مجموعات سُّنّيُّة تتّهمُ الشّيعة بالصّفوية، ومجموعات شّيعيُّة تتهمُ السُّنّة بالداعشية، ثم يُختَمُ المشهدُ بشعارٍ معروف: “ندافع عن المقدّسات”، على رغم أن الطرفين في الغالب لا يُدافعان سوى عن مآربَ سياسيةٍ لقوى تبحث عن مقعدٍ أو منصبٍ أو نفوذ.
لا تزال ذكرى أوّلِ عامٍ جامعيٍّ لي، في عام 2015، محفورةً في الذاكرة، خلال حفلِ التعارفِ الذي نظّمته الكلية، كنّا مجموعةً من الطلاب نتبادل الأحاديث التعريفية المعتادة: من أيّ مدينةٍ أنت؟ في أيِّ مدرسةٍ درست؟ إلى أن سألتُ أحد الزملاء: من أيِّ منطقةٍ في بغداد؟ تردّد للحظة، واحمرّ وجهُه، ثم أجاب بصوتٍ خافت:
“أخاف هذا السؤال بسبب القصص التي سمعتُها من أهلي أو من الأخبار، عن الخطف والقتل على الهوية المذهبية”.
ثم أضاف بحكايةٍ لم أنسَها أبداً:”مرّة، أيام الطائفية كنتُ أركب مع والدي حافلةً للعودة إلى المنزل، سأل السائق والدي: هل أنتَ سُنّيٌّ أم شيعيٌّ؟ تردّد والدي ثم أجابه: أنا مُلحدٌ يا أخي”.
تلك اللحظة لخّصت إرثًا من الخوف، جُرحًا غائرًا لم يلتئم بعد، على رغم مرور سنواتٍ طويلةٍ على ذروة الاقتتال الطائفي عام 2006. وكأنّ الذاكرةَ العراقيةَ تأبى أن تنسى، أو لعلّ الواقعَ لا يسمح لها بذلك.
عام 2006 كان نقطةَ الذروةِ في انهيار السِّلم المجتمعي في العراق، بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء. آنذاك، تحوّل البلد إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للاقتتال المذهبي، وظهرت على الأرض ميليشياتٌ متقابلةٌ تتقاسم الشوارع، وتزرع الموتَ على الهوية.
في بغداد وحدها، كانت الجثثُ تُلقى يوميًّا في المزابل وعلى الأرصفة، بعضها مُقيّدٌ ومُعذَّبٌ، والسبب غالباً لا يتجاوز الاسمَ الرباعيّ أو مكانَ السكن، عائلاتٌ هُجّرت من أحيائها، أحياءٌ كاملةٌ أُفرغت من سكانها، ومساجدُ دُمّرت، ومئاتُ الآلاف من النازحين لم يجدوا ملجأً سوى في الطائفة التي ينتمون إليها.
انقسمت العاصمة كما انقسم البلد، لا حديث عن الوطن، بل عن “المكوّن”، لا نقاش عن الحلول، بل عن الثأر، تحوّل الجارُ إلى عدوّ، والزميلُ إلى قاتلٍ محتمل، لم يكن النزاعُ سياسيًّا بقدر ما كان طائفيًّا نقيًّا، يضع الناس البسطاءَ في مرمى النيران من دون ذنبٍ سوى أنهم ينتمون إلى مذهبٍ ما.
ذاك العامُ الأسودُ ترك جُرحًا غائرًا في الوعي العراقي، جُرحًا لم يندمل بعد، ولا تزال آثارُهُ تتجلّى في النفوس، وفي خرائط السكن، وحتى في لهجات الناس التي أصبحت تُخبَّأ وتُخفى، خشيةَ أن تفضح ما لا ينبغي أن يُعرَف.
“أخاف هذا السؤال بسبب القصص التي سمعتُها من أهلي أو من الأخبار، عن الخطف والقتل على الهوية المذهبية”.
اليوم وبعد سنواتٍ من ادّعاءات “الوئام الوطني”، و”المصالحة المجتمعية”، يعود الخطاب الطائفي إلى السطح، لا من أوساطٍ شعبيةٍ فقط، بل من منابرَ سياسيةٍ وإعلاميةٍ مدفوعة.
قنواتٌ وصفحاتٌ وناشطون يُروّجون لنغمةِ الكراهية، يُحرّكون الغرائز، ويُغذّون الذاكرةَ المُثقلةَ بالدم، وكأنّنا على أعتابِ نسخةٍ جديدةٍ من كابوس 2006، تُعاد كتابتُه بلغةٍ حديثةٍ ووسائلَ رقميةٍ، لكن بالنيّة ذاتها: تمزيق المجتمع لخدمة صندوق الاقتراع.
