المقدمة: رسّخت رواية الشاعرة المصرية فاطمة قنديل الأولى مكانتها بقوة في المشهد الأدبي. وحاليا، وبعد ترجمتها إلى الإنكليزية، تظهر “أقفاص فارغة” كعملٍ شعريّ صادم يتأمل الذاكرة والجندرة وقوة البقاء. في هذا الحوار، تتحدث قنديل للمجلة عن موازنة الفرح مع الجراح، والكتابة بلا خوف، والسبب الذي دفعها لخوض غمار الرواية في الثانية والستين من عمرها.
في عام 2022، تُوجت رواية “أقفاص فارغة” – الباكورة الروائية للشاعرة والكاتبة المسرحية المصرية فاطمة قنديل – بجائزة نجيب محفوظ للأدب، لتشكل منعطفا حاسما في مسيرتها الإبداعية، حيث أطلقتها بقوة إلى صدارة المشهد السردي العربي المعاصر.
صدرت الرواية عن دار النشر التابعة للجامعة الأمريكية بالقاهرة، وترجمها إلى الإنكليزية البروفيسور آدم طالب الأستاذ المشارك في قسم الحضارة العربية والإسلامية بالجامعة. تنجح ترجمة طالب في نقل صوت قنديل الجريء وشفافيتها الشعرية إلى القارئ العالمي، دون التفريط في ذلك العمق الوجداني والإيقاع الشعري الذي يميز النص الأصلي العربي.
من خلال استحضار تجاربها الشخصية، تصف قنديل نشأتها كأصغر أفراد عائلة مصرية من الطبقة المتوسطة تعاني من التفكك.
فبينما يفسح دفء سنواتها الأولى الطريق تدريجيا للصدمات، تبدأ أنانية إخوتها وإدمان والدها وتراجع صحة والدتها وسلسلة من الخسائر في تشكيل حياتها. تستكشف الرواية، التي تمتد من العصر الذهبي لستينيات القرن الماضي في القاهرة حتى اليوم، موضوعات الحب والخيانة والفقدان والقوة.
في حوار شائق تجسّدت فيه تلك الحدود الباهتة بين ذاكرة الإنسان وخياله، وتناول التحديات الجسام التي تواجهها الكاتبة العربية في زمننا هذا، التقت “المجلة” بالأديبة فاطمة قنديل في جلسةٍ حميميةٍ ناقشت خلالها روايتها “أقفاص فارغة” وترجمتها الإنكليزية.
توصف “أقفاص فارغة” باعتبارها اعترافا صريحا. إلى أي درجة تعكس حياة الكاتبة صوت الراوية في الرواية؟
تتشابك تجاربي الحياتية مع نسيج السرد الروائي، لكنّ عملية الاستذكار نفسها تظل فعلا إبداعيا معقدا. فأنا – بصدق – لست من أصحاب الذاكرة الحديدية، كما أنّ الكتابة الأدبية لا تقتصر في جوهرها على استدعاء وقائع الماضي المجردة. لقد مثّل الخيال عنصرا محوريا في هذه العملية، يُرافقه ذلك المخزون الثقافي الثري الذي تشربته على مدار حياتي.
إنّ عملية استعادة الذكريات أشبه ما تكون بإعادة تشكيل فسيفساء من الزمن الغابر، فلا أكفّ عن التساؤل: أيّ هذه السطور كان حدثا حقيقيا، وأيّها كان صدى لتجربة أو وهما راودني؟ مع ذلك، فإنّي أؤمن بأنّ النواة الصلبة لهذه الأحداث قد وقعت بالفعل، فقد تحوّلت إلى مكوّن أساس في وعيي، نما وتعمّق في أعماقي، حتى إذا ما نضج، انبثق تلقائيا على صفحة الورق الأبيض.
تتنقل الرواية بين الفرح والصدمة، الذاكرة والنسيان. كيف تعاملتِ مع هيكلة هذه التباينات العاطفية؟
في البداية، اخترت هيكلة بسيطة للكتاب؛ بحيث يكون له بداية ووسط ونهاية، كي أتمكن من التحكم في تدفّق المشاعر الزائدة. فحين نكتب، لا يكون الانفعال العاطفي هو المحرّك الوحيد، بل هناك أيضا قواعد الكتابة الأدبية التي تلعب دورا أساسا.
