ملخص
في كتابه “لماذا الحرب؟”، الصادر حديثا عن “دار بيليكان” ينطلق المؤرخ البريطاني ريتشارد أوفري من أسئلة إشكالية، لماذا تلاحقنا الحرب بهذا الإصرار العنيد؟ لماذا، ما إن تنتهي حتى تعود أشد ضراوة، كأنها ظل لا ينفك عن الكائن البشري؟ كيف لم تفلت منها حضارة واحدة، مهما بلغ رقيها أو سطوتها؟ أهي طبع مقيم في البشر، أم الثمن الباهظ للشرط الإنساني؟
يتصدى ريتشارد أوفري لمحاولة فهم هذه الظاهرة الضاربة في عمق التاريخ البشري عبر كتاب يشكل منعطفاً في مسيرته الأكاديمية التي طالما اتسمت بالصرامة وركزت على الحرب العالمية الثانية. لكن هذه المرة، لا يبحث أوفري في أرشيفات الجيوش ولا خرائط الجبهات، بل يقارب الحرب كفعل إنساني معقد، تلتقي عنده علوم الطبيعة والإنسان، من علم النفس إلى البيولوجيا، مروراً بالأنثروبولوجيا والإيكولوجيا، وانتهاء بعلم العظام الأثري، فلا روايات مكتوبة، بل شظايا جماجم وطعنات قديمة وكسور عافها الزمن.
يقول في مقدمته “راودتني هذه الفكرة طويلاً، أن أستقصي كيف استجابت العلوم المختلفة لهذا السؤال الجوهري عن طبيعة الإنسان”، ويضيف “كانت تجربة كاشفة ومتواضعة في آن، وسمحت لي بأن أكتب كتاباً مختلفاً تماماً عن كل ما سبق أن كتبته”.
المفارقة أن هذا العمل البحثي بدأ قبل اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، لكنه صدر في عالم تتكاثر فيه الحروب كالفطريات السامة، من الشرق الأوسط، إلى قلب أوروبا، إلى صراع الموارد الآتي على أعتاب المناخ. لذا، يكتب أوفري وفي ذهنه هذا الإقرار المرير، “إن فهم الحرب بات ضرورة ملحة، وإن كان لا يضمن لنا أن نمنعها. فالحرب لها تاريخ طويل… لكنها، بلا شك، لها مستقبل أيضاً”.
كتاب “لماذا الحرب؟” (أمازون)
الذئب الرابض فينا
يقسم ريتشارد أوفري كتابه إلى شطرين متوازنين، يتناول أولهما الحرب بوصفها جزءاً من تكوين الإنسان نفسه، إما نتيجة بيولوجية، أو مكتسباً ثقافياً نشأ تحت ضغط بيئي مستمر. لهذا، ينفتح هذا القسم على أربعة فصول تغطي البيولوجيا وعلم النفس والأنثروبولوجيا والبيئة. ويستهل أوفري رحلته بالعودة للمراسلات الشهيرة بين ألبرت أينشتاين وسيغموند فرويد عام 1932، حين سأل الأول الثاني، لماذا نحارب؟ فجاء رد فرويد مشبعاً بتشاؤمه المعهود، الإنسان يحمل في داخله “غريزة الموت”، تماماً كما تفعل الكائنات الأخرى.
لكن أوفري لا يسلّم بهذا التفسير كلياً ولا يرفضه تماماً، بل يعيد تفكيكه ضمن شبكة أوسع من التفسيرات العلمية المعاصرة.
في الفصل الأول، ينطلق من البيولوجيا، واضعاً فرضية قديمة على طاولة التشريح، هل الحرب فطرة بشرية؟ مما يسمح بطرح أفكار داروين وامتداداتها النيوداروينية، ولا سيما تلك التي اعتبرت القتال وسيلة للبقاء، تمكّن الأقوياء وتقصي الضعفاء. كما يراجع بحذر بحوثاً عن عدوانية الشمبانزي والغوريلا التي استخدمت أحياناً لتبرير النزوع البشري نحو الحرب. مع ذلك، يتحاشى أوفري الوقوع في فخ الحتمية الجينية. فحتى إن امتلك الإنسان استعداداً للعنف، إلا أنه ليس عبداً لغريزته، فهل حقاً نمتلك هامشاً للاختيار؟
في الفصل التالي، يتوغل أوفري في أعماق النفس البشرية، باحثاً عن شرارة الحرب في تلافيف العقل واللاشعور. يستعرض محاولات مفكرين مثل إدوارد غلوفر، أحد رموز المعهد البريطاني للتحليل النفسي الذي سعى إلى مواءمة نظرية فرويد مع تفسير أوسع لسلوك الحرب.
