يمكن أن تشكّل الطبعة الجديدة لكتابٍ ما انطلاقة جديدة له، في شكل جديد أو بتقديم مختلف عن التقديم الأول. كما يمكن للطبعة الجديدة أن تكون منقّحة ومزيدة، كما يمكن أن تختلف عن الأولى بوضع تقديم أو مقدمة من طرف المؤلف نفسه أو من طرف مؤلّف آخر وجد نفسه قريبًا من الكتاب بعد قراءته له في طبعته السابقة. كما يمكن أن تأتي الطبعة الجديدة غنية ببيبليوغرافيا يكون هدفها تقديم مرجعية الكتاب. لكن لا يمكن للأمور أن تكون بهذه البساطة، إذا فكّرنا في التغييرات المحدَثة ليس في الشكل فقط، بل في محتوى النص. وبذلك تتميز الطبعة الجديدة ليس بكونها سحبًا جديدًا فقط، بل تميّزًا عن الطبعة السابقة في الكثير من العناصر.
ورغم ذلك فإن الاستعمال السائد يخلط بين نمطي تداول النص. ووجود مجموعة من المفاهيم المعادلة بهذا الشكل أو ذاك لا يزيد إلا تشويشًا في هذا المعجم المستعمَل. نفكر هنا في استعمالات علماء النص والمفهرسين: “طبعة جديدة”، “طبعة ثانية”، “طبعة جديدة مراجعة ومنقّحة”… إلخ. وإذا كانت أقلام الصحافيين تستعمل ببراءة هذه المفاهيم غير المحدّدة، فإنها غالبًا ما تكون مقصودة من طرف الناشرين، كما لاحظ جيرار جينيت: “هناك الأكثر غموضًا من استعمال كلمة “طبعة”، التي يمكن أن تتسع لتشمل كل النسخ من عمل مطبوع من طرف ناشر واحد (…) أو تتقلّص، كما يحب الناشر فعل ذلك لأغراض إشهارية، في كل دفعة من ألف أو خمسمائة نسخة في السحب الواحد” (عتبات، سوي، 1987).
ورغم أن الناشر يعتبر أن “طبعة جديدة” يمكنها أن تضفي نوعًا من الأهمية الرمزية على النص، إلا أنها تبقى في النهاية، خصوصًا بالنسبة لبعض القراء، مجرد “طبعة أخرى” من نص لم يعد موجودًا. لكن الناشر لا يمكنه أن يطبع من جديد كل نصّ متوفر بين يديه، فهو لا يستطيع إعادة طبع كل شيء، بما في ذلك هذا الذي “لم يعد موجودًا”. لكن هناك حقيقة ساطعة لا يمكن إطفاؤها، وتفيد أن إعادة طبع نصّ ما، بغض النظر عن الحقل الذي ينتمي إليه، لا يمكن تفسيرها فقط بالربح المالي أو النقدي الذي حققه الناشر في الطبعة السابقة. بل هناك في الاعتبار رمزية أدبية أو فكرية معينة لمسها الناشر هو الأول، ثم القارئ بعده، في النص الذي أعيد طبعه.
وسنعطي مثالًا في هذه المقالة بكتاب “ما وراء الأوهام” لعالم النفس والفيلسوف الإنساني إريش فروم (1900-1980)، بترجمة صلاح حاتم، وقد سبق لدار الحوار في سورية أن نشرته، في طبعة أولى، سنة 1994، ثم أعادت طبعه سنة 2025 بطبعة ثالثة وبغلاف جديد ومشرق قصد إعطاء طابع جيّد وجديد للكتاب.
الطبعات الثلاث لنفس الكتاب
إن حالة إعادة طبع كتاب إريش فروم ثلاث مرات في نفس الدار، ربما يضيف سببًا آخر لإعادة طبع الكتب بعيدًا عن الجانب المالي الذي يفيد الناشر بكل تأكيد، أو نفاد الطبعات الأولى من المكتبات. بل يمكن إرجاعه إلى السياق التاريخي. فربما الكتاب يجيب عن أسئلة آنية، وربما يفسّر ظاهرة أو سلوكًا، وربما قد يحتاجه القارئ وهو يخوض تجربة وجودية داخل مجتمع معقّد، وبين أناس غامضين من الناحية السلوكية.
