لم يكن ينقص الظرف السوري الهش إلا واقعة قتل تحت التعذيب في أحد الفروع الأمنية للدلالة على خطورة المرحلة التي تمرّ بها سورية، والتي تحتاج تحرّكات سريعة وحاسمة من القيادة الجديدة، واعترافٍ بأن هناك عواراً جسيماً في تركيبة الأجهزة الأمنية التي جمعت كيفما اتفق من فصائل، كانت إلى الأمس متنازعة، ومتطوّعين لم يجرَ تأهيلهم كفاية للعمل في الميدان الأمني أو العسكري.
والتأهيل هنا ليس في ما يتعلق بالتدريبات العسكرية والانضباط السلوكي داخل المؤسّسة الأمنية، بل باستراتيجية التعامل مع المجتمع في المرحلة الجديدة. وللمناسبة، لم تصدُر هذه الاستراتيجية واضحة، فالحديث عن الانقلاب على ممارسات النظام السابق، وإعلاء حقوق المواطنين، تنقضه السلوكيات التي يقوم بها كثيرون من أفراد الأمن. والكلام هنا ليس عما شهده الساحل أو السويداء، بل عن وقائع حدثت في دمشق وريفها وبعض المدن السورية الأخرى، وكان جديدها أخيراً قضية مقتل الشاب يوسف لباد تحت التعذيب.
ثلاث روايات متناقضة صدرت عن “مصادر مسؤولة” في وزارة الداخلية السورية: الأولى تحدثت عن معاناة الشاب مرضاً نفسياً وانتحاره في الزنزانة بعدما أذى نفسه. والثانية عن وفاته إثر جرعة زائدة من المخدّرات. والثالثة أبقت الأمر في إطار “الظروف الغامضة”. الروايات الثلاث تدحضها الأيام الأخيرة التي عاشها الشاب منذ عودته من ألمانيا للاستقرار في بلاده “المحرّرة”، وهو ما دفع وزيري الداخلية والعدل إلى التعهد بالتحقيق في الواقعة ومحاسبة الفاعلين.
ولعل الأزمة الكبرى في كل الأحداث في سورية غياب هذه المحاسبة، وتحديداً العلنية. فرغم كل الصور والفيديوهات التي انتشرت للانتهاكات في الساحل والسويداء، وظهر فيها مسلحون تابعون لوزارة الدفاع يقتلون وينكلون بمواطنين، فإن أياً من هؤلاء لم يظهر معتقلاً، ولم تعلن وزارة الدفاع أو الداخلية أنها أوقفت جنوداً أو قادة فصائل كانوا مشاركين في هذه الانتهاكات. بعض المسؤولين في الوزارتين يتحدّثون “خارج الهواء” عن توقيف عدة عناصر أمنية، لكن ذلك لم يصدر رسمياً في إعلان أو بيان، على الرغم من أهميته، لذا تبقى حقيقته في دائرة الشك.
لا نريد أن نشك في أن القيادة السورية الجديدة لا ترغب في تحقيق هذه المحاسبة، لذا من المفترض أن تبدأ بخطوات فعلية لتطبيقها، وخطوات أخرى لضمان عدم تكرار الانتهاكات والاعتداءات الطائفية وغيرها. لتكن قضية ضحية التعذيب اليوم الخطوة الأولى، ولتخرُج نتائج التحقيق علناً، ولتسمَّ الأمور بمسمّياتها، وليحاسب الفاعلون وفق مسار قانوني شفاف وعلني. على أن تتبع هذه الخطوة محاسبات أخرى، خصوصاً أن لجنة تقصّي الحقائق في مجازر الساحل سلمت تقريرها إلى الرئيس السوري أحمد الشرع، وإن كانت لم تدرج بالنسخة المخصصة للإعلام أسماء مرتكبي المجازر، إلا أن ما تسلّمه الشرع تضمن أسماء أكثر من 350 شخصاً ضالعين في الجرائم التي ارتُكبت في الساحل، بانتظار مساءلتهم ومحاسبتهم.
الخطوة التالية المنتظرة من السلطات الجديدة هي الإقرار بأن هناك أزمة في تركيبة الأجهزة الأمنية وأن سلسلة القيادة والأوامر غير واضحة، وأن تحويل عناصر مليشيات إلى جنود نظاميين في جيش دولة ليس ناجحاً، وأن هناك حاجة إلى حلٍّ جذري لإعادة بناء قوى أمنية نظامية، تتبع لهيكلية وتراتبية واضحة، والبدء بالقيام بذلك، قبل أن تصبح الجرائم والانتهاكات الطائفية سمة موصومة بالأجهزة الرسمية.
من الواضح أن اهتمام القيادة السورية الجديدة منصبٌّ على الخارج وإصلاح العلاقات مع الغرب في مسعى إلى رفع العقوبات والدخول في انتعاش اقتصادي. لكن هذا لن يكون مفيداً في غياب هيكل الدولة ومؤسّساتها والأمن والعدالة والشفافية، فالاقتصاد لا يمنع الحروب الأهلية، بل ربما يكون سبباً فيها.