تواجه سوريا مرحلة دقيقة من التحول السياسي بعد سقوط نظام بشار الأسد، حيث تجد القيادة الانتقالية برئاسة أحمد الشرع نفسها أمام اختبارات متسارعة في مجالي الأمن والإدارة. وفي تقارير موسعة نشرتها كل من “وول ستريت جورنال” الأميركية، و”الغارديان” البريطانية، برزت مؤشرات واضحة على التعقيدات المرتبطة بإعادة بناء مؤسسة الدولة، لا سيما على صعيد إصلاح وهيكلة المؤسسة العسكرية، وسط تنامي مطالب مكونات رئيسة بإعادة النظر في شكل العلاقة مع السلطة المركزية.
انتقال السلطة وتسارع التحديات
وفي كانون الأول/ ديسمبر الماضي، دخل الشرع إلى دمشق بعد سقوط النظام السابق في غضون أقل من أسبوعين، بدعم من تحالف واسع ضمّ فصائل معارضة وفاعلين محليين. وسرعان ما أُعلن رئيساً انتقالياً، في خطوة نالت دعماً دولياً، لا سيما من الولايات المتحدة، التي أبدت، ثقة كبيرة في شخصه ورؤيته السياسية والعسكرية، ورافق ذلك رفع عدد من العقوبات الاقتصادية الأساسية، وفق “وول ستريت جورنال”.
لكن الاستقرار لم يُترجم فعلياً على الأرض، فقد شهدت البلاد في الأشهر الأولى من المرحلة الانتقالية، أحداث عنف طائفية خطيرة، ارتُكبت في الساحل السوري، وهو ما استدعى تشكيل لجنة تحقيق مستقلة، أشارت تقاريرها إلى تورط عناصر حكومية ومقاتلين أجانب في انتهاكات بحق مدنيين من الطائفة العلوية، رغم وجود أوامر رسمية صريحة بعدم استهداف المدنيين، وفق ما أكدته الصحيفتان.
جيش جديد بلا بنية متماسكة
وشكلت عملية توحيد الفصائل المسلحة ضمن إطار جيش وطني جديد، إحدى أبرز أولويات القيادة الانتقالية، غير أن تلك العملية، وفق “الغارديان”، افتقرت إلى أسس تنظيمية عادلة وشاملة، ونتج عنها اختلالات داخل المؤسسة العسكرية الوليدة.
فبينما سُمح لفصائل مدعومة من تركيا، مثل “الحمزات” و”العمشات”، بالاندماج بوصفها وحدات متكاملة تحت قياداتها السابقة – برغم خضوع بعض قادتها لعقوبات أميركية بسبب انتهاكات موثقة – طُلب من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، تفكيك هيكلها التنظيمي والانخراط بوصفها أفراداً فقط من دون تمثيل قيادي أو هيكلي.
ويرى مراقبون، وفق ” الغارديان”، أن هذه السياسة أسهمت في إضعاف الانسجام داخل المؤسسة العسكرية الجديدة، وأفرزت تفاوتاً في مستويات الانضباط والسيطرة، وأوجدت مناخاً من التوتر والقلق لدى شرائح اجتماعية رئيسة، بدأت تُطالب اليوم بصيغ لامركزية أو فدرالية لضمان حقوقها السياسية والأمنية.
هيكلة الجيش ضرورة
ووفق تقرير “وول ستريت جورنال”، فإن أحداث العنف التي شهدتها مناطق علوية ودرزية، وتورط عناصر حكومية فيها، تكشف حدود السيطرة القيادية داخل الجيش، وتؤكد الحاجة الملحة إلى إعادة هيكلة شاملة للمؤسسة العسكرية، تشمل إعادة تنظيم صفوف الجيش على أساس وطني ومهني، لا فصائلي أو مناطقي، وإخراج العناصر الأجنبية المتشددة التي دخلت البلاد بأجندات طائفية، وتوحيد منظومة القيادة وفصلها عن شبكات الولاء السابقة، وضمان التكافؤ والتمثيل المتوازن في كل مستويات القرار العسكري.
ويشدّد الباحث في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، السيد شراوي، في مقال رأي بالصحيفة، على أن “السلام الدائم لا يمكن تحقيقه عبر مكافأة من يتجاوز الأوامر، بل عبر هيكلة احترافية ومحاسبة واضحة تراعي العدالة والمسؤولية”.
مركزية دستورية تحت الاختبار
وبرغم أن الشرع كان قد أعلن قبيل توليه الحكم عن نيته إرساء نموذج سياسي تشاركي بعيد عن الحكم الفردي، إلا أن إقرار دستور مؤقت يمنحه صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية لمدة خمس سنوات، أثار تساؤلات داخلية ودولية بشأن مستقبل التوازن المؤسسي. ووفق “وول ستريت جورنال”، فإن هذا التركيز في السلطة أضعف ثقة بعض المكونات، ولا سيما الأكراد والدروز، بالعملية السياسية القائمة.
في هذا السياق، اعتبر السفير الأميركي السابق لدى دمشق راين كروكر، أن “إدارة محافظة مثل إدلب لا تُشبه إدارة دولة متعددة الأعراق والطوائف. الأمر يتطلب مقاربة عميقة وشاملة تختلف عن التجارب المحلية السابقة”.
دعم أميركي مشروط
وتواصل واشنطن تأكيد دعمها السياسي للمسار الانتقالي في سوريا، وقد شدد المبعوث الأميركي توم باراك على التزام بلاده برؤية جيش وطني موحد، بعيد عن الانقسامات الطائفية، بقوله: “لا يمكن أن يكون لدينا جيش تتمايز فيه القوات وفق الطائفة أو الانتماء. نحتاج إلى هيكل موحد يعبّر عن وحدة الدولة”.
لكن، في الوقت نفسه، تدعو أصوات أميركية بارزة، وفق “وول ستريت جورنال”، إلى ربط استمرار هذا الدعم بتنفيذ خطوات إصلاحية ملموسة في القطاع العسكري، تشمل محاسبة المسؤولين عن التجاوزات، وإعادة النظر في أساليب الدمج العسكري التي خلقت اختلالات تنظيمية وانعكاسات اجتماعية.
وتشير التطورات الميدانية والسياسية، إلى أن تثبيت الاستقرار في سوريا بعد مرحلة الأسد، لن يتحقق دون إصلاح جذري للمؤسسة العسكرية، يعيد صياغتها على أسس وطنية ومهنية شاملة. ومع تصاعد المطالب الفدرالية، وازدياد الضغط الشعبي والدولي لضمان تمثيل عادل في الحكم والأمن، تبدو إعادة هيكلة الجيش السوري الجديد حجر الزاوية في مستقبل المرحلة الانتقالية، وفي قدرة الحكومة على بناء دولة تحظى بثقة جميع مكوناتها، وفق “الغارديان”.