الباحث صقر أبو فخر في جديده “الحرب الأهليّة اللبنانية. لماذا اندلعت وكيف بدأت؟ الدوافع والروافع وتزوير الواقع” (*)، يعيد النّظر في الحرب الأهليّة اللبنانية التي اندلعت شرارتها يوم 1975/4/13 في بيروت ثمّ امتدّت، على مراحل متنقّلة، إلى معظم لبنان، فلم تتوقّف نهائيًّا إلّا صوب نهاية سنة 1990. وعليه فكتاب الأُستاذ أبو فخر عودٌ على بدء، أي أنّه تاريخ “خمسون على الحرب”، من بدايتها حتى نهايتها، فيردّنا إلى أسبابها وإلى من أشعلها وتزوير واقعها وإلى خواتيمها، ويرى أنّ الحرب الأهليّة اللبنانية لم تبدأ في 1975/4/13 كما اصطُلح اتّفاقًا. ففي ذلك اليوم المشؤوم اندلع القتال في بيروت ولم يتوقّف نهائيًّا إلّا في أواخر سنة 1990 بعدما امتدّ إلى معظم المناطق اللبنانية.
مقدّمات الحرب تعود جذورها إلى سنة 1968، أي إلى ما بعد هزيمة مصر وسورية في حرب 1967/6/5، إذ انحسر آنذاك الحضور الفاعل للعروبة الناصريّة والبعثيّة في لبنان، وتصوّرَ اليمين اللبناني أنّ الأوان قد حان لتغيير موازين القوى الداخليّة، والتخلّص من بقايا مرحلة الرئيس فؤاد شهاب، فبادر إلى تأسيس الحلف الثلاثي (كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إده)، وهو حلف طائفي ماروني خالص، وجاءت الانتخابات النيابيّة في تلك السنة لتمهّد الطريق أمام انقسام أهلي جديد على قاعدة طائفيّة متجدّدة، ولتطلق حمّى التسلّح، فأسّس بطرس خوند في سنة 1968 أولى فرق الكوماندوس في حزب الكتائب، ثمّ ظهرت، في السنة نفسها، “فرقة الصخرة” بقيادة فؤاد الشرتوني، وازدادت شهوة التسلّح بعد توقيع اتّفاق القاهرة بين منظّمة التحرير الفلسطينية والحكومة اللبنانيّة في 1969/11/3، وبدأ التدريب العسكري المنظّم في حزب الكتائب في سنة 1973، وظهرت في سنة 1975 “فرقة البي جين” (أي بيار الجميّل) التي كان أفرادها يتدرّبون يومين في الأسبوع في الأديرة التي كانت تتحوّل خلال الإجازات وعطل نهاية الأسبوع إلى ثكنات مكتظّة. وتولّى سامي خويري رئاسة “فرقة البي جين”، فيما تولّى شقيقه فادي مهمّات التدريب. واستمرّت الحال على هذا المنوال إلى أن أُنشئت الثكنات المركزيّة في سنة 1976، وفي سنة 1977 أُنشئت فرقة المغاوير بقيادة جو إده الذي خلفه في قيادتها إبراهيم ضاهر ثم إبراهيم حدّاد ثم يوسف بعقليني.
يعيد الأستاذ أبو فخر إلى الأذهان أنّ سنة 1968 حملت معها مشكلات جمّة للنظام اللبناني الذي لم يكن قد استفاق بعد من الأزمة الماليّة الكبيرة التي خلّفها تحطيمُ الأوليغارشية المركنتلية اللبنانية بنك إنترا الذي أسّسه الفلسطيني يوسف بيدس، ففي 1968/12/26 أطلق فدائيون فلسطينيون ينتمون إلى الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين النّار في مطار أثينا على طائرة تابعة لشركة “إل عال” الإسرائيلية كانت تستعدّ للإقلاع إلى نيويورك، فقُتل ضابط إسرائيلي متقاعد وجُرح آخر.
