كانت وفاة زياد الرحباني مناسبة جديدة للدلالة على العلاقة المتناقضة بين الحزب الشيوعي و”حزب الله”: حب من طرف الحزب الشيوعي وكراهية من طرف “حزب الله”.
وكان زياد قد لاحظ في مقابلة تلفزيونية ان الحزب الشيوعي هو حليف لحزب الله لكن هذا الأخير لا يتعامل معه كحليف. وفي سياق الكلام عن الاغتيالات التي طالت مفكرين شيوعيين، واتهم فيها حزب الله، تساءل زياد لماذا لا يبادر السيد حسن نصرالله إلى قول كلمة طيبة بحق الشيوعيين، فيغيّر رأي “مليون” شخص من أتباعه باتجاه إيجابي؟ ويستنتج انه على ما يبدو، نصرالله لا يريد ذلك، ربما لضغوطات عليه، وليس لرغبة في نفسه. فلطالما أعطى زياد انطباعًا انه يميّز نصرالله عن حزبه.
بعد وفاة زياد بأيام قليلة نُشر مقال في جريدة “الأخبار” التابعة لحزب الله، يتهجم فيه كاتبه على أمين عام الحزب الشيوعي حنا غريب بطريقة مغرضة من دون أن يوضح سبب تهجمه أو يرفقه بنقد موضوعي له أو لحزبه. وتبعه في اليوم التالي مقال آخر لكاتب آخر بنفس المنحى. مما آثار استياءً عارمًا عند أعضاء من الحزب الشيوعي الذين طالبوا الجريدة بالاعتذار، مذكّرين ان هذه الجريدة هي في الأساس جريدة الحزب الشيوعي قبل ان يتملكها “حزب الله”، وعليه بالتالي استرجاعها.
العلاقة بين الحزبين بدأت دموية، بعد تأسيس “حزب الله” بسنوات قليلة، أكان ذلك من خلال اتهام “حزب الله” باغتيال قيادات شيوعية، أو من خلال تهميش لا بل إقصاء “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” بالقوة والتي كان يقودها الشيوعيون، لصالح “المقاومة الاسلامية” التي يقودها حزب الله. وقد تم ذلك بدعم مباشر من نظام الأسد ومن النظام الإيراني. مع الوقت “طبّع” الحزب الشيوعي مع الواقع الجديد وراح يدافع أو يبرر الكثير من مواقف وممارسات حزب الله، من دون أن يخلو ذلك من بعض الانتقادات الهامشية على المستوى الاقتصادي والسياسي.
قد يبدو مستغربًا هذا التقارب بين الحزبين، ليس فقط نتيجة السوابق الدموية، بل نتيجة المقارنة بين عقيدتي الحزبين المختلفتين لحد التناقض: حزب مذهبي-ديني يؤمن باللأمة الاسلامية وبولاية الفقيه وحزب عابر للطوائف يؤمن بصراع الطبقات داخل الأوطان والأمم، كما ان عقيدته الماركسية، بجذورها المادية، تفترض الالحاد. فمن اين جاء هذا التقارب وعلى الأصح لماذا تقرّب الحزب الشيوعي من حزب الله؟
لا أزعم على الإطلاق الإطلاع على “مطبخ” القرارات في الحزب الشيوعي وما في داخله من اتجاهات وصراعات يُحكى عن بعضها في وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي. ما اسلسله أدناه هو تحليل شخصي مستند إلى مجموعة فرضيات، بعضها متداول وبعضها الآخر أقل تداولًا وربما مُستحدثًا.
١ـ الفرضية الأسهل والأقرب إلى مسلمات الذهنية اللبنانية، والأكثر تداولًا، ان في الحزب الشيوعي “عملاء” لحزب الله، أو يتقاضون المال منه وهم يؤثرون في قرارته. ترتبط بها فرضية أخرى تحكي عن “انتهازية” حزبية تريد الاستفادة من التقارب مع حزب الله لكسب مواقع نيابية أو ما شابه.
