أحدثت أحداث السويداء ردود أفعال في سورية ولبنان. وهي ردود أفعال إعلامية وسياسية تعلن التخوّف من الحكم الجديد في سورية، مرّةً بداعي تطرّف النظام، ومرّة بالدعوة إلى تحالف الأقليّات. نظام أحمد الشرع باقٍ بدعم عربي ودولي. ولا داعي للهواجس والمخاوف والعودة لتجارب ثبت فشلها وضررها على الوطن والدولة.
عندما سقط نظام الأسد أواخر عام 2024، ما حسبتُ أنّ أحداً في المنطقة أسِف لسقوطه، ربّما باستثناء جماعات المحور الإيراني وأنصاره. وتردّد الطائفيون في العراق ولبنان لأنّهم صاروا يخشون فكرة حكم الأكثريّة، وهم يفضّلون عليها الذلّ والتذلّل واستمطار فضائل آل الأسد. وهم بهذا السلوك يفضّلون نظام المذابح على فكرة الدولتين المستقلّتين والمتعاونتين. كانوا يشكون مُرَّ الشكوى من عدم ترسيم الحدود ومن أساطير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا ومن كثرة اللاجئين السوريين، لكنّهم يتسابقون لزيارة الأسد ومعاونيه ولا يطلبون منه غير الرضا وتبويس اللحى!
بدلاً من التطلّع لما أنزلته الميليشيات التي ذهبت من لبنان لمساعدة الأسد ضدّ شعبه بالسوريّين وبسورية، راحوا يتبادلون الهمسات التي أطلقها بصوتٍ عالٍ الراحل حسن نصرالله بقوله إنّما ذهب إلى سورية لحماية المراقد والمزارات ولكي يمنع الإرهابيين من دخول لبنان(!).
متاعب النّظام الجديد
كنت أرى من زمان أنّه عندما يختلف “عقائديّو” الموارنة والشيعة تحدث الحرب الأهليّة، وعندما يتّفقون تنتهي الدولة وينهار النظام لأنّهم ينصرفون إلى تقاسُم الغنائم على حساب الوطن والدولة. وهذا الذي حصل بين 2006 و2024 عندما تحالف الجنرال عون مع حسن نصرالله.
راحوا بالآلاف إلى سورية لمقاتلة الشعب السوري واستولوا على مناطق شاسعة من سورية بعدما أجلوا عنها أهلها من ضاحية السيّدة زينب إلى القلمون وحمص وحلب ومدن الحدود العراقية في البوكمال والميادين.
حتّى الآن من بين 1,400 سجين سوري في لبنان ثلاثمئة محبوسون بتهمة معارضة النظام السوري، وكان الأمن العامّ وغيره قد سلّم المئات من السوريين إلى نظام الأسد بناءً على طلب النظام الساقط. وفجأةً عندما شاع أنّ نظام الشرع يطلب تسلُّم السجناء برزت فذلكات قانونية والحاجة إلى اتّفاقات للتسليم، بينما كانت الأجهزة الحريصة تعمل عند النظام السوري لخدمته بدون شورٍ ولا دستور.
بدلاً من التطلّع لما أنزلته الميليشيات التي ذهبت من لبنان لمساعدة الأسد ضدّ شعبه بالسوريّين وبسورية، راحوا يتبادلون الهمسات التي أطلقها بصوتٍ عالٍ حسن نصرالله
منذ عام 2013 وبعد غزو “الحزب” لبيروت عام 2008 أعلنت إيران أنّ “محور المقاومة” سيطر في أربع عواصم عربية هي: بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، فيا أيّها الغيارى على السيادة من “الحزب” ومن الإعلاميين أين كنتم وما هو موقفكم تجاه إعلانات السيادة والاستيلاء؟
نحن من جهتنا رأينا بعد أسبوع من هروب الأسد أنّ النظام الجديد حقّق إنجازين كبيرين: إرغام الأسد على الهروب وإزالة نظامه، وإرغام إيران وكلّ ميليشياتها على مغادرة سورية! وما منّا مَن لم يتوقّع أنّه ستحدث للنظام الجديد متاعب ما دامت شعاراته: استعادة وحدة سورية، واستعادة استقرارها، وإعادة الإعمار ونظام العيش والحياة الطبيعية. وكان الواضح أنّ النظام الجديد لا يريد الاصطدام بعشرات الآلاف من الضبّاط العلويّين الذين كانوا عماد جيش الأسد ونظامه، فانتشرت فكرة المصالحات. لكنّ من لم يستطِع الهرب من كبار العسكر والميليشيات (الوطنية!) حاولوا التمرّد فصارت فتنة الساحل التي جرت فيها مظالم على المدنيين، ينبغي المحاسبة بشأنها. وهذا الذي قرّره الشرع بتشكيل لجنة متابعة وتحقيق قدّمت تقريرها أخيراً والمطلوب إنفاذ الوعود.