في بعض الصفحات، ترى مقاطعَ تُتداول لسُنّةٍ “يسخرون” من طقوسٍ شيعية، أو شيعةٍ يشتمون” رموزَ السُّنّة، ويتم تضخيمُ هذه المقاطع، وتهويلُها، وتغليفُها بعبارات “الدفاع عن المذهب”، ليُعاد تدويرُ السُّمِّ ذاتِه الذي أُزهقت بسببه أرواحُ آلافِ العراقيين.
الخطير أن هذه الحملات لا تأتي من فراغ، بل إنها متزامنةٌ مع كلّ موسمٍ انتخابيّ، كما لو أن الطائفيةَ أصبحت جزءًا من “أدوات التعبئة السياسية”، وسيلةً مضمونةً لحصد الأصوات من جمهورٍ مسكونٍ بالخوف، ومُربَكٍ بالحقد، ومُبعَدٍ قسرًا عن التفكير بالمستقبل.
السؤالُ المتكرّرُ الذي يُؤرق كلَّ عراقيٍّ خائف: هل يتعلّم العراقيُّ الدرس؟ بل، لماذا لا يتعلّم العراقُ الدرسَ على رغم كلّ ما مرّ به من أهوال؟ عقدانِ من الزمن انقضيا منذ الاحتلال الأميركي، ولا يزال البلدُ غارقًا في دوّامةٍ من الفوضى السياسية، وانهيارِ الخدمات، والارتهانِ الإقليمي.
الكهرباءُ مرهونةٌ بإيران، والماءُ مرهونٌ بتركيا، والسيادةُ معطّلة، والهويةُ الوطنيةُ ممزّقةٌ بين طوائفَ وأعراقٍ ومصالحَ متشابكة، المواطنُ العراقي لا يملك “سرَّ حياتِه”، كما لا يرى “ضوءَ طريقِه”. فكيف يمكن لمجتمعٍ أن ينهض بينما تُزرع فيه بذورُ الانقسام مع كلّ دورةٍ انتخابيةٍ جديدة؟
مع اقترابِ كلِّ انتخاباتٍ برلمانية، تعود إلى الواجهةِ لغةُ التحريض، والخطاباتُ التي تُدغدغ الغرائزَ الطائفية، وتُعيد إحياءَ الاصطفافات المذهبية. فجأةً، يبدأ بعضُهم في شتمِ “مقدساتِ الطرف الآخر”، ويتبادل الجمهورُ الشتائمَ، حتى تتحوّلَ ساحاتُ النقاش إلى مستنقعاتٍ من الكراهية.
مجموعات سُّنّيُّة تتّهمُ الشّيعة بالصّفوية، ومجموعات شّيعيُّة تتهمُ السُّنّة بالداعشية، ثم يُختَمُ المشهدُ بشعارٍ معروف: “ندافع عن المقدّسات”، على رغم أن الطرفين في الغالب لا يُدافعان سوى عن مآربَ سياسيةٍ لقوى تبحث عن مقعدٍ أو منصبٍ أو نفوذ.
يبقى السؤال الكبير، هل الجهات أو الشخصيات التي تُثير هذه الفتن الطائفية مدفوعةٌ فعلًا؟ الجوابُ الأرجح: نعم، فهناك أحزابٌ وقوى سياسيةٌ اعتادت على استثمارِ الخوف، واستغلالِ ذاكرةِ الدم لبناء جمهورٍ انتخابيٍّ يتوجّه إلى صناديقِ الاقتراع مدفوعًا بالهواجس لا بالعقل، وبالانتماءِ الطائفي لا بالكفاءةِ أو البرنامج السياسي.
لكن السؤال الأخطر، هل بات هذا الخطابُ جزءًا من ثقافةِ المجتمع نفسِه؟ إن استمرّ هذا الانقسامُ كواقعٍ يوميٍّ، فإنّ العراق لا يُواجه مجرّد أزمةٍ سياسية، بل كارثةً وجوديةً تنخر جسدَه من الداخل، وتحوّله إلى كيانٍ هشٍّ قابلٍ للانهيار عند أولِ أزمة.
لا خلاصَ للعراق إلّا بإعادةِ الاعتبارِ الى الهويةِ الوطنية، وبقانونٍ يُجرّمُ خطاباتِ الكراهية والتحريضِ الطائفي، فحريةُ التعبير لا تعني حريةَ التجييش، والدفاعُ عن المذهب لا يُبرّرُ شتمَ مقدّسات الآخرين.
في بلدٍ أنهكتْه الحروبُ والفسادُ والتدخلاتُ الأجنبية، بات من الضروري أن يُراجع العراقيون أنفسهم قبل أن يُعيدوا إنتاجَ كوابيسَ 2006 تحت غطاءٍ “ديمقراطيٍّ”، هشّ، فالتاريخُ لا يرحم، والشعوبُ التي لا تتعلّم من دمِها، تُعيده كلَّ مرةٍ بثمنٍ أغلى.
إقرأوا أيضاً: