ملخص
التضامن الشعبي والالتفاف حول إيران في مواجهة العدوان الإسرائيلي أوصل رسالة إلى منظومة السلطة وهي أن بقاءها واستمرارها في موقع القيادة لن يكون من خارج الإرادة الشعبية، وهي الحقيقة التي اعترف بها المرشد الأعلى وكل قيادات الدولة والمؤسسة العسكرية والأمنية.
كثيرة هي التحديات التي يواجهها النظام الإيراني بعد الخروج من تداعيات الحرب الإسرائيلية – الأميركية المشتركة التي تعرض لها، فهذه الحرب أعادت للواجهة كثيراً من المسائل التي حاولت منظومة السلطة عدم الاعتراف بوجودها أو إهمالها، وفضلت التعامل معها باعتبارها في كثير من الأحيان تهديداً أمنياً ومؤامرة خارجية تستهدف النظام وأيديولوجيته.
تحديات قد لا تقتصر على البعد العسكري والأمني المباشر لهذه الحرب بل تتسع لما هو أبعد لتأخذ بعداً تاريخياً تراكمياً، مرة بطابع اقتصادي عبر سلسلة من العقوبات الخانقة التي أصابت الحياة اليومية للمواطن الإيراني، وأخرى ذات طابع ثقافي وفكري سياسي كانت ذروته في الحراك الشعبي الذي أعقب مقتل الفتاة مهسا أميني، وهو الحراك الذي أصاب العمق العقائدي والأيديولوجي للنظام، وكشف أمامه حجم القطيعة التي يعيشها جراء التباين الواضح بين سياساته وأدائه، وبين ما يريده معظم الشعب.
وإذا ما كان النظام قد استطاع الصمود في هذه الحرب التي انطلقت أو بدأت في إطار إستراتيجية ذات أبعاد متشعبة ومتعددة، هدفت أولاً إلى إنهاء قدراته النووية مرة واحدة وأخيرة، ثم القضاء على قدراته الردعية الممثلة في البرنامج الصاروخي والطيران المسيّر، على أن يتوج ذلك بتمهيد الأرضية لانقلاب على النظام وإنهاء الدولة الإسلامية التي أقامها على مدى العقود الأربعة الماضية، فما تكشف عن هذه الحرب من أداء شعبي فاجأ النظام ووضعه أمام حقيقة من الصعب عليه عدم أخذها بالاعتبار، وهي حقيقة تفرض عليه أو على منظومة السلطة والقرار الانتقال إلى سلوك جديد من التعاطي والتعامل مع التوجهات الداخلية بمختلف مستوياتها واتجاهاتها.
منشور كبير مستشاري المرشد الأعلى وزير الخارجية الأسبق علي ولايتي على منصة “أكس” الذي قال فيه “إن الانسجام الوطني الذي يؤكده القائد الأعلى يمكن أن يشمل تغيير بعض السلوكيات الاجتماعية للسلطة، وأن تجعل من رضا الشعب محور اهتمامها، بحيث يكون ذلك ملموساً بالنسبة إليهم، فالشعب سجل موقفه والآن جاء دور المسؤولين، وبعد الحرب لم تعد الأساليب الماضية تستجيب لمطالب المجتمع”، قد لا يكون الموقف الأول الذي يصدر عن كثير من المسؤولين في الدولة والنظام، إلا أن يشكل مؤشراً واضحاً على وجود تحول جدي في قراءة النظام والسلطة لحقيقة الموقف الداخلي، وهي قراءة تُحرج للمرة الأولى أحد أكثر المسؤولين قرباً من المرشد، وتتحدث بصورة واضحة ومباشرة عن رؤيته لهذا التحول، وما يعنيه ذلك من خروج عن النمط السائد في أوساط “حماة النظام والدين” ومساعيهم إلى تنميط أي صوت معترض أو مطلب اجتماعي أو ثقافي وحتى سياسي محق أو طبيعي، باعتباره عدواً للنظام والثورة والإسلام، أو أنه عميل يسعى إلى تنفيذ أجندة خارجية من أجل الإطاحة بالنظام والانقلاب عليه.