٢ـ الفرضية الثانية هي ان التقارب هو نتيجة طبيعية للعداء لاسرائيل ولإعتبار ان مقاومتها هي أولوية الأولويات. وهذه الفرضية تستند إلى مقولة إعطاء الأفضلية للتناقض الرئيسي (العداء لاسرائيل) على التناقض الثانوي (مواجهة مشكلات الداخل). مع ان هذه المقولة متناقضة مع التحليل الماركسي، كما بيّنت في مقالة حديثة نشرتها في “النهار”.
٣ـ الفرضية الثالثة تعتمد على التحليل السوسيولوجي الذي يرى ان أكثرية أعضاء الحزب الشيوعي هم اليوم من الشيعة وهم يتأثرون بالاتجاهات العامة في البيئة الشيعية التي توالي حزب الله. وهذا التفسير السوسيولوجي يساعد بدوره على تفهم تبني هدف مقاومة اسرائيل كأولوية مطلقة عند طائفة معينة محاذية للحدود مع اسرائيل. كما انه يتقاطع مع تفسيرات أخرى سيكولوجية يشترك فيها الحزبان من مثل: تحوّل الفكر الماركسي- اللينيني الى ما يشبه الدين بالنسبة للحزب الشيوعي؛ تبني نظرة واحدة للبنية التنظيمية الحزبية الحديدية ولمركزيتها المتشددة؛ عبادة الزعيم أو الأمين العام في الحزبين.
٤ـ لا تصلح الفرضيات السوسيولوجية والسيكولوجية، من دون فرضية خامسة الا وهي ان الحزب الشيوعي لم يعد عابرًا للطوائف وللمذاهب لا في تركيبته ولا في القضايا التي يتبناها ويناضل من أجلها. فنلاحظ مسايرته لحزب الله رغم تمايزه عنه، في موضوع انتفاضة ١٧ تشرين وتفجير المرفأ وتعطيل المؤسسات الدستورية. كما ان تأثيره في هيئات المجتمع المدني، النقابية والنسائية والطلابية وغيرها تراجع كثيرًا، ولم يعد يمتلك إلا الشعارات في مواجهة التحولات المجتمعية.
وهذا التراجع هو بالتحديد ما يفقده القدرة على الحفاظ على استقلاليته وتمايزه وعدم التحاقه بحزب الله بالشكل الحاصل اليوم، ما يسمح لحزب الله باستضعافه والتهجم عليه. لاسيما انه يبقى رغم ضعفه، الخصم الأول له ولحركة أمل في أوساط البيئة الشيعية، وهذه الخصومة ليست فقط انتخابية، بل في صميم النظرة الى الانسان والمرأة والمجتمع والاقتصاد والسياسة.
تشير نظرية التنافر المعرفي، التي وضعها ليون فيستنجر، إلى أن الناس يشعرون بعدم الراحة عندما تتناقض معتقداتهم مع أفعالهم. هذا التنافر يولد حالة من التوتر النفسي، مما يدفع الأفراد إلى محاولة تقليله من خلال تغيير سلوكهم أو معتقداتهم.
افترض ان الحزب الشيوعي، مثله مثل أحزاب أخرى ومواطنين، إختبروا هذا التنافر المعرفي نتيجة خضوعهم للهيمنة العسكرية لحزب الله واضطرارهم الى تغيير سلوكهم وافعالهم، مما خلق بداخلهم توتراً نفسياً ادى إلى تعديل معتقداتهم بما يتلاءم اكثر مع تصرفاتهم.
نسمع كثيرا من بعض أعضاء الحزب الشيوعي الى ان الحزب بحاجة إلى مراجعة شاملة لخياراته ولسياساته وحتى لإسمه. وربما حان الوقت لإجراء هذه المراجعة بعد انكسار الهيمنة العسكرية لحزب الله عليه وعلى كافة اللبنانيين.