من المعروف أن إريش فروم هو من أكبر الدارسين لنظريات ماركس وفرويد. ونجد أن جلّ كتبه لا تخلو من الإحالة عليهما. بل إنه ظل مشغولًا بمصير نظريات ماركس وفرويد، وهذا أمر يتبيّن في الفصل العاشر من كتابه “ما وراء الأوهام”، الذي عنونه بـ”المصير الآخر لنظريات ماركس وفرويد”. وبقدر ما ركزت هذه النظريات على المجتمع نجدها ضاعفت تركيزها على الفرد. وباهتمام إ. فروم على الفرد وتركيز الضوء عليه، لم يدَع سلوكه يفلت من غرباله. السلوك هو كل شيء داخل المجتمع. وأيّ شيء سيحدث هو نتيجة لهذا السلوك. وقد درسه في فصل من الكتاب تحت عنوان “الطبع الفردي والطبع الاجتماعي”. إن لقاء إ. فروم بماركس وفرويد مكّنه من فهم المجتمع والفرد الذي يعيش ويتصرف داخله، ومنهما استقى إمكانيات تقصي وتفسير ما أسماه “السلوكات اللاعقلانية” التي كانت تصدر عن الناس، في كل مكان، قبل الحرب العالمية الأولى. واستنتج أن هذه اللاعقلانيات هي التي أدت إلى ذلك السلوك اللاعقلاني الأعظم: “الحرب”. يمكن أن نقول إن إ. فروم عاش هستيريا الحرب وهو بعدُ صبيّ دون الرابعة عشرة قبل نشوب الحرب الفعلية. والكتاب، في هذه الحالة، مفيد لعقولنا اليوم، لأنه يقدم أجوبة عن تساؤلاتنا اليوم، ومبرّر طبعه من جديد قائمٌ ومعقول.
“الإنسان يعيش في الأوهام، حسب إريش فروم، فالأوهام وحدها تجعل آلام الحياة الواقعية محتملة”
رأى إ. فروم عند الناس سلوكات غريبة وعجيبة (نحن اليوم لا نراها عند الناس العاديين فقط بل عند رؤساء دول: ترامب، بوتين، نتنياهو، ماكرون، بشار الأسد، أحمد الشرع، كير ستارمر، فريدريك ميرتس…) فهاله أن يكون هؤلاء الناس قادرين على القيام بأي سلوك لا عقلاني. أليست سلوكات ترامب لا عقلانية؟ ألسنا على قناعة بأنه يمكن أن يقوم بأي سلوك لا عقلاني آخر؟ سيكون جواب إريش فروم ونحن معه: نعم. ليس القيام فقط بتلك السلوكات، بل إن لا شيء عقلانيًا يسوّغها.
نحن جميعًا اليوم نتعذّب مما يقع. نشاهد ونراقب ونتألم. اللاعقلانيات في كل مكان. فهل هناك حرب مدمّرة قادمة؟ وما محاولات تهدئة السلوكات اللاعقلانية والطباع الهائجة سوى تأجيل لها. إذًا، كل ذلك يفرض علينا، في الوطن العربي، تعزيز دراسات علم النفس في كل أسلاك التعليم، وإعادة قراءة ماركس، فرويد، فروم، بوبر، بورديو، الجابري، العروي، المرنيسي، شرابي، جعيط… لفهم القوانين التي تتحكم في حياة الفرد والمجتمع.
كان المستشرق الياباني نوتوهارا قد عاش بين العرب، في أغلب العواصم العربية، لمدة زمنية ناهزت ثلاثين سنة، ولخّص نفسية وعقلية العرب في جملته الشهيرة داخل كتابه “العرب رؤية يابانية”: “العرب مؤمنون جدًّا وفاسدون جدًّا”، واليوم يمكن أن نضيف: “وخائفون جدًّا”! وسيكون من الضروري، بعد قراءة كتاب “ما وراء الأوهام”: “وواهمون جدًا”، لأن الإنسان يعيش في الأوهام، حسب إريش فروم، فالأوهام وحدها تجعل آلام الحياة الواقعية محتملة. لقد نادى إ. فروم بضرورة تحرير الإنسان. ونحن نرى في ذلك صدى لنظرية كل من ماركس وفرويد. فلكي يغيّر الإنسان واقعه لا بدّ من تحقّق شرط التحرّر، بحيث تنتفي الحاجة إلى الأوهام. عندئذ يتحقّق التحرّر الاجتماعي عند ماركس والتحرر الفردي عند فرويد. أما فروم، باعتباره أخصائيًا في علم النفس الاجتماعي، فغايته التحرّر بنوعيه. إذًا، علينا أن نقرأ اليوم، نحن العرب، هذا العظيم إريش فروم. فشكرًا دار الحوار.