في زمنٍ تكثر فيه الأسئلة حول مصير الثقافة العربيّة، يطلُّ على وزارة الثقافة اللبنانيّة رجلٌ لم يأتِ من هامش الكتب، بل من صميمها. رجلٌ خاض تجربة الدبلوماسيّة وسط تناقضات دوليّة، وصاغ المعنى في أروقة الجامعات، ثم اختار العودة إلى لبنان وزيرًا للثقافة، لا ليُكمل شكلاً تقليديًّا، بل ليخوض مغامرة التجديد. إنّه غسان سلامة، الذي تولّى المنصب للمرّة الثانية في شباط 2025، وأرجو أن يكون، بما راكم من تجربة وبموقفه الذي أظهره، جديرًا بما لا يُؤمَّل من أحدٍ غيره.
لم أكتب هذه الكلمات من منبر المجاملة، بل من موقع مثقّفٍ يؤمن بأنّ الفعل الثقافي يمكن أن يكون جادًّا ومثمرًا في هذا الشرق المنهك. فالنشر العربي، على سبيل المثال، لا يعيش أزمة إنتاج بقدر ما يعيش أزمة توزيع. مؤلَّفات جادّة تُطبع وتُغلَّف، لكنّها قلّما تصل إلى القارئ، في حين تغلب على معارض الكتب أعمال تجاريّة سطحيّة، أغلبها مترجَم بآليّات ركيكة، فتقمع بذلك الكتاب الجادّ وتُقصي الأصوات الجديدة. أمام هذه الحال، أرى أنّ الدعم المالي المباشر أصبح عبئًا، وأنّ الحلّ يكمن في مبادرة أكثر فاعليّة، كإنشاء شركة توزيع تجمع القطاعين العام والخاص، تُعنى بتسويق الكتاب العربي محليًّا وعالميًّا، بعيدًا عن الريوع، وبما يعيد الاعتبار إلى القيمة لا إلى العلاقات.
ولا يقلّ تعقيدًا ملفّ حريّة الإبداع. تابعت باهتمامٍ تصريحات معالي الوزير حول رفع سقف الحريّة الفنّيّة مع “ضبط ما يستحقّ الضبط”. هذه العبارة تفتح بابًا للأسئلة، لا لأنّني أعارض الضبط، بل لأنّ التجارب المريرة السابقة علّمتني أنّ الضوابط الفضفاضة سرعان ما تتحوّل إلى رقابة أيديولوجيّة أو سياسيّة، تُقصي المثقّف المستقلّ لصالح من يروّج لخطاب السلطة. لذلك، فإنّ أيّ ضبط، كي يكون مشروعًا، لا بدّ أن يصدر عن هيئات فنّيّة مستقلّة تضمّ نقّادًا وكتّابًا معروفين بنزاهتهم، لا معيّنين وفق مفاتيح الزبائنيّة. فالإبداع لا يُضبط إلا بالجودة، لا بالولاء.
أمّا الدور الاستراتيجي للثقافة، فقد ظلّ غائبًا، أو مُغيَّبًا، في معظم السياسات الثقافيّة العربيّة، حيث تقتصر الجهود على تنظيم المهرجانات والأنشطة، في حين تُهمَل الثقافة بوصفها ساحةً للصراع الحضاري ومنصّةً للتنوير المعرفي. أرى ضرورة إعادة تعريف دور الوزارة، بحيث لا تكون ديكورًا وطنيًّا، بل قوّة اقتراحٍ وفعل. ومن هنا، أطالب بدمج العلوم الحديثة في المعارض، لا كإكسسوارات معرفيّة، بل كجزءٍ من الهويّة الثقافيّة. وأدعو إلى إطلاق صندوق وطني مستقلّ لدعم الترجمة من العربيّة وإليها، يسدّ الفجوة الخطيرة في نقل المعرفة، ويُسهم في نشر الفكر العربي الجادّ بدل الاكتفاء بالشكوى من “تشويه صورتنا” دون تقديم بدائل.
أدرك تمامًا أنّ الوزارة ليست سلطة تنفيذيّة شاملة، وأنّها تعمل في ظروف سياسيّة واقتصاديّة خانقة. لكنّني أؤمن أنّ غسان سلامة، بحكم تجربته الفريدة، قادرٌ على أن يكرّس شرعيّة ثقافيّة جديدة، لا تقوم على الاحتفاليّة، بل على المعنى. فهو لم يكن يومًا موظّفًا في مؤسّسة، بل كان بنّاء مؤسّسات: من تأسيسه لمدرسة باريس للشؤون الدوليّة، إلى رئاسته للبعثة الأمميّة في ليبيا، إلى مواقفه الرافضة للخضوع للضغوط الخارجيّة، حين اختار الاستقالة بدل التواطؤ.
أكتب إليكم لا لأطلب وظيفة، ولا منحة، ولا تكريمًا، بل لأنّني أؤمن، رغم كلّ شيء، بأنّ للثقافة أنيابًا إن لامستها إرادة التغيير. أكتب لأنّ المثقّف لا يجب أن يظلّ متفرّجًا، ولا الوزير مراقبًا. أكتب لأنّ هذا الوطن، الذي يشهد انهيارات متتالية، لا يمكن أن يُرمَّم إلا من جذوره المعنويّة، من لغته، وذاكرته، وإبداعه، لا من واجهاته الإسمنتيّة.
كلّي أملٌ أن تعود بيروت إلى لعب دورها الحضاري، لا بوصفها ذاكرةً رومانسيّة، بل كقوّة فكريّة حقيقيّة، وأن تصبح وزارتكم اليوم منصّة انطلاق، لا مرآة تكرار، وأن يصبح الحديث عن ثورة ثقافيّة في العالم العربي جزءًا من فعلٍ حكومي، لا مجرّد خطابٍ طيّبٍ في المحافل.