في تزامن موح ومهم، ترسل السعودية وفداً اقتصادياً رفيع المستوى إلى دمشق، لغرض اتخاذ إجراءات تنفيذية في مجال الاستثمار في سوريا، في حين تواجه دمشق عنتاً وصعوبات في تطبيع الوضع في السويداء، حتى بعد انتهاء المواجهات المسلحة.
هذا التزامن لا يمكن أن يفسر على أنه مجرد مصادفات في التوقيت، بل هو موقف سياسي له شأن في تقرير مستقبل سوريا، وعلاقاتها الخارجية، لا سيما مع محيطها العربي، خصوصاً وأن الوفد السعودي لم يكن عادياً، فقد جاء برئاسة وزير الاستثمار، ويضم 130 رجل أعمال ومستثمراً، وقد أرسلته الرياض تحت توجيه محدد من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – كما جاء في تصريح تلفزيوني لأحد أعضاء الوفد- يقول اعملوا على الاستثمار في سوريا كما تستثمرون في السعودية.
يوصف المال بأنه جبان، يهرب من الأماكن غير المستقرة – ناهيك عن الخطرة – أو التي يمكن أن تصبح كذلك، ويجد ملاذاته حيث يشيع الاستقرار والقوانين الجاذبة والربح المضمون. لذلك، لم يكن مقدراً أن تبدأ الاستثمارات في سوريا قبل أن تستقر البلاد وتنتهي نزاعاتها الداخلية. لكن جاء قرار المال السعودي قبل أن يحصل كل ذلك، وفي هذا الكثير من المعاني التي تستحق تقدير مبادرة الأشقاء في الرياض، وحفظها للتاريخ بوصفها موقفاً شجاعاً، وما قد يسهم به هذا الدعم في التخفيف من وقع الأحداث الأخيرة.
وبما أن القرار الاستثماري جاء في توقيت بالغ الحساسية، فهو يسعى إلى إعادة تشكيل الصورة الداخلية في سوريا، من حالة حساب الخسائر إلى رؤية جديدة ترتكز على الأمل بالفوز والربح، ومن الشعور بالمأزق الاستراتيجي، إلى التعامل مع نافذة انفتاح إقليمي تؤسس لما بعدها، وتجعل من الجيب المأزوم في السويداء مجرد حالة مؤقتة.
هذا الاندفاع والدعم يُراد له أن يحتفظ بسوريا حليفاً فاعلاً مستقراً، ويستدعي في اللحظة الراهنة تحجيم الأزمة في السويداء، وتأطيرها بوصفها حالة عابرة، قابلة للاحتواء، وربما من داخل المحافظة نفسها. وفي سياق الانفتاح الاقتصادي، قد يشعر أبناء السويداء بأن الدولة تمضي نحو الازدهار والتنمية، فينتقلون من حالة التردد واللايقين إلى حالة انخراط فعال في المشروع الوطني. بمعنى أن النجاح والتطور والتنمية هي ما تجعل الفرد يفخر بالانتماء لبلده، مثلما تفعل الوطنية المحضة، في حين أن الفقر والاستبداد والفساد عوامل تنتج شعوراً عاماً بالغربة والغبن. وتدفع البعض، خصوصاً ممن يمتلكون استقطابات خارجية إلى البحث عن النجاة. وغالبا ما يأتي هذا الملاذ إما في صورة وعود أجنبية، أو في شكل افتعال موجات من التعصب الطائفي أو العرقي، توظف سياسياً، على حساب مصلحة المواطنين ومستقبلهم في وطنهم.
وبالرغم من أن الدعم الآتي من السعودية وكذلك من دول أخرى، اقتصادياً كان أم سياسياً أو حتى أمنياً، متدفقاً ومندفعاً ومتوافقاً.. لكن لن يكفي وحده لدعم استقرار سوريا في مواجهة التحديات الداخلية المعقدة. فالمخاطر ما زالت كبيرة، وقد يكون بعضها معيقاً لفكرة التنمية الحقيقية أو استعادة العافية استعادةً حقيقيةً قابلةً للاستمرار. ذلك أن عملية إعادة بناء سوريا، أو على الأقل تعزيز وضعها بوصفها دولة قابلة للنمو، واستعادة القدرة، ناهيك عن الدور والمكانة، سيتطلب جهداً داخلياً موازياً، أو لربما أكثر من المبذول في المحافل الدولية، يتعلق بآلية العمل الداخلي لمعالجة أزمة الوحدة المجتمعية والجغرافية للبلاد، واستعادة مفهوم المواطنة الذي ضاعت ملامحه خلال عهد النظام المخلوع، وما زال.
هذه المهمة لا تتعلق بالدعم المقدر من الأشقاء بقدر ما ترتبط بآلية تعاطي السلطة في دمشق مع الأزمات التاريخية الراهنة، وحرصها على تبني مقاربات تحول دون تحول هذه الأزمات إلى تهديدات للأمن المجتمعي أو لوحدة سوريا الوطنية. من بين هذه المقاربات، تبرز الحاجة إلى ممارسة قدر عال من الشفافية، بما يُقرب بين الواقع الفعلي والخطط المعلنة والوعود المقدمة، وذلك عبر التركيز أولاً على تعزيز الأمن الداخلي وصورته، باعتباره شرطاً لاستقرار شرعية السلطة داخلياً وكذلك في خلق بيئة النمو الاقتصادي.
وفي هذه النقطة تحديداً يجب أن يشمل الجزء الأكبر من خطط النمو في المناطق الخاضعة لسلطة الدولة، لا سيما في المدن والأرياف المهمشة، وربما بكثافة واهتمام يفوق العاصمة في بعض الجوانب. وهذا سيسهم جزء كبير منه في ضمان استقرار جبهات غير مشتعلة، بالإضافة إلى تحفيز المناطق التي خضعت لهيمنة الانعزاليين أو الانفصاليين على استعادة شعورها بالانتماء إلى الوطن الجامع.
مثل هذه الرغبة لن تكتمل أو تتحول إلى برنامج قابل للنجاح، ما لم تعمل الحكومة في دمشق على نحوٍ موازٍ على وقف تداعيات الأحداث في السويداء وقبلها في الساحل، وكذلك مع المناطق الخاضعة لقسد، في الفضاء العام، بواسطة وضع حد للتنابذ والصراع الرقمي الخطير، الذي لن يقود إلا إلى تعميق الانقسام، وتعزيز مخاطر العنف الطائفي، باعتباره وصفة ثابتة للتفتيت الاجتماعي والجغرافي والقضاء على فكرة الوطنية والمواطنة، وقبل ذلك النمو الاقتصادي.
هذا الدعم الذي تحصل عليه سوريا من أشقائها، يأتي في لحظة فارقة، وقد يتوقف في لحظة فارقة أخرى. لذلك، ينبغي أن يجري التفكير استراتيجياً، لكن من داخل البيت السوري، وأن يتحول كل دعم حتى الآن، من تثبيت للشرعية الدولية، إلى برنامج تنموي يكون في خدمة وحدة البلاد وعيشها الكريم، واستعادة مواطنيها جميعاً إلى مفهوم الدولة.
وهذا سيحقق، ليس فقط الانتقال إلى الاستقرار في سوريا واستعادة وحدتها ودورها قبل أي شيء آخر، بل أيضاً الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الانتخابية الشعبية.