تذرّعت إسرائيل بتلك العمليّة للإغارة على مطار بيروت الدولي، فدمّرت في 1968/12/28 ثلاث عشرة طائرة مدنيّة جاثمة على أرضه من دون أن يتصدّى لها أحد. وفي إثر عمليّة الكوماندوس الإسرائيلي هذه ظهر الانقسام اللبناني مجدّدًا في شأن الموقف من العمل الفدائي، وشنّ حزب الكتائب حملة على ما سُميّ “تجاوزات” الفدائيين الذين كانوا، حتى ذلك الوقت، مجرّد مجموعات صغيرة متمركزة على سفوح جبل الشيخ الجليديّة في منطقة العرقوب على الحدود مع إسرائيل، ودأب بيار الجميّل، رئيس حزب الكتائب، على الدعوة إلى ضبط العمل الفدائي الذي كانت سمعتُه مشرّفة بعد معركة الكرامة في 1968/3/21، وهنا بدأ الجيش اللبناني يضيّق الخناقَ على الفدائيين في العرقوب، فانفجرتْ التظاهرات اللبنانية اليساريّة والقوميّة المؤيّدة للعمل الفدائي في 1969/4/23، وسقط عشرات القتلى والجرحى، الأمر الذي أدّى إلى اعتكاف رئيس الوزراء رشيد كرامي في 1969/4/24 بعدما اكتشف أنّ القرارات الأمنيّة تُتّخذ بمعزل عنه، ودخلت البلاد في أزمة حكوميّة لم تنته إلا بتدخّل الرئيس جمال عبد الناصر والتوصّل إلى اتّفاق القاهرة الذي وقّعته منظّمة التحرير الفلسطينية والدولة اللبنانية في 1969/11/3.
“يرى أبو فخر أنّ الأمور سارت نحو انقسام سياسي أدّى بالتدريج إلى صدام عسكري في سنة 1973، وأنّ ذلك كلّه كان مجرّد تمارين على الحرب الأهليّة التي ستندلع في 1975/4/13، والتي لم يكن للفلسطينيين أيّ شأن فيها، في البداية”
ويشير الباحث أبو فخر إلى أنّه تخلّلت تلك الحقبة انتفاضة المخيّمات الفلسطينية ضدّ مخافر الدرك ومظالمها في 1969/10/22، ثمّ بات ما بعد هذا التاريخ تاريخًا، وما قبله تاريخًا آخر، إذ بدأت آنذاك الاستعدادات الخفيّة والمستورة للانقضاض على الفدائيين الفلسطينيين الذين حماهم الشعب اللبناني، خصوصًا أحزاب اليسار والأحزاب القوميّة، من عسف المخابرات العسكريّة اللبنانية، ومن العمليات الأمنيّة السريّة التي كانت تسعى لإلصاق صفة التخريب بالمنظّمات الفدائيّة كإلقاء متفجّرة على جريدة “النهار”، ومتفجّرتين على كنيستين مارونيّتين، وعبوات على مكاتب لحركة فتح. وتبيّن أن أحد أجهزة المخابرات العربيّة هو من نفّذ أعمال التفجير تلك، وهو الذي أرسل في سنة 1972 أحد أفراده المدعو محمد عامر بدر إلى بيروت لغاية محدّدة هي الإساءة إلى المقاومة الفلسطينية وإشاعة الفوضى وإلصاق ذلك بالفدائيين الفلسطينيين.
وفي السياق نفسه قبضت السلطات اللبنانية في السنة نفسها على هشام لطفي يوسف، مساعد الملحق العسكري في إحدى السفارات العربية في لبنان، متلبّسًا بتنفيذ مهمّات تخريبية هدفها تحميل العمل الفدائي الفلسطيني المسؤوليّة عن ذلك، فيما نُشرت لاحقًا معلومات عن أن رائدًا سابقًا في أحد الجيوش العربيّة يدعى رفيق نعيم الحميدي نفّذ عدّة عمليات تخريبيّة في منطقة رأس بيروت في سنة 1973 في محاولة لإلقاء المسؤوليّة على المنظّمات الفدائيّة الفلسطينية.