ثمّ حدثت حادثة الكنيسة التي قام بها الدواعش. وكان المقصود التعبير عن عداء “داعش” للشّرع وحكمه، وأنّه غير قادرٍ على نشر الهدوء والانضباط. فكيف تتصاعد صرخات الاحتجاج في لبنان وسورية واتّهامات النظام بالداعشيّة؟ ويومها بدأت الأصوات التي تقول بطائفيّة النظام وإنّه لا بدّ من النظر في إمكان عودة التحالف مع “الحزب” لحماية المسيحيين في وجه الأكثرية السنّية الطائفية.
تحالف الأقلّيات (ضدّ السنّة) فكرة يحملها الرئيس اللبناني السابق ميشال عون منذ التسعينيّات، وكان يعني بها نظام الأسد (العلويّ) و”الحزب” (الشيعي) مع المسيحيين
بين الوحدة والتّقسيم
تحالف الأقلّيات (ضدّ السنّة) فكرة يحملها الرئيس اللبناني السابق ميشال عون منذ التسعينيّات، وكان يعني بها نظام الأسد (العلويّ) و”الحزب” (الشيعي) مع المسيحيين. وما كانت الفكرة غائبة حتّى تحضر. لكنّني أعترف أنّ عمق الإحساس الأقلّوي بالتوجّس والخوف واللجوء من أجل الحماية إلى أيّ جهة، هو إدراكٌ لا أستطيع متابعته إلى الآخِر. وأنا أقارنه بالإحساس بالظلم لدى السنّة من النظام واستيلاء الشيعة والعونيّين عليه وتخليد أبنائهم في السجون بحجّة الإرهاب، والآن المظالم اللاحقة بهم في التعيينات! بصراحة كلّ ذلك لا أستطيع فهمه أو التضامن الكبير معه. فالذي يصبر على نظام الأسدين وإدارة التوحّش في سورية ولبنان ليس من حقّه التظلّم نتيجة تعيين أو عدم تعيين هذا او ذاك أيّها الناس!
إنّ حدث السويداء مختلفٌ عن كلّ الأحداث السابقة في عهد الشرع. ففي السنوات الثلاث الأخيرة برز حكمت الهجري وشكّل ميليشيا وعاونه بعض الدروز في إسرائيل بمعرفةٍ من النظام هناك. ولأنّ مخابرات الأسد تعرف بذلك ما تدخّل جيشه لضرب التمرّد خشية التدخّل الإسرائيلي، وقد كان الإسرائيليون يغيرون في كلّ مكان بسورية بحجّة مكافحة الوجود الإيراني.
مع قيام حكم الشرع ازدادت الغارات الإسرائيلية على كلّ مكان في سورية وتجاوزت في عمليّاتها حدود فصل القوّات القائمة منذ عام 1974. لقد احتلّت قمّة جبل الشيخ واقتربت من دمشق. كان الخلاف واضحاً بين أميركا وإسرائيل لهذه الجهة. فالأميركيون تواصلوا مع حكومة الشرع، والرئيس ترامب التقى به في المملكة بتوسّط وليّ العهد السعودي، ورفع العقوبات عن سورية. ومن رأيهم أنّ بقاء سورية موحّدة يخدم الاستقرار بالمنطقة، بينما يريد الأوروبيون والدول المحيطة بسورية إنهاء مشكلة التهجير. في حين يريد الإسرائيليون تصعيد الضغط لتقسيم سورية. لقد حرّضوا الأكراد وحثّوا الهجري على التمرّد فعمد إلى الاصطدام بالبدو داخل السويداء وهبّ البدو في المحيط القريب والبعيد لنجدة إخوانهم وأعلنوا بشكلٍ استفزازيٍّ النفير العامّ. وسط الاشتباكات المتصاعدة كان على الشرع أن يتدخّل فاستغاث الدروز وأجابت إسرائيل بالتدخّلات الصاعقة المعروفة في السويداء وفي دمشق. أعلنت إسرائيل أنّها حامية الدروز، وقد تعلن عن قريب حماية الأكراد!
