ملخص
على رغم دعم بريطانيا التاريخي لحل الدولتين، فإن الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين تأخر لأكثر من قرن بسبب تعقيدات سياسية وتوسع الاحتلال الإسرائيلي وغياب مفاوضات فاعلة، مما جعل الاعتراف خطوة رمزية أكثر منها واقعية حتى اليوم.
قرار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر الاعتراف بدولة فلسطين – ما لم توافق إسرائيل على وقف لإطلاق النار في قطاع غزة – يطرح سؤالاً بديهياً. ليس “لماذا؟” فعلى مدى عقود من الزمن ظل حل الدولتين الذي يقضي بقيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، سياسة متبعة لدى الحكومات البريطانية المتعاقبة، وحظي بتأييد غالبية أعضاء “مجلس العموم” البريطاني قبل 11 عاماً.
والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرح هو: لماذا استغرق اتخاذ القرار كل هذا الوقت؟ فالإعلان الصادر أمس الأربعاء (30 يوليو/ تموز)، عقب اجتماع طارئ لمجلس الوزراء، يؤكد أن بريطانيا التي باتت محبطة من استمرار الأزمة في غزة، وتلاشي فرص التوصل إلى حل الدولتين عبر التفاوض – ستعترف رسمياً بدولة فلسطين في سبتمبر (أيلول) المقبل.
وكثيراً ما اضطلعت بريطانيا بدور محوري في مرحلة ما قبل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني الراهن، بدءاً بـ”إعلان بلفور” الصادر عام 1917. ففي رسالة وجهها وزير الخارجية البريطاني آنذاك آرثر بلفور، إلى اللورد روتشيلد [المصرفي اليهودي البريطاني الذي عرف بدعمه للحركة الصهيونية]، تعهدت لندن بدعم إنشاء “وطن قومي للشعب اليهودي”، مما مهد فعلياً لقيام دولة إسرائيل لاحقاً.
ما رأي الفلسطينيين في قرار فرنسا الاعتراف بدولتهم؟
وبينما يرى كثير من الفلسطينيين عن حق في ذلك الإعلان سبباً جذرياً لما لحق بهم من معاناة، فإن “وعد بلفور” لم يكُن سوى مناورة دبلوماسية مبهمة، لم تصرح بوضوح بإنشاء دولة يهودية في فلسطين التي كانت حينها لا تزال جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. لكن تلك الأرض سرعان ما آلت إلى السيطرة البريطانية عقب انتصار الجنرال ألنبي على القوات العثمانية خلال “الحرب العالمية الأولى”.
علاوة على ذلك، نص “وعد بلفور” على أنه “لن يُتخذ أي إجراء من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين” – وهي طريقة غريبة لوصف السكان العرب الذين كانوا يشكلون الغالبية الساحقة آنذاك. ولم يوضح الإعلان كيف سيجري ضمان هذه الحماية.
ومع ذلك، فإن هذا لا يغير حقيقة أن الشرط لا يزال – بعد أكثر من قرن من الزمن – يمثل المهمة الكبرى التي لم يتمكن “إعلان بلفور” من إنجازها.
وفي نقلة سريعة إلى مايو (أيار) عام 1948، أدى إعلان أول رئيس لوزراء إسرائيل ديفيد بن غوريون عن قيام دولة مستقلة – بعد اتخاذ بريطانيا قراراً سريعاً بالتخلي عن السيطرة على الأراضي التي كلفت إدارتها من جانب “عصبة الأمم” عام 1920، فضلاً عن نجاح الجيش الإسرائيلي في الدفاع عن الدولة الجديدة ضد غزو قامت به خمس دول عربية مجاورة – إلى سيطرة الدولة الجديدة على نحو 78 في المئة مما كان يُعرف في السابق بـ”فلسطين الانتداب” التي كانت خاضعة للإدارة البريطانية.
من هنا يمكن القول إن “إعلان بلفور”، مع قرار الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين – إحداهما عربية والأخرى يهودية – أسسا لصراع طويل الأمد، لا تزال آثاره تترك ندوباً عميقة في منطقة الشرق الأوسط. لكن ما أعقب تلك المرحلة من تطورات، هو ما يفسر فعلياً لماذا لم يتحقق حتى اليوم الاعتراف الرسمي بدولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة.
فعلى مدى أكثر من نصف قرن، لم تتوقف الحكومات الغربية – بما فيها بريطانيا – عن إعلان دعمها لإنشاء دولة فلسطينية تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، غير أن حرب عام 1967، المعروفة بـ”حرب الأيام الستة”، شكلت نقطة تحول، إذ استولت إسرائيل خلالها على قطاع غزة من مصر، وعلى الضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن. وفيما دعا القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن الدولي إلى انسحاب إسرائيل في مقابل اعتراف الدول العربية بها، إلا أن الانسحاب والاعتراف لم يتحققا على الإطلاق.