بدأ الجيش اللبناني يضيّق الخناقَ على الفدائيين، فانفجرتْ التظاهرات اللبنانية اليساريّة والقوميّة المؤيّدة للعمل الفدائي في 23 نيسان/ أبريل 1969، وسقط عشرات القتلى والجرحى
يرى الأُستاذ أبو فخر أنّ الأمور سارت نحو انقسام سياسي أدّى بالتدريج إلى صدام عسكري في سنة 1973، وأنّ ذلك كلّه كان مجرّد تمارين على الحرب الأهليّة التي ستندلع في 1975/4/13، والتي لم يكن للفلسطينيين أيّ شأن فيها، في البداية، بل حُصرت بين قوى اليمين اللبناني وقوى اليسار، وثمّ تدحرج الوضع، شيئًا فشيئًا، إلى أن أُرغمت فصائل منظّمة التحرير الفلسطينيّة على الانخراط في الحرب ابتداءً من سنة 1976 فصاعدًا، جرّاء سقوط المخيّمات الفلسطينية (ضبيّة وجسر الباشا ثم تل الزعتر) وللدفاع عن النفس فيلحّ أنّه اليوم، بعد خمسين سنة على انفجار تلك الحرب، فإنّ صورتها التي يعرضها هنا استنادًا إلى وثائق الجانب اليميني ناقصة حكمًا، ولن تكتمل إلّا بعرض صورها الأخرى كما شوهدت من المناطق اليساريّة في لبنان، ويرى أن كلتيهما، من الجانب اليميني من الجانب اليساري من شأنهما أن يجعلا المشهد العام أكثر وضوحًا وجلاءً.
وعليه فإن الأُستاذ أبو فخر يطرح السؤال الملحاح والذي ما برح لجوجًا حتى اليوم، وهو: هل كان في الإمكان تفادي الحرب الأهلية؟ فيجيب: نعم بالتأكيد، فالخلافات الداخليّة والصراعات المحليّة والتناقضات الاجتماعيّة والسياسيّة في أيّ بلد لا تؤدّي، بالضرورة، إلى الاحتراب، ولكن الإرادة السياسيّة الأميركية، ومعها الإرادة الأمنيّة الإسرائيليّة آنذاك، والتجاوب الذي أبدتْه قوى محليّة، سياسيّة واستخباراتيّة، أو انساقت معها، حال، ذلك كلّه، دون تفادي الحرب وتجنّب عقابيلها.
نشأ الأستاذ أبو فخر في ربيع النّضال الفلسطيني وترعرَع في حقله الأكاديمي، في دائرة التخطيط في منظمة التحرير ومركز الأبحاث فيها، وفي مؤسّسة الدراسات الفلسطينية والموسوعة الفلسطينية، وحرّر ملحق فلسطين في جريدة “السفير”، ولذا فإنّه خبر الحرب الأهليّة عن كثب، فتحليلُه لها يأتي من الدّاخل، وهذه الحرب المشؤومة لها مسبّباتها ومحرّكاتها؛ ذلك أنّ إعلان لبنان عام 1926 دولة مستقلّة عن سوريّة أرجَحه آنذاك بين تيارين عريضين: قومي عربي من أمين الريحاني إلى جورج أنطونيوس، وقومي سوري من جبران إلى أنطون سعاده، ثمّ ظهر لاحقًا تيّار ثالث نادى بالقوميّة اللبنانيّة، إلى أن كانت نكبة فلسطين فانقلبت الموازين، وسقطتْ أنظمة وقامتْ مكانها أُخرى، وجاءت هزيمةُ 1967 باعثًا على الكفاح المسلّح، فما أن دخلت منظّمة التحرير الفلسطينية إلى السّاحة اللبنانية حتّى اتّضحت ملامحُ التناقض مع النّظام وإنْ وقف أهل لبنان في بداية الأمر جبهة مساندة لأهل فلسطين.