.. وما تغيّر الموقفان السعودي والأميركي من الحكم الجديد في سورية وكذلك تركيا. السعوديون أتوا إلى دمشق لاستثمارات هائلة، وتوم بارّاك جمع مسؤولين سوريّين وإسرائيليّين بباريس. وهكذا العرب والأميركيون والأوروبيون يراهنون على الاستقرار في سورية.
لن يصحّ غير الصحيح. حكم سورية الجديد باقٍ ويتمتّع بدعمٍ عربي ودولي. وتردّدات النظام الأسدي والعدوانية الإسرائيلية تتسبّب في عقبات وحوائل واضطرابات
دعم عربيّ ودوليّ
المزاج اللبناني متقلّب تحت وطأة الإعلام وهواجس ووساوس الأقليّات، وتخاذل السنّة اللبنانيين. إذاً عادت أوساط مسيحية بلبنان للتقرّب من “الحزب” وحتّى إعلان التضامن مع الدروز المتمرّدين على النظام السوري الجديد. تهدأ الاضطرابات في سورية، لكنّ الإعلام اللبناني يتفلسف في نشر الخطط الإسرائيلية لإسقاط النظام. لا أحد يقبل الحكم السوري الجديد في لبنان، تارةً لأنّه ذو أصول متطرّفة، وطوراً لأنّه سنّي أكثريّ.
إنّ الطريف أنّ رئيس الجمهورية جوزف عون كان هو الذي وجد نفسه مضطرّاً إلى التدخّل. ففي استقباله لمفتي الجمهورية عبداللطيف دريان يوم الخميس في 24/7/2025 قال الرئيس: لكلّ جماعةٍ لبنانيّةٍ قيمة مضافة تقدّمها للبنان، خصوصاً جماعة السنّة التي تعطيه قيمتين كبيرتين: الاعتدال في الداخل، وتأكيد انتماء لبنان إلى محيطه العربي! المطلوب من سنّة لبنان الثقة بأنفسهم ودورهم وعدم الاختفاء وراء أصابعهم الكليلة.
لن يصحّ غير الصحيح. حكم سورية الجديد باقٍ ويتمتّع بدعمٍ عربي ودولي. وتردّدات النظام الأسدي والعدوانية الإسرائيلية تتسبّب في عقبات وحوائل واضطرابات. والانقسامات التي حدثت أيّام بشّار الأسد لم تنتهِ ذيولها، لكنّها لا تغيّر من إمكانات الاستقرار والتقدّم، فلا يمكن أن تظلذ سورية عالقة تحت سيطرة القلّة الأوليغارشيّة خوفاً من “الوقوع” تحت تأثير حكم الأكثريّة. فلا بدّ من الانتهاء من حواديت أهل القلّة اللبنانية التي لا يعجبها العجب، وبخاصّة وهي مملوءة بالتذمّر الآن من تأمّلات توماس بارّاك ومبادرات الرئيس الفرنسي ماكرون.
أيّها المتوجّسون من سورية الجديدة، الذين قتلوكم وقتلونا طوال عقود هم الأسديون و”الحزب” المسلَّح. وعندكم تجارب مع حكومات الأقليّات ليس في سورية فقط، فلماذا هذه الطلعات الإعلامية والسياسية التي تبدأ ولا تنتهي. لا يمكن لسورية أن تخضع بعد اليوم لحكمٍ دمّرها، ومعظم الشعب السوري مع النظام الجديد. وأنا واثق أنّ علاقاته بلبنان ومسيحيّيه ومسيحيّي سورية ستكون أفضل بكثير من علاقات التبعية والرعب والموت التي كان الأسديون يمارسونها. فتحيّةً للدكتور سمير جعجع وتحيّةً للزعيم وليد جنبلاط اللذين أصغيا للمصالح العليا للبنان وسورية في هذه اللحظات الحاسمة في تاريخ البلدين، ولا بُدَّ دون الشَهد من إبَر النحلِ!