ربما كنت شاهدت مسرحية زياد «نزل السرور» في سينما أورلي في بيروت، لكنني، في الحياة، لم أكن شاهدته وجها لوجه. أول ما حصل ذلك كان في إذاعة لبنان، سنة 1976 على الأغلب، حين أتى من سَكنه في الشرقية، لينضم إلى فريق الشباب الذي مكنته الحركة الوطنية آنذاك من إدارة تلك الإذاعة. قال إنه سيشترك بفاصل يُبثّ يوميا، يكتبه ويقدّمه بنفسه. لم يكن قد انقضى يومان على ذلك حين أتى الردّ عليه . قُصفت الإذاعة، تلك التي لم نكن لنعرف ماذا نفعل كي نجذب اهتمام جمهور المستمعين إليها. في الأيام التالية أشعل فاصلٌ آخر له، النقاشَ بين شباب الأحزاب هؤلاء حول إن كان ينبغي استخدام الكلام الذي قاله بحق الخليج العربي. في الأيام التي تلت كان يشاع أن شوارع بيروت صارت تخلى من عابريها في وقت إذاعة كلمته. أما نحن، شبان الإذاعة المكلّفين بإدارتها، مؤقتا، فصرنا نكثر الذهاب إليها طالما أن زياد سيكون هناك.
كنت حاضرا بين أولئك الشباب، وإن بمهمة قليلة، أو من دون مهمة، وكان عليّ، لذلك، أن التقيه وأنا بين آخرين. وفي السنوات التي تلت، وهي كثيرة، بقيت ألتقيه بين أصدقاء هم أقرب إليه مني. وكانت تلك اللقاءات متفاوتة الطول والقصر. أقصر هذه اللقاءات كان يوم اندفعنا، أنا وهو، في صالة المركز الثقافي الروسي إلى العناق ثم تفرّقنا في زحمة الجمهور المستعجل الدخول إلى القاعة. أما أطولها فكان في إقامتنا معا، أنا وجوزيف سماحة، في منزل باريسي يخصّ صديقنا السينمائي الراحل مارون بغدادي. في اليوم الثاني أتى زياد، على غير اتفاق أو موعد، وإلى جانبه زوجته آنذاك، وقد دلّت الحقيبتان الكبيرتان إلى جانبهما أنهما جاءا للإقامة. كان علينا أن نعيد توزّعنا على الغرف، وأن نستمع إلى تعليقات زياد المتعلقة بذلك. كان نصيب زياد وزوجته أن يناما في الصالون، وحين اطمأن مارون إلى أن كل شيء على ما يرام قال لزياد: «بتعرف كيف بدك تطفي اللمبة قبل ما تنام؟» فأجابه زياد «أنا اللمبات بفكّْهن قبل النوم».
ومن مصادفات لقاءاتنا أننا عدنا مرة من باريس بطائرة ضخمة ليس فيها إلا أنا وزوجتي على مقعدين في مقدمة الطائرة وهو في أحد مقاعد الصفوف الأخيرة، ولا ركّاب في الطائرة سوانا. لا أدري الآن كيف أقلعت الطائرة بثلاثة ركاب فقط، بحضور طاقمها كله. طوال الرحلة كان هؤلاء، المضيفات منهم على الأخصّ، متجمعات حول زياد ما حرمنا من أن نحظى بخدمة استثنائية، بالنظر إلى ما ظنناه ان الخدمة سنحظى بها مركّزة، نحن القليلين.
وإذ رويت ذلك لرشا ابنتي، بادرت من فورها إلى سؤالي لماذا لا أدعو زياد إلى بيتنا، أو نذهب نحن إلى بيته. كانت في العاشرة ربما، وما تنبّهت إليه من رغبتها بحدوث ذلك هو أنني أجتمع معها في إعجابنا بشخص، أو فنان. في العادة أكون أنا قد كبرت عما يعجبها وهي أصغر من أن تتعلّق بما أحب الاستماع إليه. وهذا التوافق النادر في الذائقة لن يختص بنا وحدنا، بل هو ممتدّ إلى جيلها وجيلي. في أحيان أجد أن زياد يرجعني ولدا بتلاعبه، لا على الألفاظ فقط، بل على الأصوات، كما حين يقول متنمّرا «صار إلي… زابات ما شفت هالوجّ الحلو» هكذا بعبثية أن يخلط إسم إليزابات بتعبير «إلي زمان». اضحك وأروي ذلك لآخرين هم أصدقاء من عمري.
وكان قد استوقفني في إحدى أغانيه تساؤل مثل « فيه أمل؟ إيه في أمل، مرّات بيطلع من ملل». رأيت في معنى ذاك التساؤل شعريّة مساوية لما نقرأه لشعراء عالميين كبار. ولم ألبث أن عرفت أن كاتب الأغنية هو زياد، الذي لن يضمّ معي، هذه المرةّ، إلأ من كنّ في عمر ابنتي. أما نحن الكبار فكنا مسلّمين بأن تأثيره الواسع تخطّى التعلّق بقفشاته تلك، وبحوارات مسرحياته، التي ما زلنا نحفظها، وتردادنا لأغانيه التي فاجأت إحداها محمود درويش حين كنا نسمع معا أغنية «عاهدير البوسطة». قال لي محمود يومها متعجّبا كيف، وبأي شجاعة، دفع زياد أمّه إلى هذا الهرج (الجميل طبعا) فيما هي، في أذهان سامعيها، عالقة في مكان هو بين السماء والأرض.
كان التعلّق به شاملا إلى حد أنه في وقت غير قصير من زمن حروبنا جعل كلام اللبنانيين طالعا من تجاربه الكلامية، وكان قادرا على أن يُضحك متى شاء، لا أعرف إن كانت موهبة مثل هذه، مصاحَبة بمواهب كثيرة أخرى، سهلة الانطفاء، أو أن الزمن لكثرة ما بالغ في تخبّطه، سيكون قادرا على التخفيف من قوّتها.
كاتب لبناني