لا يُمثل تحقيق التوازن بين المأساة والفرح التحدي الأصعب، لأن المشاعر تعتمد كثيرا على اللحظة التي نكتب فيها. فقد نستيقظ صباحا بمزاج رائق، فتتداعى الذكريات الجميلة، أو نستفيق على حال مغايرة. أمّا التحدي الحقيقي، فهو صبُّ هذه المشاعر المتقلّبة في القالب الذي حدّدناه سلفا، والتحكم في إيقاع الرواية أثناء الكتابة.
وصفت لجنة الجائزة رواية “أقفاص فارغة” بأنها تصوير صادق لا لبس فيه لعلاقات العنف الكامنة في عائلة مصرية عادية من الطبقة المتوسطة، ولا سيما في ما يتعلق بالسلطة الجندرية. هل كنتِ تسعين عمدا لكشف هذه الديناميكيات أثناء كتابتكِ، أم أنها انبثقت تلقائيا من الذاكرة والتأمل؟
أظن أنني اكتشفت ذلك أثناء الكتابة. أحيانا تفاجئنا الكتابة باكتشافات عن ذواتنا لم نكن نعرفها. قد تُصدم إذا أخبرتك أن الصورة التي عشتُها عن نفسي كابنة لعائلة متعلمة من الطبقة المتوسطة – تربَّت على قيم الحرية (ولا سيما في سبعينيات مصر) ورفض التمييز بين الابن والبنت – قد تهاوت بعد كتابة الرواية.
كانت ثمّة صورة أخرى مدفونة في الأعماق، ربما لم أكن أرغب في مواجهتها. الكتابة هي من كشفتها لي، دون صدمة تذكر. بل شعرت بسعادة غريبة وأنا أُزيح طبقات الصدأ عن تلك الذكريات المهملة عمدا في زوايا الذاكرة.
أهديتِ الجائزة للكاتبات والشابات العربيات. ما هي أبرز التحديات التي يواجهنها؟
أهديت الرواية إليهنّ، لأني أعرف الثمن الباهظ الذي تدفعه الكاتبة في مجتمعاتنا. أتسأل عن التحديات؟ لا يوجد سوى تحدٍّ واحد جوهري: أنْ تكتب عن ذاتكَ بكل حرية، دون أن تخنقك تلك الشبكة المعقدة من الضغوط – الاجتماعية والدينية والسياسية وغيرها. دائما ما يوجد ما يستحقّ الكتابة، لكنك تتراجع. ينهشُكَ الخوف. الكاتبات اللواتي تجرَّأْن على مواجهة هذا الواقع دفعْنَ الثمن: تهميشا مُتعمّدا. في رأيي، المعركة الحقيقية تكمنُ في تحطيمِ قيود الرقابة الذاتية – وهذه معركة تحتاج إلى شجاعة لا تنضب.
“أقفاص فارغة” هي باكورة أعمالكِ الروائية بعد مسيرة طويلة في كتابة الشعر والنقد. ما الذي دفعكِ نحو الرواية حاليا بالتحديد؟
لأسباب عديدة: أولا، أنا كائن أدبي يعشق تجريبَ الأشكالِ كافة. أكتب الشعر، لكنّي لا أكون أسيرة له. تتنقّل حروفي بين المقالات النقدية وكتابات الرأي والنصوص المسرحية. يظلّ الشعر نوعي الأثير، لكنّ إغراء التجريب لا يقاوَم.
جاءت الروايةُ كضرورةٍ وجودية – حاجة ملحّة لنثر يُعبّر عمّا لا يستطيع الشعر حمله. “أقفاص فارغة” لم تكن مجرّد تصفية حساب مع الذاكرةِ ومع ولادة جديدة، بل أيضا تحطيم لتلك الصورةِ النمطية التي حبسني فيها حتى أقرب المقربين.
فكم من مرّة سُجن الشاعر في صورةِ الحالم المنعزل عن الواقع! لكن ثمّةَ حياة حقيقية تنتظر أن تُروى تحتَ كلّ هذا الثراء اللغويّ. وفي لحظة وعي ما، اخترت أن أُخرجها من الظلّ.
