الصراع على السويداء أحيا نظرية “المسألة الدرزية”، بكل ما تعنيه الكلمة عن تلك الطائفة المقيمة على تخوم سوريا، وعلى تماس مع دولة إسرائيل، وعلى افتراق لبنان، وتسلك مساراً إنتحارياً فعلياً، بعدما انطوت على نفسها، واستدعت الحكم عليها من قبل غالبية السوريين وجميع دول العالم، باعتبارها طائفة مارقة على الوطنية السورية، وعاصية على الهوية السياسية التي يعاد تشكيلها في سوريا على أيدي إسلاميين سوريين لا يكنون الود لأي أقلية، ولا يثقون بأحد من الأقليات، بناء على تجربتهم المريرة مع الأقلية العلوية.
الكلام عن إنفصال دروز سوريا واعلانهم دولة مستقلة ليس جدياً ولا منطقياً، حتى بالنسبة الى الإسرائيليين أنفسهم، الذين لا يخدم مثل هذا الكيان مصالحهم الأمنية والسياسية، حتى ولو اجتمع في هذه الدولة المصطنعة، التي لم تصمد في مرحلة تأسيس سوريا، دروز سوريا وإسرائيل ولبنان ايضاً..هو في الجوهر تضخيم لتلك “المسألة الدرزية”ودفعها الى الحدود القصوى التي تبرر المذبحة الحالية وتغطيها برداء الدفاع عن الوحدة الوطنية السورية العتيدة، من دون ان يكون هناك أفق عربي أو دولي يحول دون مضي الدروز الراهن نحو الانتحار الجماعي، غير مدركين أن العدو الإسرائيلي لن يحميهم ولن يقاتل من أجلهم، ولن يفتح حدوده للمهجرين منهم، عندما تنقطع نهائياً الصلة بين السويداء ودمشق، ويصبح جنوب سوريا منطقة أمنية عازلة خالية من السكان.
“المسألة الدرزية” التي تموِّه أيضا نزوعاً علنياً مخيفاً الى الاستئصال لدى الغالبية السنية الحاكمة في دمشق، لم تطرح على هذا النحو عندما جرى البطش بالعلويين، وعندما يجرى التعرض للمسيحيين، أو عند التحدث عن الاكراد. والسبب هو العدد والنسبة المئوية التي يمثلها الدروز في سوريا، إضافة الى إنكشافهم السياسي الذي فاقمه التدخل الإسرائيلي الفظ في الصراع على السويداء.. وعدم استفادتهم من الفرصة التي أتاحها لهم وليد جنبلاط لابقاء قنوات اتصالهم مفتوحة مع دمشق.
لم تكن هذه الفرصة الجنبلاطية تعبر فقط عن ميلٍ لتفكيك لغم”المسألة الدرزية” في سوريا، بل في لبنان أيضاً، وأولاً: لن يوضع دروز لبنان في قفص الاتهام بالتواصل مع العدو الإسرائيلي (وهم بالمناسبة أقل الطوائف اللبنانية تفاعلا مع ذلك العدو)، لكن صلتهم مع بقية الطوائف لن تظل بمعزل عن الصراع بين السويداء ودمشق، لا سيما اذا ما طال هذا الصراع، وتعثرت مساعي التسوية، بعد تعذر العثور على وسطاء، غير الوسيط الأميركي طوم براك طبعاً الذي تبرأ من هذه المهمة عندما برأ حكام دمشق من المذابح، ووجد أدلة لتوجيه الاتهام الى تنظيم داعش، ودعا الدروز الى التسليم للحكومة السورية من دون شروط، لأنه ليس هناك بديل للرئيس أحمد الشرع سوى السيناريو الليبي او الافغاني..ولأن تركيا جاهزة للتدخل المباشر للحفاظ على وحدة سوريا، والقضاء على “وكيل إسرائيل” حكمت الهجري.
وبرغم العطف اللبناني العام على دروز سوريا والمحنة التي يعيشونها اليوم، فإن مراسم العزاء من جهة والفرح من جهة أخرى ستظل ماثلة في الاذهان اللبنانية، لتحدث للمرة الأولى شرخاً في العلاقة الدرزية السنية، ولتعيد رأب الصدع بين الدروز وبين الشيعة وسلاحهم “المحظور”، ولتحرك مواجع وربما مطامح مسيحية سابقة تضع المسلمين جميعاً في خانة الخطر الداهم على الكيان اللبناني ومستقبله ووحدته المفترضة.. وهو ما يدفع الحساسيات الطائفية اللبنانية مجدداً الى مستوياتها المعتادة في زمن الحروب والأزمات.
“المسألة الطائفية” في لبنان هي اليوم في ذروتها، لكنها لا تسير نحو صدام أهلي جديد طبعا. كل ما في الامر أن مختلف الطوائف اللبنانية تمارس رياضتها المفضلة في قياس أحجامها وأوزانها..ومدى تفاعلها مع موسم المجازر الدينية في سوريا.
بيروت في 23 /7 / 2025