“يرى أبو فخر أن الإرادة السياسيّة الأميركية، ومعها الإرادة الأمنيّة الإسرائيليّة آنذاك، والتجاوب الذي أبدتْه قوى محليّة، سياسيّة واستخباراتيّة، أو انساقت معها، حال دون تفادي الحرب وتجنّب عقابيلها”
لا يغيب عن بال الأستاذ صقر تسطيره لأزمة إفلاس بنك انترا سنة 1966 وأثرها، فالبنك فلسطيني والنظام لبناني. وكان المؤرّخ كمال الصليبي أشار في كتاب الأستاذ صقر عنه- “الهرطوقي الحكيم”- إلى أن رفض الحكومة آنذاك تعويم بنك إنترا كان بداية الحرب الأهلية المستترة وكان مع الوقت بيانُها، فكان في البدء سِجالٌ، والحرب أوّلها كلام، ثمّ كان وميضُ نارٍ خللَ الرماد وأوشك ضرام إثر شرارة عين الرمّانة، فما أن سقطَ مخيّم تلّ الزعتر حتى اتّضح أن المسألة ليست فحسب صدامٌ بين منطق ثورة وسيادة نظام بل إنّها كامنة في بلفور وسايكس- پيكو وسان ريمو. فسلبُ فلسطين وسلخُها عن سوريّتها أحدثَ على مدى خمسين عامًا نكبةً عُظمى، وتجدّدت بالأمس في غزّة، وفجأة وضحت مطامع الدولة العبريّة في لبنان، واتّسع الصراع ليشملَ بلاد الشام بأسرها، ولا عجب، فمداواة العمى ليست بالكحل، وإنّ مسألة فلسطين لبّ الصراع، وإذا بالصراع أبعد من عين الرمّانة وتلّ الزعتر. قد نحتاج إلى عقود لنقف على حقيقة بوسطة عين الرمّانة، واليوم المسألة أبعد من موسكو وأبعد من واشنطن.
الأستاذ صقر أبو فخر يدرك تمامًا في كتابه المرجعي عن الحرب الأهليّة أنّه ما لم يكن هناك فهمٌ واضحٌ لأسبابها الكامنة فلن يجدي تحليلها فحسب، إذ أنّه أفلح في سبر أغوارها مستندًا إلى عشرات المراجع، إضافة إلى تجربته الشخصيّة، وهي، في آن، مرجعيّة ورؤيويّة.
حلمَ هرتزل، صوب نهاية القرن التّاسع عشر وهو جالسٌ في مقهى سنترال في ڤيينا، بمملكة سماويّة في فلسطين ثمّ كحّل وايزمان عمى قلبه وطلع بلفور بوعد إبليس في الجنّة، فما أن عبَر قرنٌ حتى خطّأت غزّة معادلة الحلم التوراتي، وصمدَ أهلُ جنوب لبنان وضاحيتها في ردّ كيد الدولة العبريّة، فإذا نحن أمام ميسلون جديدة تنفض بعد مائة عام، بالتمام والكمال، عن جناحيها غبار التّعب، وإذا بيروت عودٌ على بدء وثبةُ العلى رسم مسارها ابن البروة الجليلي محمود درويش: “بيروتُ خيمتنا/ بيروتُ نجمتنا/ بيروت تفاحة/ والقلبُ لا يضحكْ/ وحصارُنا واحة/ في عالم يهلكْ/ سنرقّص السّاحة/ ونزوّجُ الليلك/ بيروتُ للمطلقْ”.
(*) الكتاب صادر عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنّشر، عمّان/ بيروت، 2025 (مع شكر خاص للسّيدة بتول ترجمان لرصفها الكتاب على الراقمة).
عنوان الكتاب: الحرب الأهليّة اللبنانية: لماذا اندلعت وكيف بدأت؟ الدوافع والروافع وتزوير الواقع المؤلف: صقر أبو فخر