بين النقد والترجمة والشعر، ثم الرواية… كيف انعكست هذه المسارات المتشعبة على أسلوبكِ في السرد وخلق الشخصيات؟ وهل كان العبور بين الأجناس الأدبية انتقالا طبيعيا أم صراعا إبداعيا أثمر عن مفاجآت غير متوقعة؟
الكاتب – من وجهة نظري – هو وعاء تختلط فيه عصارة الحياةِ بخميرة النصوصِ التي قرأها. هذا المزيج لا يختمر في النصوصِ وحدها، بل يرشح إلى أدقّ تفاصيل الوجود. كثيرا ما وُجّه إليّ سؤال الانتقال من الشعرِ إلى النثر وكأنه قفزة في الفراغ، بينما كان بالنسبة لي مجرّد خطوة طبيعية في مسارٍ متصل. فأنا ابنة قصيدة النثرِ التي لا تعترف بالحدود المصطنعة، وقد ظللت – حتى في دواويني الشعرية – أعبر الجسر بين الإيجازِ والاستطراد.
لم تكنْ “أقفاص فارغة” قطيعة مع الشعر، بل امتدادا له بوسائل أخرى. فها هي ذي أنفاس القصيدةِ تظهر في الفقراتِ المكثفة التي تشبه الومضات، وفي البنية الإيقاعية الخفيّة للجملِ نفسها.
تُقدَّم رواية “أقفاص فارغة” حاليا للقارئ الإنكليزي. ما الرسالة التي تأملين أن تصل إليه؟
كلّ ما أرجوه هو أن يقرأها القارئ الغربي كسرد لتجربة إنسانية خالصة، لا كـ”نموذج عن المرأة العربية المقهورة”. أرفض أن تُختزل روايتي في صناديق جاهزة مثل “أدب المرأة الشرقية”، فلمْ أكتب يوما من هذا المنطلق. كل كتاباتي تنبع من يقيني الراسخ بأنني كاتبة تشارك في مشهد ثقافي يشارك فيه كل كتاب العالم. لا أريد أبدا أن أُمدح ككاتبة “جريئة” أو “متمردة” في مجتمعات العالم الثالث، لأن كتاباتي لم تبدأ من هناك، ولا أحب أن أنتمي إلى هذه الفئة أو أن أُصنف تحتها.
برأيكِ، هل تكتسب بعض طبقات النصّ دلالات أعمق – أو ربما مغايرة – عندما تقرأها عيون تنتمي إلى سياقات ثقافية مختلفة؟
لا شكَّ أن ثمة أصداء مشتركة تعبر الثقافات، بينما تظلّ تفاصيل أخرى عالقة في دهاليزِ السياقِ المحلي. أكتب عن مجتمعات تزداد محافظة يوما بعد يوم، حتى بالمقارنةِ مع ذاكرتي عن أيامِ شبابي. ويُثير هذا الواقع فيّ أحيانا هواجس حول طريقة قراءة الرواية بعيون غريبة عن هذا السياق.
لكنّي أعتمد – في نهاية المطاف – على ذلك الجسرِ الخفيّ: إنسانيتنا المشتركة التي تتسلل عبر الحكايات. فأنا ليس لي أن أعرف كيف ستحمله رياح الثقافات المختلفة، ولا الطريقة التي ستُترجم فيها تفاصيله في عقولِ قرّاء لم يعيشوا ظلال عالمي.
ما الذي دفعك إلى الكتابة في المقام الأول – وما الذي يجعلك تعودين إليها؟
الكتابة بالنسبة لي ليست مهنة، بل هي شرط وجودي. الأيام التي تخلو من الكتابةِ أشبه بوقوف على حافةِ العالم، حيث تُهدّدني رفرفة جناح فراشة بالسقوطِ إلى العدم. لا أعرف نفسي حقّ المعرفة إلا حين أكون بين فكيّ هذه الثلاثية: الكتابة، والتفكير في الكتابة، أو تأنيب الذات على الصمت.
