انتصرت فييتنام على الولايات المتحدة، وأفغانستان انتصرت عليها أيضًا. حزب الله انتصر على إسرائيل مرتين. وإيران تدعي أنها انتصرت على العالم كله. لكن هذه القوى جميعها وقعت بعد الانتصار في موقع من يناضل بكل جهده لكي يبقى، البقاء لا أكثر ولا أقل. فييتنام لم تجد بدًا فيما بعد من مسايرة الإمبراطورية التي هزمتها. سعت لأن تكون مصنعها، خادمها التقني، عاملها الذي لا يطلب أجرًا زائدًا. وبهذه الطريقة نجحت في البقاء. الانتصار، أي انتصار في العصر الحديث يبدو كما لو أنه مجرد شعور يعتنقه المنتصر لكن أحدًا غيره لا يشعر به أو يوافق على حيثياته. بوسعك أن تظن أنك منتصر بدليل أنك تعلن خطابًا منتصرًا وغير منثنٍ. لكنك في حقيقة الأمر ستكون تكلم نفسك كمصاب بانفصام الشخصية. لا أحد غيرك يعتقد أنك منتصر، والأرجح، في حالة الدول والقوى المذكورة سابقًا، إذا استثنينا منها فييتنام، فإن أحدًا لا ينتبه لكونك تلقي خطابًا منتصرًا، ليس ثمة من ينتبه لوجودك أصلًا. ذلك أن انتصارك وضعك حرفيًا خارج مسار التاريخ.
مع ذلك يجدر بنا أن نتذكر أن هذه الشعوب والدول قاتلت و”انتصرت” لأنها شعرت بالغبن أو تضرّرت من الاعتداءات المتكررة عليها. من حقها طبعًا أن تشعر بالزهو والفخر لأنها قاتلت قوى أعتى منها وأشد قوة. لكنها بالتأكيد لن تنجح في تجاوز هذين الشعورين إلى ما يمكن اعتباره إنجازًا ملموسًا. والمشكلة لا تكمن كلها في حقيقة أن القوى “المستكبرة” أو “الكبرى” لا تمنح الضعيف فرصة للحياة. بل ثمة جانب آخر يجدر بنا ملاحظته وقراءته بتمعن، ويتعلق بفكرتنا عن تحقيق الإنجاز. نحن ما زلنا ننظر إلى الانتصار بوصفه الإنجاز الأكبر، وكان حريًا بنا أن ننظر إلى النجاة بوصفها الإنجاز الأكبر. المسألة تتعلق بحسابات بسيطة أولًا: العدو قادر فعلًا على إبادتك، لكنك تتخذ من دمك مادة لإدانته، وتتخذ من خطابك الذي يلي محاولة الإبادة أو الاعتداء، دليلًا على أنك ما زلت موجودًا. إنما ماذا لو كان خطابك لا يدعي نصرًا بل يعلن نجاة؟ النصر كقيمة تاريخية، يفترض أن المنتصر يستطيع بعد تحقيق انتصاره أن ينعم بحياة أرغد من حياة المهزوم. أن يفرض عليه شروطًا في الاقتصاد والاجتماع والثقافة، أن يجبره على دفع جزية مثلًا. وهذا كله لم يتحقق في أي انتصار من هذه الانتصارات. جل ما حدث أن المنتصرين نجحوا في رفض الشروط التي يحاول المهزوم فرضها، حتى وهو مهزوم.
“لو كانت حروبنا ونضالاتنا تهدف إلى تحقيق النجاة، لكنّا في حلّ من هذه الرغبة بالانتقام بوصفها دليل قوتنا وجبروتنا وسلطتنا على العدو والخصم”
ورغم هزيمته إلا أن خطاب المنتصر كان دائمًا يشكو من الحصار الذي يفرضه المهزوم على المنتصر، وهذا يخالف قيمة الانتصار التاريخية برمتها. لكن الخطاب الذي يعدّ النجاة هدفًا بديلاً للنصر، قد يكون قادرًا مرة أخرى على إعادة إحياء نوع من المقاومة يطالب بأن تُؤخذ مصائر هؤلاء الناجين بالاعتبار، وأن يُنظر إلى مستقبلهم بوصفه مسألة تهم المهزوم وتهم المنتصر في الوقت نفسه.
الأرجح أن إصرارنا على تبني قيمة النصر هدفًا لأي نزاع، هو ما جعل دمنا رخيصًا إلى هذا الحد الذي نعاينه اليوم. فأن نسعى لتسمية نجاتنا، أو نجاة من تبقى منا، بالنصر، يعني أننا لن نتردد في خوض حروب إبادة على خصومنا وأعدائنا إن سنحت لنا الفرصة. ذلك أن النصر في الحال التي وصلنا إليها لا يتحقق فعلاً إلا بالإبادة. مع ذلك نحن نشهر سلاحًا أثبت فعاليته على مدى عقود بنسب متفاوتة، يتعلق بإدانة الإبادة التي يمارسها العدو. كأننا نقول إن حيواتنا ثمينة، حتى بالنسبة للعدو نفسه، وعليه أن يحافظ عليها. لكننا حين نخوض حروبنا الداخلية والخارجية، أيضًا، لا نتردد في محاولة الإبادة والإخضاع على نحو يستهين بحيوات الناس ومصائرهم، ومصائر عائلاتهم، ومدنهم، وأرزاقهم. ذلك أن النصر الذي نسعى لتحقيقه لا يتحقق إلا بفرض مثل هذا الإخضاع الواضح على الخصم والعدو في آن.
لو كانت حروبنا ونضالاتنا تهدف إلى تحقيق النجاة، لكنا في حل من هذه الرغبة بالانتقام بوصفها دليل قوتنا وجبروتنا وسلطتنا على العدو والخصم. وتاليًا كنا نستطيع أن نعيد حساباتنا على نحو أفضل، ونجعل من مستقبل من ندافع عنهم مسألة حيوية تقرر حقًا إن كنا نجونا أم انتصرنا.
في هذه الحال أقف مع قيمة النجاة بوصفها قيمة تملك حقي في أن أصنع مستقبلًا مشرقًا لي بعد أي حرب، ولا أحبذ وقوف أي كان مع قيمة النصر بوصفها قيمة تفترض أنني سأبذل كل ما أملك، بما فيها نفسي، من أجل إيلام العدو لا من أجل تخفيف الألم عمن أدافع عنهم.
النجاة لا النصر، هذا ما يجدر بي النضال من أجله وله.