وفي تلك المرحلة، كان الفلسطينيون ما زالوا يطمحون إلى تحقيق السيادة على كامل أراضي فلسطين التاريخية، بما فيها المناطق التي كانت أصبحت بالفعل منذ ما يقارب 20 عاماً، جزءاً من دولة إسرائيل والتي شهدت تهجير أكثر من 700 ألف فلسطيني في ما عرف لاحقاً بـ”النكبة”.
أما إسرائيل، فبدلاً من الانسحاب من الأراضي التي سيطرت عليها خلال الحروب، مضت في تعزيز وجودها عبر بناء مستوطنات واسعة النطاق، حتى بات أكثر من 620 ألف مستوطن إسرائيلي يعيشون اليوم في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وفي الآونة الأخيرة، أعرب بعض من أكثر أعضاء حكومة بنيامين نتنياهو تطرفاً عن رغبتهم في تنفيذ خطة مشابهة تقضي بإعادة توطين إسرائيليين داخل قطاع غزة.
وعام 1988، شهدت القيادة الفلسطينية تحولاً جذرياً في نهجها السياسي، لجهة ما عرف بـ”التسوية التاريخية”. فأعلنت “منظمة التحرير الفلسطينية” بقيادة ياسر عرفات تخليها عن المطالبة بكامل أراضي فلسطين التاريخية، واقتصرت طموحاتها على استعادة السيادة على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. ومنذ ذلك الحين، تمحورت جميع المفاوضات – من “اتفاق أوسلو” عام 1993، إلى محادثات “كامب ديفيد” عام 2000، وصولاً إلى التفاهمات السرية بين رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس – حول صيغة حل الدولتين، بحيث تعيش إسرائيل جنباً إلى جنب مع فلسطين.
وبعد هذه “التسوية التاريخية” بفترة قصيرة، سارعت 78 دولة إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية الجديدة. واليوم، ارتفع عدد الدول التي أعلنت اعترافها الرسمي بفلسطين إلى 147.
وفي وقت سابق من هذا الشهر – وبعد أكثر من عقد على اعتراف السويد كأول دولة في الاتحاد الأوروبي بفلسطين، في خطوة حذت حذوها كل من إيرلندا وإسبانيا والنرويج العام الماضي – أصبح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أول زعيم دولة من “مجموعة الـدول السبع”، يتعهد بالسعي إلى الاعتراف بدولة فلسطين في “الجمعية العمومية للأمم المتحدة” في سبتمبر المقبل.
لكن، كما يؤكد بحق منتقدو هذا الاعتراف بصورة متكررة، فإن الاعتراف بدولة فلسطين التي تضم الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، يظل مسألة نظرية في الأساس لأنه وسط غياب عملية سلام ناجحة، لا توجد دولة يمكن الاعتراف بها.
وعلى رغم أن السلطة الفلسطينية حصلت عام 2012 على صفة “مراقب” في الأمم المتحدة – على غرار ما منح للفاتيكان، فإنها لا تمتلك حق التصويت. كما أن الولايات المتحدة استخدمت باستمرار حقها في النقض (فيتو) لتعطيل مساعي منح فلسطين عضوية كاملة في المنظمة الدولية. وحتى في أبريل (نيسان) الماضي، امتنعت بريطانيا عن التصويت على قرار في مجلس الأمن يدعو إلى قبول فلسطين عضواً في منظمة الأمم المتحدة.
مع ذلك، فإن خطوة فرنسا التي مهدت لإعلان كير ستارمر اليوم عما يشبه “خريطة طريق”، بعد محادثات أجراها مع الرئيس إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس – لا تُعد نقلة شكلية، بل إنها تعكس تصاعد الغضب الدولي من حجم المجازر والمجاعة التي تسببت بها إسرائيل في غزة، رداً على الهجمات الدامية التي نفذتها حركة “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023 والتي أسفرت عن مقتل 1200 إسرائيلي وأسر 251 شخصاً. ويقال إن ماكرون تأثر على نحو خاص بشهادات ناجين فلسطينيين التقاهم خلال زيارته لمصر في أبريل الماضي.
في المقابل، فإن انضمام فرنسا إلى السعودية في رعاية قمة الأمم المتحدة في نيويورك بهدف إحياء مفاوضات حل الدولتين، يبعث برسالة سياسية واضحة إلى القيادة الإسرائيلية. كما يذكّر بأن الرياض كانت تعهدت منذ عام 2002 بالاعتراف بإسرائيل – كما فعلت مصر والأردن من قبل – لكن بشرط أن توافق على العودة لحدود ما قبل عام 1967.
يبقى السؤال: هل يحدث اعتراف بريطانيا المتأخر بدولة فلسطين فارقاً فعلياً؟ من المؤكد أنه سيعزز موقف الذين يأملون في تغيير الحسابات السياسية في واشنطن، كما أنه يشكل خطوة نحو الاعتراف بالدور التاريخي الذي اضطلعت به المملكة المتحدة ومسؤوليتها في المنطقة. ولا يسعنا إلا أن نأمل في أن يسهم ذلك في الدفع نحو حل صراع طال أمده، ولم تكُن مآسي غزة من مجازر ودمار وتجويع، إلا آخر فصوله الكارثية وربما أكثرها فداحة.