في لحظةِ الكتابة وحدها أبلغ ذروة حضورِي الإنساني. حتّى لو انتهى المطاف بما كتبته إلى سلة المهملات، وتُمكنني الكتابة من مواجهة الحياة والموت أيضا.
كيف أثّرت التحولات الكبرى في المشهدين الثقافي والسياسي المصري – التي عاصرتِها – في تشكيل صوتك الإبداعي وهُويتك ككاتبة؟
أعتبر جيلنا – على الرغم من كلّ الحروبِ والنكساتِ والتحولاتِ العنيفةِ التي عاصرناها – جيلا محظوظا بمعنى ما. ففي تربيتنا خلال عقدي الستينيات والسبعينيات في مصر، كنّا نستنشق قيمة الثقافة كالهواء. نعم، كانت هناك مآس سياسية، لكنّها لم تكن قادرة على انتزاع ذلك الإيمانِ الراسخِ بالمعرفةِ والفنونِ من قلوبنا.
كنّا نقرأُ ونستمع إلى الموسيقى ونتردد على دورِ السينما كطقوس مقدسة، كلّ هذا قبل أن تتحوّل الحركات الإسلامية إلى ظاهرة ثقافية مهيمنة. حتى نكباتنا منحتنا هبة خفيّة: مرونة القلب وقدرة على النهوضِ. تعلمنا “المثابرة” كفنّ للعيش، تلك القيمة التي أراها اليومَ ككنز ثقافي مهدّد بالانقراض.
أثارت جرأتكِ في تناول الموضوعات المحفوفة بالمخاطر إعجابَ النقاد. هل واجهتِ لحظات تردد أو قلقٍ حيال نشر بعض النصوص؟ وهل شعرتِ – ولو لمرة واحدة – أن ثمةَ خطوطا حمراء تخشين الاقتراب منها، سواء أكانت اجتماعيةً أم فنيةً؟
في محراب الكتابة، أخلع رداء الحذرِ وأُطلق للكلماتِ حريتها المطلقة. تبقى بعض النصوصِ حبيسةَ الأدراج، كأسرار شخصية لا تُفصح عن نفسها. أمّا لحظة النشرِ فهي لحظة انفصال موجعة – حينَ أُسلّم المخطوطة للعالم كأمّ تُودع وليدها، ثم أنزوي في صومعتي أترقّب ردّةَ الفعلِ.
في “أقفاص فارغة”، كتبت بذلك اليقينِ الذي لا يترك للترددِ موطئ قدم. كانت شهادة وجودية لا تقبل الترقيع. لا أزعم أن هذا جرأة، بل هو ذلك الامتياز الذي تمنحه الشيخوخة للكاتب: أن يقول الحقيقة عارية دون مواربة. في الثانية والستين، لم يعد لي أن أخاف إلا من شيء واحد: صمت القلم وجفاف ينابيعِ الكلام.
بعد هذه الرحلةِ السرديةِ مع “أقفاص فارغة”، إلى أين تتجه بوصلةُ حروفكِ؟ هل سنرى امتدادا لهذا العالمِ الروائي، أم عودة إلى جنون الشعر وصرامة النقد؟
أعود إلى الشعرِ كما يعود الظمآن إلى النبع. في تلكَ اللحظة السحرية التي تتشكل فيها القصيدة- ولو من بضعةِ أسطر – أُمسك بالعالم بين كفّي ككرة بلورية تلمع بكل ألوان الحياة.
متعة الكتابةِ هذه لا يُضاهيها أمر آخر: تلكَ اللذة التي تشبه اكتشاف كوكب جديد في فضاء الذات، حتى لو تحوّل النص لاحقا إلى مجرد ذكرى.
ما الحكايات التي ما زالت تُناديكِ من أعماق الذاكرة والمخيلة لتُروى حاليا؟
هناك دائما قصص، بعضُها نُضيءُه للعالم، وبعضها نحتفظ به في صندوقِ الذاكرةِ الأسود ، لكن كي تتحول القصة إلى رواية… فهذه قصة أخرى تماما. لكنّ الرحلةَ من الحكايةِ العابرةِ إلى الروايةِ المتكاملة… هي معجزة إبداعية أخرى.