لكن أوفري لا يلبث أن يظهر هشاشة هذا الطرح، مشيراً إلى أن التحليل النفسي، تاريخياً، ركز على الأفراد لا الجماعات، مما يجعل تعميمه على مجتمعات أو دول بكاملها أمراً محفوفاً بالتبسيط. وهو يتوقف عند مفهوم “غريزة الموت” الفرويدي، باعتبارها رغبة خفية في تدمير الآخر كوسيلة دفاعية ضد فناء الذات، ويقترح أن الميل إلى القتال لا ينبع فقط من الرغبة في النجاة، بل من رغبة دفينة في إثبات الذات عبر نفي الآخر.
وفي توسيع للمشهد، يستعرض أوفري دراسات حديثة عن سلوك الأطفال، تظهر أن معظم ألعابهم تتضمن العنف والمطاردة والأسر والهجوم والدفاع. وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 70 في المئة من الأولاد في سن المدرسة يشاركون في هذا النوع من اللعب، مما يكشف عن إعادة إنتاج مبكرة لنمط الصراع. وتتدفق الثقافة الشعبية لتعزز هذا التكوين، من تماثيل الجنود الطينية، إلى أفلام ومسلسلات هوليوود التي تجمل العنف وتقدمه كطقس بطولي لا يستحق الإعجاب وحسب، بل الاقتداء أيضاً.
الحرب بريشة اسماعيل الرفاعي (صفحة الرسام – فيسبوك)
حفريات الغضب الأول
في القسم الأنثروبولوجي من الكتاب، يبدأ أوفري بتقويض صورة “البدائي النبيل” التي راجت في بعض الأدبيات الرومانسية، تلك التي ترى في الإنسان الأول كائناً مسالماً بالفطرة، لا يعرف الحرب ولا العنف، غير أن الوقائع تقول عكس ذلك. فمن خلال دراسات ميدانية وأثرية، يُبين أن الحروب بين الجماعات الصغيرة لم تكُن نادرة، بل شكلت طقساً اجتماعياً متكرراً، يخاض من أجل الغنيمة، أو الانتقام، أو إثبات الشجاعة، أو الدفاع عن المورد. ويتوقف هنا عند أطروحة الأنثروبولوجية الأميركية مارغريت ميد التي اعتبرت الحرب “اختراعاً ثقافياً”. وإذا كانت الحرب اختراعاً، فمتى تم اختراعها؟ ولماذا؟
للإجابة، يعود بنا لـ 30 ألف عام من الأدلة الأثرية، بل ما قبلها بكثير. وفي واحد من أكثر الشواهد إثارة، يتناول اكتشافاً في شمال إسبانيا لموقع يحوي رفاتاً بشرية تعود لما يقارب 800 ألف عام، عثر فيها على جماجم مشروخة وعظام تحمل آثار قَطع، مما يرجح وقوع أعمال قتل عنيف أو حتى افتراس بين المجموعات البشرية الأولى.
ويشير أوفري إلى أن هذه العلامات، وإن بدت دامغة، تظل قابلة للتأويل العلمي، فقد تكون ناتجة من حوادث صيد، أو سقوط، أو عنف غير موجه. لكنه يلفت إلى أن النمط يتكرر عبر مواقع أخرى، من كينيا إلى النمسا، حيث تظهر رفات بشرية محاطة بأدوات حجرية حادة، وجماجم مهشمة، وأحياناً مقابر جماعية. وإن لم يكن كل أثر دليلاً قاطعاً، فإن تراكمها يمنحها وزناً يصعب تجاهله.
وفي فصل “الإيكولوجيا”، يعيد الاعتبار لصوت الطبيعة في حكاية الحرب بوصفها محرضاً، كثيراً ما أشعل الفتيل ثم انسحب إلى صمته البريء. فعندما تشح المياه، مثلاً أو تجف التربة، وتغور السهول التي كانت يوماً موائل للصيد، لا يعود أمام البشر سوى القتال من أجل البقاء. هكذا، تتحول الطبيعة المنهكة إلى ساحة صراع، تدفع الجماعات إلى الهجرة، أو السيطرة، أو التدمير.
من مجاعات بدائية موغلة في القدم إلى النزاعات الحديثة حول الأنهار، يتكرر الدرس ذاته، الأرض حين تضيق، تطلق وحوشها. ويرى أوفري أن التحولات البيئية المفاجئة، كانت في كثير من الأحيان الشرارة الأولى لحروب واسعة النطاق، حتى إن تقنعت بشعارات قومية أو لاهوتية.