والتحول النوعي في قراءة شروط السلطة والحكم من أعلى الهرم لن يكون تكتيكاً مهمته استيعاب اللحظة الحرجة التي يمر وتمر بها إيران، بانتظار اللحظة المواتية للانقضاض عليه والعودة للسيرة الأولى التي تعتمد خطاباً أيديولوجياً مغلقاً لا يأخذ بالاعتبار الإرادة الشعبية في موازين صياغة السلطة والحكم، بل سيكون مجبراً على الالتزام بها والانتقال إلى آليات تعامل جديدة مع تنوعات المجتمع الإيراني وكل توجهاته، تبدأ من الاعتراف ولا تقف عند الالتزام بالشراكة والأخذ بكل الهواجس لدى مختلف المكونات العرقية والقومية والثقافية، فالمجتمع الايراني الذي عمل على اجتراح أدواته بما يتناسب مع كل مرحلة من تطوره وفهمه لطبيعة النظام، استطاع في كل مرة تحقيق مكاسب جزئية انتزعها من النظام بكل أدواته الفكرية والأمنية والسياسية، واستطاع في المقابل أن يفرض على السلطة أن تتعايش مع هذه الانتزاعات أو الانجازات رغماً عنها وعن إرادة القوى المتشددة التي ترفض التسليم أمام هذه التحولات، ولن يجد هذا المجتمع صعوبة في العودة لاعتماد الأدوات التي يتقنها واجتراح الآليات التي تحقق مطالبه في حال انقلب النظام على هذا التوجه الجديد بعد الإحساس بابتعاده من دائرة الخطر والتهديد.
التضامن الشعبي والالتفاف حول إيران في مواجهة العدوان الإسرائيلي أوصل رسالة إلى منظومة السلطة وهي أن بقاءها واستمرارها في موقع القيادة لن يكون من خارج الإرادة الشعبية، وهي الحقيقة التي اعترف بها المرشد الأعلى وجميع قيادات الدولة والمؤسسة العسكرية والأمنية، وأشار إليها منشور كبير مستشاري المرشد، وهي إرادة لا تلتقي في الغالب الأعم مع الرؤية الأيديولوجية للنظام، بل تنبع وتصدر عن رؤية وطنية وقومية ترفض أن تكون المحاسبة من الخارج أو بناء على أجندة خارجية، بل لا بد من أن تكون ترجمة لتوجه وإرادة داخلية.
وعلى رغم بروز هذه الإرادة لدى قيادة النظام العليا التي بدأت تجد تعبيراته العلنية والواضحة في مواقف رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان وكثير من المسؤولين الذين لم يكونوا يمتلكون الجرأة لمثل هذه المقاربات، لكن معركة المرشد والدولة لن تكون بالسهولة التي تمكنهما من إنجاز هذا التحول الداخلي الذي تضاف إليه سياسة الانفتاح على الحوار مع المجتمع الدولي والرغبة في التوصل إلى تفاهمات معه، وفتح الاقتصاد أمام الاستثمارات الأميركية بدعم من المرشد، لأن القوى والتيارات المتضررة من هذه المتغيرات لن تلتزم الصمت أو تعلن الاستسلام، فهي حتى الآن لم تتخل عن مطالبها بتطبيق “قانون الحجاب” على رغم تقديرات “المجلس الأعلى للأمن القومي” بخطورة ذلك، وهي تتمسك بخطابها الأيديولوجي الداعي إلى الحرب والمواجهة ورفض التفاوض وحتى الذهاب إلى عسكرة البرنامج النووي، ومن المتوقع أن ترتفع وتيرة المواجهة بين التوجهات الجديدة لمنظومة السلطة مع القوى المتشددة التي ستسعى إلى الدفاع عن مصالحها المتشعبة في العقوبات الاقتصادية التي تحولت إلى نعمة عليهم، وبإحداث قطيعة بين الشعب والنظام أو الأمة والسلطة، وتعميقها بما يضمن لهم البقاء ممسكين بمفاصل القرار، وفي الثقافة التي تضع النظام أمام تحدي الحفاظ على طابعه الأيديولوجي والعقائدي في مقابل مطالب الحريات الشخصية والفكرية والسياسية، إلا أن المؤشرات تكشف عن أن المسار الذي بدأ لن يتوقف، وهو على استعداد للقطيعة مع هذه الجماعات ومحاصرتها بما يضمن استمرار النظام ويعيد بناء قنوات الثقة بينه وبين المكونات الإيرانية كافة.