول اثنتي عشرة مدينة فلسطينية رئيسة في عام 2018. وكانت إحدى الأفكار وراء المعرض هي إعادة ربط الفلسطينيين بتراثهم الحضري كوسيلة لمواجهة القيود المفروضة على حركتهم بين المدن الفلسطينية بسبب الاحتلال الإسرائيلي. كان جزء من العمل الذي أُنتج من أجل المعرض عبارة عن خرائط للمدن الفلسطينية توضح شوارعها الرئيسة. وقالت نجار إن أصعب خريطة رُسمت هي خريطة غزة بسبب ندرة البيانات الموثوقة حول تضاريسها.

حملتني تعليقات نجار على التفكير في تأثير المراقبة والتدمير في شيء أصبح الناس يعتبرونه أمرا مفروغا منه في العالم المعاصر، ألا وهو القدرة على “رؤية” مكان ما على الخريطة. وكيف يمكن للفن أن يساعد في جعل غير المرئي مرئيا. لقد خطرت في ذهني خريطة نجار لغزة عندما كنت أتابع أخبار تسوية إسرائيل لشمال قطاع غزة بالأرض. لم تعد هذه الخريطة حاليا عملا فنيا وحسب، بل إنها إحدى الأرشيفات القليلة المتبقية التي تصور الحالة التي كانت عليها غزة قبل الحرب.

 

لقد أنجبت غزة نفسها الكثيرَ من الفنانين المشهورين، مثل تيسير البطنيجي، الذي عرضت المعارض الكبرى والمساحات الفنية حول العالم أعماله الفنية. وغالبا ما تكون إبداعات البطنيجي مجردة، لكنها تتعامل على نحو حيوي مع قضايا الرؤية والتذكر. وإحدى أكثر أعمال البطنيجي تأثيرا هي منحوتة مصنوعة من الصابون بعنوان لا حال يدوم (2014-2022)، والتي عُرضت العام الماضي كجزء من معرض لأعماله في المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة. وعنوان التمثال منقوش على ألواح الصابون، والتي يمكن للجمهور أخذها معهم إلى المنزل، ومن ثم يختفي تدريجيا إذا استُخدم الصابون.

 

تعتبر منحوتة البطنيجي تدخلا إبداعيا قويا يثير التفكير في فلسطين في سياق الحالة الإنسانية حيث يتشابك الأمل واليأس. وقال الفنان نفسه في تصريح عن فنه على صفحة المعرض: “في عام 1997، أردت العمل على طرق إتقان لغتي الخاصة كفنان، ومع ذلك كان عليّ أن أحدد موقعي ضمن السرد التاريخي والواقع. وقد خلق هذا تقاطعا وتفاعلا بين قصتي الشخصية وسياقي باعتباري فلسطينيا وفنانا وإنسانا”.

قد يدور فحوى الأخبار حول إظهار ما يحدث في مكان ما للعالم، ولربما يكون لها شأن مهم في توثيق الفظائع ورفع مستوى الوعي. ولكنها تحجب أيضا بقدر ما تُظهر. فما إن تنتقل إلى القصة الكبيرة التالية، فإن الأماكن التي تغطيها معرضة لخطر النسيان من قبل المتابع العادي. ومن ناحية أخرى، فإن الفن هو أحد السبل التي يجب اتباعها “لرؤية” غزة حقا.