الظل والسيف
في القسم الثاني من الكتاب، تتبدل زاوية المعالجة، من سؤال الطبيعة البشرية إلى دراسة المحفزات المباشرة للحرب. ينظر إلى الحرب هنا بوصفها فعلاً محسوباً، تتحكم فيه دوافع واضحة، الرغبة في الموارد والالتزام العقائدي وتطلعات السلطة والهواجس الأمنية.
ويرصد في فصل “الموارد” كيف ارتبط القتال عبر العصور بالحصول على شيء ملموس، أرض أو ماء أو ثروة أو موقع استراتيجي. كما يشير إلى أن الحروب لم تكُن دوماً نتيجة خطر وشيك، بل كثيراً ما قامت على دافع الامتلاك، من الجندي الذي يدخل في معركة من دون مقابل سوى احتمال الغنيمة، إلى الحملات الإمبراطورية التي بنت مجدها على النهب والسبي. وكما يذكر تفاخر يوليوس قيصر بأسره “مليون عبد” خلال غزو بلاد الغال، يعيد قراءة النزاعات النفطية الحديثة، من بوليفيا إلى الخليج، وصولاً إلى مشاهد سياسية مثل غرس روسيا علمها في قاع البحر تحت القطب الشمالي.
وفي فصل “المعتقد”، يتناول أوفري العلاقة بين الدين والحرب من زاوية وظيفية، إذ يتتبع كيف جرى استغلال الدين، خلال فترات مختلفة، كأداة تعبئة وتبرير. ويمر على نماذج الحروب الصليبية والجهاد والحروب “العادلة”، ويشير إلى الآليات التي جرى بها تأويل النصوص لتناسب ظروفاً سياسية أو عسكرية متغيرة. كما لا يفوته التذكير بالمفارقة المعروفة، أديان نشأت على قيم المحبة أو التسامح، انتهى بها الأمر إلى أن تستخدم في سياقات قمع أو عنف مشروع.
قادة أدمنوا الحروب… سلسلة دموية من هتلر إلى نتنياهو
عصر الحروب الأبدية
العدو الذي اخترعناه
ما بين الشغف بالهيمنة والرعب من المجهول، يرسم الكتاب في فصلي “السلطة” و”الأمن” خريطة معقدة للدوافع الواعية التي تشعل الحروب. فليست الحرب دوماً انفجاراً بدائياً أو دفاعاً عن مورد، بل قد تكون نتاج قرار صلف في غرف مغلقة.
وفي فصل “السلطة”، يتتبع أوفري ثلاث شخصيات محورية، الإسكندر الأكبر ونابليون وهتلر. لم يكُن أي منهم مهدداً وجودياً حين خاض الحرب، بل كانت لديهم رغبة معلنة في إعادة تشكيل العالم. الإسكندر لم يطلب المجد وحسب، بل أراد أن يعيد هندسة الجغرافيا والثقافة معاً، مزاوجاً بين الشرق والغرب في مشروع خيالي. أما نابليون، فكانت الحرب وسيلته لترسيخ سلطته، وساحة لإثبات أن فرنسا الجديدة لا بد من أن تبنى بالملاحم. ويبلغ هذا المنطق ذروته مع هتلر الذي لم يشعل حرباً حدودية، بل أراد نظاماً عالمياً جديداً، يقوم على تصور عرقي صارم، جعل من الإبادة مجرد خطوة في مخططه الدموي.
لكن الكتاب لا يتوقف عند النوايا، بل يكشف كيف تغلف الحرب بخطابات جاذبة، وعود بالنظام أو بإحياء المجد، أو بردّ الضربة قبل أن تأتي. وفي فصل “الأمن”، يضيء ما يسميه “الاستباق الخاطئ”، حين تصبح الحرب رداً على احتمال، وليس تهديداً فعلياً. وهنا يستدعي الحرب العالمية الأولى كنموذج لحرب اندلعت من سلسلة شكوك دفاعية قادت إلى هجوم مخيف. كما يستعيد غزو العراق عام 2003، بوصفه مثالاً على حرب بنيت على فرضية لم تثبت قط.
يبلور أوفري من كل ما سبق رؤيته في أن كل حرب تُصنع. وإن بدت حتمية، فثمة من اختارها وحدد العدو، وأوجد الحافز. من شراسة الغريزة إلى شباك التحليل النفسي ومن ألعاب الطفولة إلى أوهام الخلاص، تتجمع الحوافز وتشتبك، حتى يصبح الدم جزءاً لا يتجزأ من مسيرتنا. قد لا ننجو منه، لكن علينا أن نفهمه، وأن نفضح تمويهات الحرب ونشكك في خطابها، ربما نجد متسعاً لتخيّل عالم لا يحتاج إلى القتال، بقدر ما يتوق إلى الطمأنينة.